شكّل السابع من اكتوبر 2023 انقلابًا في الوعي والإدراك فيما يخص القضية الفلسطينية، بوصفها قضية تحرر ونضال ضد احتلال صهيوني احلالي استعماري استيطاني، وأعاد البوصلة إلى ما ينبغي أن تكون عليه المواجهة الحقيقية بين شعب محتَّل مقاوم ومستعمر فاشي عنصري، وعادت القضية لتحتل مكانة مركزية على جدول الأعمال الدولي نتيجة صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته من جهة، وبشاعة الجرائم الإسرائيلية المتواصلة وحروب الإبادة المستعرة من جهة أخرى.
طوفان الأقصى: التدعيات العالمية والمناصرة الشعبية

كشف الطوفان النفاق الدولي وازدواجية المعايير التي ذهبت حد محاولة إعادة صياغة قواعد الحرب في القانون الدولي بما يخدم الصهاينة، وتزيّف حق الدفاع عن النفس وصار حقًا للمحتَل لا المحتل، وتحطمت شعارات الحريات والمساواة والديموقراطية وحقوق الإنسان، وشهد العالم ردة لعصور التوحش وبتنا شهداء على مقتلة حقيقية لكل ما تعارف عليه العالم من قيم وأعراف ومواثيق وقوانين ومبادئ استنفرت أحرار العالم للخروج للشوارع والتظاهر؛ ليس فقط حبا لغزة أو تضامنًا مع شعبها الذي يواجه حرب إبادة وتطهير عرقي غير مسبوقة في فظاعتها، وإنما نصرةً لقيم الحرية والعدالة وحفاظًا على قداسة المنجزات الإنسانية التي ناضل الإنسان في مختلف جغرافيات العالم كثيرًا لتحقيقها، وتذكيرًا لهذه الشعوب أن المعركة واحدة وأنهم شركاء في النضال ضد الهيمنة الأمريكية والمركزية الغربية.
هشّم الطوفان السردية الصهيونية التي تسيدت لعقود في الغرب، وقلب الطاولة عليهم وقلب معها موازينهم وتوازنهم وكشف وحشتيهم التي لطالما أُلبست زورًا وبهتانًا ثوب الحضارة المزيفة، وأضحت المقاومة الفلسطينية قبلة لحركات التضامن العالمية التي تلتف حولها الجماهير الحرة في العالم، معظمة بذلك الوعي بقيم العدالة والحرية مقابل العنصرية الفاشية الوحشية وضد التسلط والهيمنة والمركزية الامريكية والغربية.
ومن المهم أن نلحظ تصاعد دور الفلسطينيين في أوروبا والولايات المتحدة خاصة الشباب الذين وجدوا في المشاركة في هذا النضال ضد حرب الإبادة فرصة للتأكيد على هويتهم الوطنية رافضين شيطنة الفلسطينين وتصوير نضالهم على إنه إرهاب وتسويق النظر لهم على أنهم "حيوانات بشرية" كما جاء على لسان وزير الحرب الإسرائيلي.
إن استمرار حرب الإبادة على غزة هذه المدة الطويلة وفشل إسرائيل وحلفائها في حسم المعركة في فترة قصيرة نتيجة الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، والأداء الاستثنائي لمقاومته الباسلة التي لا تزال تبهر العالم، وتستدعي ردة الفعل الواسعة في أوساط الدول الغربية تحديدًا والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
صحيح أن حركة التضامن مع فلسطين شهدت تصاعدًا لافتًا خلال العقد الأخير غير أنه خلال هذه الحرب حصل تحول نوعي في اتساع التضامن وكثافته وجرأته، واستعداد المتضاميين لتحدي اتهامات (اللاسامية). بل أن الانتفاضة الطلابية المساندة للشعب الفلسطيني والتي تعم الولايات المتحدة ودول العالم لم تشهد القضية الفلسطينية مثيلًا لها منذ 76 عامًا. لقد اكتسبت هذه الحراكات أهمية استراتيجية لقضية فلسطين. يحصل هذا التطور النوعي في ظل مرحلة تبين فيها أن إسرائيل عاجزة عن مواصلة الحرب دون دعم هذه الدول.
التضامن الشعبي العالمي مع فلسطين: استثمار الحالة

