السيدة وفاء جرار، الأسيرة والجريحة، زوجة الأسير عبدالجبار جرار، هذه المرأة الصابرة المجاهدة، التي دفعت ضريبة الاحتلال أيامًا وسنوات من عمرها، فربت أربعة من أولادها وحدها، فزوجها لا يغادر سجنه وزنزانته، إلا ليدخلها ثانية، تدفع اليوم ضريبة مضاعفة، فتُبتر قدماها وهي في " جيب" الاعتقال، مكبلة اليدين، إذ تعرضت لإصابة بالغة في العمود الفقري والقدمين،وتكسر في الضلوع وكدمات في الرئة والتهاب في الدم، ولا تزال في العناية المكثفة في مستشفى العفولة.
هذه المرأة التي تعرفها شوارع جنين وطولكرم جيدًا، وألفتها بيوت الشهداء وأمهاتهم، بعد أن أسست رابطة شهداء جنين، الحاصلة على الماجستير في اللغة العربية، الأم الفاضلة، والمرشحة للمجلس التشريعي، يحرمها الاحتلال قدميها، كما حرم عشرات الآلاف من أطفال غزة، هذا هو وجه الاحتلال الذي يعرفه أهل فلسطين جيدًا، وكان خفي عن العالم فقط!
وفاء جرار: من الاعتقال إلى غرفة الانعاش
اعتقلت يوم الثلاثاء في 21 أيار/ مايو 2024 الجاري، الأسيرة الجريحة وفاء نايف جرار، تبلغ من العمر 50 عامًا، من حي المراح في جنين بعد مداهمة منزلها، وتحطيم محتوياته، والاعتداء على أفراد عائلتها بالضرب، ومصادرة ذهبها. كما أصيبت عقب انفجار عبوة ناسفة بآلية للاحتلال بعد عدة ساعات من اعتقالها، ونقلت إلى مشفى العفولة الاحتلالي في حيفا المحتلة كما أفادت المصادر يوم الثلاثاء، وقد أعلن اليوم عن وضع حالتها الصحية؛ إذ فقدت جرار كلا قدميها، بحسب ما قاله أحد أبنائها، وما تزال في العناية المكثفة بعد نقلها مستشفى “العفولة” الإسرائيلي، وهي منوّمة تحت تأثير التخدير بعد أن خضعت يوم أمس لعملية جراحية في قدميها، كما أعلن نادي الأسير الفلسطيمي اليوم الجمعة. وبعد صورة CT أجريت لجرار اليوم، تبين أنها تعاني من عدة إصابات في جسدها منها إصابة في العمود الفقري، وكدمات في الرأي وتكسّر في الضلوع والتهاب في الدم.
وتُعرف وفاء جرار في كل فلسطين، ومنطقة الشمال على وجه الخصوص، أنها من مؤسسات تجمع أمهات الشهداء في جنين وشمال الضفة الغربية، وهو تجمع أنشئ باعتباره حاضنة اجتماعية يجمع في بوتقته عائلات الشهداء والأسرى لأهداف وغايات من أهمها التكافل والتكاتف اجتماعيًا وعاطفيًا ووطنيًا، وكانت جرار من أبرز النسوة اللواتي قمن على إنشاء الرابطة؛ إذ تزور أمهات الشهداء وتقدم واجب العزاء والدعم المعنوي لهن مع باقية النساء في الرابطة. تقول في مقابلة أجرتها "بنفسج" معها في 8 آذار/ مارس 2022: "أخذت على عاتقي أن لا أترك أم شهيد أو أسير أو زوجة شهيد أو أسير إلا وأكون سندًا لها ولأبنائها، أشعرهم جميعًا أني ومن حولي نشاركهم وندعمهم ونفهمهم ..".
