بنفسج

11 يومــًا فقط... بين فراق الأب والأم وفراق الزوج

الإثنين 05 اغسطس

كان الجو باردًا كعادة ديسمبر، لكنها لم تكن ترتجف من البرد، بل كانت ترتجف قلقًا  على عائلتها، وحرارة جسدها ترتفع ونبضات فؤادها تخبرها أن شيء ما يلوح بالأفق، فقدت طمأنيتها والقلب يرتجف، والروح تختنق، تجزم أن إحساسها لا يكذب، وإذ بإشعار على هاتفها المحمول يخرجها من حالة التيه يُكتب فيه "استهداف عند مسجد الغانم".. أي بالقرب من منزل أهلها، وثم يعج الخبر على شاشات التلفزة "قصف منزل جهاد حجاج شبير"، فكانت الصدمة كبيرة والدها الذي تحب، يُذكر اسمه كما كان يحب تمامًا بالكامل، ولكنه شهيدٌ مغدور تحت ركام بيته هو وزوجته وباقي العائلة.

كيف يستوعب المرء أن يفقد الأم والأب دفعة واحدة. ضربة تصيب الإنسان في مقتل ولكنها احتسبت وصبرت، وساندها زوجها لتخطي ألم الفراق، ولكنها امتحنت للمرة الثانية في أعز ما تملك أيضًا ليستشهد زوجها الذي كان يصبرها على استشهاد والديها بعد أيام قليلة.

إن القصص الموجعة لأهل غزة كثيرة، وكل منهم نال منه الوجع ما ناله، ضيفة بنفسج هبة جهاد شبير فقدت في حرب الإبادة الجماعية والدتها ووالدها وزوجها وبضع أفراد من العائلة، تخبرنا بضع حكايات عن الأهل والزوج والنزوح.

استشهاد الأم والأب بيوم واحد

استشهاد الأم والأب في يوم واحد.jpg

تحكي لبنفسج عن يوم قصف منزل والدها: "استيقظت في صباح الرابع من ديسمبر بوخزة بالقلب، كنتُ قلقة على عائلتي جدًا حتى جاء آذان العصر وإذ بالأخبار تورد خبر استهداف منزل أهلي، لم أستوعب الخبر أبدًا، وكان صدمتي كبيرة". كان قاسيًا على هبة أن تفقد عمود بيتهم والدها، وسند البيت والدتها، عاشت حالة من عدم التصديق، إلى أين ستركض حين تضيق بها الدنيا! أين ستذهب حين تشعر أن الأماكن لا تناسبها! على قدم من ستجلس لتطبطب على رأسها لتبكي كالأطفال في لحظاتها العصيبة فقد فقدت حبيبتها ومستودع أسرارها الأول والدتها.تقول: "في القصف الغادر استشهد كل من أبي وأمي وزوجة خالي وبناتها وزوجة ابنها وأطفالها، وأصيب أخي محمد وأحمد الذي اعتقل وهو مصاب من مشفى ناصر وما زال قيد الاعتقال".

لم يسمح لهبة أن تحزن كما ينبغي فقد نزحت خمس مرات والآن هي نازحة في مواصي خانيونس، نجت من الموت مرات عديدة ففي أول مرة قصف المنزل المجاور لمنزلها وهو خال من السكان؛ إذ لم يكن صاحبه انتهى من تشطيبه، فانهال ركام منزلهم عليهم من قوة الغارة، ومن رأى المشهد وحال البيت وقتها يقول: "كيف طلعتوا منها أحياء والله الصاروخ وقع كأنو برميل متفجر من قوة الضربة".تضيف لبنفسج: "غادرنا البيت المدمر جزئيًا وقتها، ثم عدنا في الهدنة المؤقتة التي كانت في نوفمبر المنصرم، وبقينا حتى الثاني من ديسمبر حين قصفت أبراج حمد، فخضنا رحلة نزوح ثانية، ولم تكن الأخيرة إذ ما زلنا ننزح من مكان لمكان من وقتها لحتى الآن".

نزوح مستمر يحول دون رفاهية الحزن 

نزوح مستمر يحول دون رفاهية الحزن.jpg

كان لهبة رفيق درب حنون، تقسم أنها لم تر مثله، فقد كان نعم السند يطبطب على قلبها المقهور بحديثه الهادئ  ويقول لي: "إذا الشهادة ما لاقت إلهم لمين حتليق والله بيستاهلوها هما مش من أهل الدنيا، الجنة بتلبقلهم"، فتسكن روحها ويهدأ فؤادها حتى جاء اليوم الذي هدمت الدنيا من جديد فوق رأسها، خرج زوجها عاصم من البيت ولم يعد وما زالت تنتظر عودته حتى الآن.

أحد عشر يومًا كان الفارق بين الفقد الأول والثاني، لم تستوعب بعد الفراق الأول، كيف ستصمد وتظل واقفة وقد ذهب السند الباق، ألم جديد ولم يبرأ الأول بعد، فلم يكن منها إلا أن تحتسب وتصبر لتقول في سرها في لحظات الوادع: "سلم على أبويا وإمي سلم على كل الأحباب". وكما رأت اسم والدها على الشاشات بخبر عاجل قرأت اسم زوجها على الجزيرة "استشهاد الصحافي عاصم كمال موسى".. فما كان من دموعها إلا إعلان عصيانها لتسقط من جديد على فراق حبيب آخر. تقول: "فقدت أعز ثلاثة على قلبي فراق إمي وأبويا كسرني وفراق عاصم هد حيلي والله".

 في وداع أبو البنات

في وداع أبو البنات.jpg

ترك عاصم في أمانة هبة  حور وريتا، ليكونا نور لها في الأيام الكاحلة، لتتمسك بالحياة لأجلهن فقط، لترى وجهه البشوش في وجوههن، كان يسميهم مثلث الحب ويحمد الله على نعمة أن يكون أبو البنات.لم تسلب "إسرائيل" من حور وريتا والدهن فحسب، بل سلبت أحلامهن في تشكيل لوحة العائلة السعيدة، وهدمت المنزل والذكريات والأحلام التي خطط لها عاصم برفقة هبة، فقدا البيت الذي لم يسكناه إلا عام واحد، ودُفنت كل الذكريات القديمة.

تردف لبنفسج: "كانت أجمل صدفة في حياتي تعرفي على عاصم، التقينا صدفة في ورشة للعمل التطوعي في إحدى الجمعيات الشبابية، فدخل قلبي منذ النظرة الأولى، فكان هو دعائي المستجاب الذي رزقني الله إياه فتزوجنا في العام 2016، ومنذ ذلك اليوم وحتى استشهاده كان رجلًا حنونًا تقيًا نقيًا".

إن ألم الفقد باق ولا يطيب، يحرق قلب هبة كل يوم، تتألم من اشتياقها للراحلين، وتدعو الله كل يوم أن يجمعها بالأحبة في القريب العاجل، وتظل تردد في كل سجود: "يارب كما جمعتني بعاصم زوجًا وحبيبًا في الدنيا أجمعني به زوجًا وحبيبًا في الجنة".