أمام هذا المشهد ومع تعاظم التظاهرات المناهضة للاحتلال والسياسات الداعمة له، والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار وحملات الإبادة المستعرة والتطهير العرقي وجرائم الحرب المتواصلة في قطاع غزة، وأمام تنامي حراكات تأييد حقوق الشعب الفلسطيني في مختلف جغرافيات العالم وخصوصا الغربية منها؛ رغم سياسات التقييد والحظر والترهيب والتحريض والضغوط الإعلامية والأمنية.
ومع توقع تصاعد الزخم المتضامن مع الشعب الفلسطيني والمناهض لحرب الإبادة، وانخراط أوساط وفئات جديدة تزيد من التنوع الحاصل في المشهد، كل ذلك يفرض علينا طرح سؤال كيفية استثمار التفاعل الجماهيري الواسع عبر العالم مع قضية فلسطين بحيث لا تذهب تضحيات الشعب الفلسطيني ومقاومته سدى، وكيف يمكن لهذه التحركات التضامنية أن تكون رافدًا لنضال شعبنا الفلسطيني حتى استعادة حريته وسيادته على أرضه.
وكيف يمكن لهذه التحركات أن تتحول إلى قوة سياسية منظمة مركزة مكثفة مؤثرة في الرأي العام العالمي قادرة على الضغط على دولها وتغيير سياساتها المنحازة لإسرائيل، وتحقيق أوسع تضامن شعبي عالمي لدعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وتحقيق العدالة في فلسطين.هذا السؤال الذي تتصدى هذه الورقة للإجابة عنه بالدعوة إلى تشكيل التحالف الشعبي العالمي لمناهضة الاحتلال والتضامن مع فلسطين.
التحالف: الفكرة والمبررات

أظهرت التحركات الجماهيرية والحراكات المصاحبة لها مستويين من التفاعل الأول؛ يدخل في خانة التفاعل الآني مع الحدث الملتهب وحرب الإبادة المستعرة، والسؤال هنا كيف يمكن تحويل هذا التفاعل الآني إلى تفاعل دائم مع القضية. والمستوى الثاني كان بالإفاقة التي أحدثها الطوفان للجماهير المنتفضة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وخاصة الشباب، والسؤال هنا كيف نحتضن هذه الجموع الجديدة الوافدة للقضية وتحويلها لتحالف يناهض الاحتلال الصهيوني، ويساند الشعب الفلسطيني في نضاله التحرري منه.
من هنا نشأت الحاجة إلى الدعوة إلى تشكيل التحالف الشعبي العالمي لمناهضة الاحتلال والتضامن مع فلسطين بحيث يضم قطاعات السياسة والاقتصاد والأكاديميا والفن والثقافة والأدب...
مبررات التحالف