وفاء جرار: الأسيرة وزوجة الأسير
وفاء جرار، زوجة الأسير عبدالجبار جرار، المعتقل الإداري الذي أمضى اكثر من 15 عاماً في سجون الاحتلال، ومرشحة انتخابات المجلس التشريعي عن قائمة "القدس موعدنا" التي كان من المزمع إجراؤها عام 2021. نذكر وفاء جرار، في مقابلة سابقة أجرتها بنفسج وهي تصف واقعة اعتقال زوجها عبد الجبار، وكأن الاحتلال يكرر معها نفس الحادثة بعد إصابتها الخطيرة أثناء الاعتقال، مع عدم معرفة ملابساتها بالكامل. إذ تقول: "عند اعتقاله ضربوه، ضربوا رأسه مرارًا بالجيب العسكري، حتى نفر دمه في الأجواء، لم أستطع مساعدته، وقفت عاجزة، وقد كنت أحاول انتزاع ولدي منهم كذلك ولكنني لم أتمكن، فأخذوه من بين يدي".
32 سنة من الزواج قضى منها زوجي 15 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي
تعرف وفاء نفسها فتقول: "أنا وفاء جرار، ناشطة اجتماعية وسياسية، مرشحة عن قائمة القدس موعدنا، عن محافظة جنين، زوجة المجاهد عبد الجبار من جنين المعتقل، لدي ولدان حذيفة وأمجد وبنتان هما تقوى وزيتونة. تعرفت إلى زوجي في المساجد، كنت صغيرة أنذاك.
تقدم لخطبتي ورفض أهلي بسبب صغر سني، قبل مرحلة الثانوية، بعد إلحاح شديد تم كتب الكتاب وأنا ابنة 15 عامًا، وتزوجت بعد 11 شهرًا في شباط 1990. جلس معي قبل ذلك وحدثني عن جهاده ومسلك حياته النضالي، وقبلت مشاركته مسيرته الجهادية، وكان بحمدلله زواجًا سعيدًا بفضل الله تعالى.
32 سنة من الزواج اعتقل منها 15 عامًا، إذ حرم من أبنائه فترات طويلة، وكان لذلك وقع كبير على نفوسهم. وأوقع على عاتقي مسؤولية كبيرة، اعتقل أول مرة وأنا في عمر 18 عاما. وكنت أمًا لطفلين بدون أب. كانت مسؤوليتي كبيرة كوني أمًا لأطفال والدهم معتقل وغائب. كان حذيفة عامان، وتقوى لا زالت بعمر أشهر.
سبب ذلك إشكاليات كبيرة وواجهت صعوبات من أكبرها سؤال حذيفة عن أبيه، أين أبي؟ أريد الحلويات التي يأتي بها بابا؟ بدي بابا. كان مصرًا جدًا في سؤاله عن والده. لم أستطع تلبية احتياجه لأبيه بأي شكل، احتياجه للحب والحنان الذي يعطيه الأب، وكبر أمجد وزاد سؤاله عنه هو أيضًا. لم يكن أمجد يستطع الكلام إلا كلمتي بابا وماما. كان يبحث عن والده ليلا. عرضته على كل الأطباء، وقالوا إن حالة نفسية أصابته.
كل اعتقال كان أصعب من الذي قبله، لم يكن مرور العمر يسهل الأمر، ولا يوجد اعتياد على الأسر
لما خرج أباه من السجن واختبأ ورائي، ثم بدأ بالكلام خلال أسبوع. نغص علينا الاحتلال أجمل لحظات حياتنا. يوم زفاف حذيفة الفرحة الوحيدة التي يشاركنا فيها زوجي، تعمد الاحتلال اعتقاله فترة الزفاف فقط. الاحتلال سبب شتاتتا...نسأل الله أن يغير حالنا إلى أفضل حال.كل اعتقال كان أصعب من الذي قبله، لم يكن مرور العمر يسهل الأمر، ولا يوجد اعتياد على الأسر، الإنسان لديه طاقة جسدية ونفسية تنفذ مع الوقت، وزوجي مريض بالضغط والسكر والديسك لم يعد شابا يتحمل التحقيق والأسر".