1️⃣تواصل حرب الإبادة والتطهير العرقي وجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني.
2️⃣انكشاف طبيعة الاحتلال ووحشيته التي ألبست زورًا ثوب الحضارة المزيف
3️⃣اكتشاف تناقضات سردية العدوان وزيف الرواية.
4️⃣اعتبار السياسات المنحازة للاحتلال تحديًا لقيم ومبادئ الإنسانية وخذلان للحقوق والعدالة الإنسانية.
5️⃣الجرأة في تحدي السرديات الداعمة للاحتلال رغم التحريض والتقييد.
6️⃣تنامي الوعي بالقضية الفلسطينية وتراكم التضامن مع الشعب الفلسطيني.
7️⃣تزايد نشاط المؤسسات والشخصيات الفاعلة في مختلف الجغرافيات والتحاق أوساط جديدة بمشهد التضامن.
مستويات التضامن المتوقعة
يمكن للتحالف أن يأخذ صورًا مختلفة في مناهضته للاحتلال و(أو) تضامنه مع الشعب الفلسطيني:
1️⃣الاعتراض على جرائم الحرب التي يقترفها الاحتلال لكن دون إظهار معارضة صريحة للاحتلال ذاته.
2️⃣مناهضة الاحتلال واعتراض على السياسات الداعمة له.
3️⃣مناهضة للاحتلال وإظهار تضامن مع الشعب الفلسطيني لكن من موقع الضحية.
4️⃣إظهار تضامن مع الشعب الفلسطيني وتفهم لنضاله ومقاومته المشروعة ضد الاحتلال.
رغم التدرج في مستويات مناهضة الاحتلال أو إبداء التضامن مع الشعب الفلسطيني إلا أنها جميعا تشترك في مناهضة حرب الإبادة الجارية وتطالب بوقف فوري للنار وهي حالة ضاغطة على الاحتلال وداعميه في الدول الغربية.
مهمة التحالف

1️⃣إظهار التضامن والمساندة مع الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرب إبادة غير مسبوقة.
2️⃣السعي لكسب مزيد من الدعم لنضال الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة.
3️⃣التصدي لدعاية الاحتلال والمساهمة في نزع المصداقية عن السرديات الداعمة له.
4️⃣الضغط على السياسات المنحازة للاحتلال ونقدها ومساءلتها.
5️⃣تشجيع الجهود القانونية والحقوقية في ملاحقة الاحتلال وداعميه وعزله دوليًا.
6️⃣الضغط على شركات ومصالح وعلامات تجارية ضالعة بدعم الاحتلال.
الجهات التي يمكن أن تنضوي تحت التحالف
جميع الشخصيات والجهات والتشكيلات والأطر المناهضة للاحتلال ومنها:
1️⃣منظمات إنسانية وتجمعات شبابية.
2️⃣قوى سياسية وحزبية ونقابية.
3️⃣أطر تتضامن مع فلسطين أو تتبنى مواقفًا تضامنية.
4️⃣حركات معبرة عن شعوب عانت الإبادة والعنصرية.
5️⃣ناشطون ومنصات شبكية.
6️⃣تشكيلات يهودية مناهضة للصهيونية.
ختامًا

نحن أمام لحظة تاريخية فاصلة في تحديد مستقبل القضية الفلسطينية، محطة مختلفة في التدافع والاشتباك. غزة اليوم تصدر للعالم وعيًا وتعيد تعريف قيم الحرية والعدالة والنضال والتحرير، وتجمع أحرار العالم حول قيم الإنسانية. لقد فتح الطوفان الباب واسعًا لاستنفار طاقات شعوب العالم واستثمار فرص التفاف الجماهير المنتفضة حول قضية فلسطين، بوصفها قضية تحرر ونضال ضد احتلال صهيوني استعماري استيطاني احلالي فاشي عنصري.
نحن أمام فرصة حقيقية لعزل الكيان الصهيوني وإعادة تعريفه بما هو أصل فيه، كيان متوحش متغطرس على كل الأعراف والمواثيق الدولية والقيم الإنسانية. هي فرصة للشعب الفلسطيني في الخارج أن يلتحم فعلا بالملحمة التي يسطرها شطره الآخر في الداخل ويبرز دورًا نضاليًا لطالما أريد له الاندثار، هذا الباب مفتوحٌ اليوم لنبادر في تجميع الجهود وتوحيد الأهداف وننطلق مع أحرار العالم لتحقيق العدالة في فلسطين.
[1] اعتمدت هذه الورقة التي قدمتها الدكتورة سائدة أبو البهاء كمخرج لملتقى الحوار الوطني الفلسطيني الذي أقيم في إسطنبول 2024