في رابطة أمهات الشهداء والأسرى
تعتبر وفاء من مؤسسات رابطة أمهات الشهداء والأسرى، تدعم وتؤازر من رحم تجربتها ومعاناتها، فهي تعلم تماما معنى فقد الأب والزوج، وكانت تعلم يقينًا أن واجبها الوقوف إلى جانبهن، وكانت خير من يفعل ذلك، تقول وفاء: "كنت دومًا أحتاج من يقف بجانبي في محنتي المتكررة وقت اعتقال زوجي، ينصحني ويشاركني همومي، يهوّن علي ويمسح على جرحي، ويتعاطف معي، كان هناك البعض ممن فعلوا ذلك بالطبع، ولا أنسى فضل أحد، ولكن كانت مبادرات شخصية، تهب أحياناً وتخبو أخرى، لذلك قررت أن أكون من يغير المعادلة .. أن أكون " فاقد الشيء .. ومن يعطيه بسخاء "، وأن أكون ومن معي بلسمًا لجراح الناس الذين يعيشون ما عشناه ونعيشه تكرارًا ومرارًا".
بدأت الحكاية مع السيدة وفاء جرار أم حذيفة، زوجة لأسير دون إجازة من أسره، فالأسير الخمسيني عبد الجبار جرار من جنين لم يزل في رحلة عذاب مستمرة بين ذهاب وإياب من وإلى السجن حتى وهو في هذا العمر، أما عن وفاء جرار الأربعينية، فلها من اسمها كل نصيب وفيةً لزوجها ولعهدها معه.
تقول جرار: "المرأة الفلسطينية تمر بحالات فقد وألم كبير، ولكن لطالما كنا نراها بصورة المرأة القوية الصلبة، هؤلاء النسوة يحاولن أن لا يفتحن للفئة السلبية من المجتمع باب اللوم والانتقاص في حال أظهرن ضعفهن، كأن يقولوا: "خلي جوزك يقعد ليش سامحتيله ينحبس.. مش أنت اخترتي تكوني زوجة أو أم شهيد هذه الضريبة اتحمليها .. وغيرها من الكلمات".
خلف هذه القوة هناك ضعف وألم وحاجة كبيرة للمواساة والتخفيف والتطبيب، وأنا من تجربتي الشخصية أعلم ذلك تمام العلم، لذلك أخذت على عاتقي أن لا أترك أم شهيد أو أسير أو زوجة شهيد أو أسير إلا وأكون سندًا لها ولأبنائها ، أشعرهم جميعًا أني ومن حولي نشاركهم وندعمهم ونفهمهمن."
"قررت أن أكون من يغير المعادلة .. أن أكون " فاقد الشيء .. ومن يعطيه بسخاء"
من هنا لمعت فكرة الرابطة التي لم تكن تسمى بهذا الاسم في عقل أم حذيفة، ولم تكن تعلم لحظتها أن من سيرافقنها في ما بعد كثيرات وفي ازدياد يومًا بعد يوم. بدأت السيدة وفاء مشوارها مع صديقتها أم اسامة قبها على نفقتهن الخاصة، وبعد أن كبرت الرابطة كان لا بد من مصدر مادي للانفاق على تحركات الرابطة، تقول أم حذيفة: "يوجد لدينا صندوق صغير باسم الرابطة، تضع فيه كل منا مبلغًا بما يتناسب مع قدرتها، وهو ما ننفق منه على مواصلاتنا، فنحن مجرد نساء فلسطينيات ذقنا جراحًا كثيرة، وكنا بلسمًا لبعضنا البعض دون خلفيات سياسية أو ألوان".
هذه لمحة بسيطة مكثفة عن حياة وفاء جرار ومسيرتها النضالية، فهي أسوة بالنساء الفلسطينيات المجاهدات، أم محمد فرحات، وأم إبراهين الرنتيسي وأم عاصف، وأم أمجد القواسمي، وغيرهن الكثيرات، يعلم الاحتلال أنهن حاضنة لا تلبث تنجب الأبطال، ولا يكتفين بذلك، فهن حاضنة النضال الفلسطيني وحضنها الذي لن ينضب.