"خليكي قوية.. مصعب استشهد".. لم يكن يومًا شقيق الروح فحسب بل كان أبًا وسندًا متينًا، في ظل اعتقال الوالد الذي قضى عشر سنوات من عمره في الأسر وربما يزيد، كبرا معًا وخاضا معترك الحياة سويًا، كبرت على وجهه، حتى صارت عروس فكان وليها وسلمها لزوجها في إسطنبول، لم يكن خبر استشهاد الرفيق الحياتي الأول هيّن على تسنيم، لاح طيف وجهه أمامها وهو يقول: "أنا بدي اجي عندك بتركيا". فما كان منها إلا القول: "والله بدري يا مصعب بدري".
ماذا يعني أن تستقبل موت شقيقك الأكبر عبر الهاتف؟ ماذا يعني أن تفصلك عن قبلة الوادع الأخير حدود وبلدان؟ شاركها في ذلك المصاب الجلل زوجها الغزاوي الذي عانى أيضًا مرارة الغربة فاستشهدت شقيقته وعائلتها الصغيرة في غزة بعد شقيق تسنيم مصعب بأيام. فكان الألم ممتدًا وعنيفًا، والحزن ينسكب منهما بالأطنان. تسنيم المدهون تروي قصة استشهاد شقيقها، وشقيقة زوجها، تحكي عن اللحظات الأخيرة والأحلام والآمال.
مصعب الأخ والحبيب: استشهاد شقيق الروح
في الثالث عشر من أكتوبر، وتحديدًا يوم الجمعة، كانت تسنيم معتادة على مهاتفة والدتها للاطمئنان على العائلة، وإذ بشقيقتها ترد: "ماما مش موجودة، مصعب اتصاوب فهي عنده". لم تكن المرة الأولى له بالإصابة لكن وخزة في القلب أصابتها لتخبرها أن هذه المرة غير، هاتفت زوجها لتخبره بما حصل فقال لها "أنا قادم نحو البيت".
وبقي هاتفها في يديها تارة تحدث شقيقتها وتارة والدتها، ثم هاتفت شقيقها محمد فأخبرها أن مصعب في العمليات، زاد توترها، وزوجها حسين أصابه ارتباك مفاجئ فطلب منها أن تحادث شقيقها مرة أخرى.تقول: "كلمت محمد بالفعل وحكالي خليكي قوية مصعب استشهد، مش قادرة أقلك شو مشاعري بهديك اللحظة، بس احتسبته شهيدًا وصليت ركعتين شكر لله".
باحتساب تام وصبر يشبه ثبات والدتها ووالدها، بقت تسنيم تصبر نفسها وطفلها أسيد الذي كان صديقًا لمصعب، آخر لقاء بينهما كان قبل ثلاثة أشهر في البلاد، وعلى الرغم من هويته الغزواية دخل إلى الضفة الغربية بعد محاولات عديدة، أول محاولة كانت وعمره أربع شهر وتم إجباره ووالدته على العودة للأردن عنوة وإجبارًا، وفي عمر 11 شهرًا جربت والدته زياة البلاد مرة أخرى فقيل لها: "أنتٍ ادخلي هو ممنوع".. وعلى الرغم من التنسيق للطفل الغزاوي إلا أنه عاد للأردن من جديد، وبعد يومين جربت والدته الدخول للوطن فنجحت المحاولة، ومن وقتها بدأت علاقة الخال ب "ابن الأخت".
تنكيل الاحتلال للأخ والوالد والعائلة
لم يسلم مصعب أبدًا من إزعاج سلطات الاحتلال، وبكون عمله كنجار كان في مرة في ورشة خارج مدينة الخليل وإذ بقوات الاحتلال تختطفه وتضربه بشكل مبرح، ثم ترميه على حاجز عصيون. وفي مرة أخرى كان مع أصدقائه في باب الزواية وإذ بقنابل الغاز تتطاير عليهم، إضافة للرصاص المطاطي، فأصيب برصاصة وقتها وكانت إصابته متوسطة.
إن ألم الطفولة لا يُنسى مهما مر عليه من عمر، يبقى بقلب صاحبه حتى نهايته، آلام الفلسطينيين مختلفة تكمن في تنكيل واعتقال، وموت ممنهج يتعرضون له، كبرت تسنيم على همجية الاحتلال، واعتقالات متتالية، وتكسير وضرب وعنف، تقول: "من واحنا صغار بنصحى على صوت تكسير، بمرة كسروا الباب الحديد ودخلوا حطونا كلنا بغرفة كسروا محتويات البيت كله، وصادروا كل الأجهزة، واعتقلوا بابا وطلعوا، وبتزكر مرة وأنا طفلة كنت رايحة زيارة ع السجن وصورت الحاجز، وصلهم خبر بهاد الشي،وقفوا السبع باصات وبلش التحقيق بمين صور ولما عرفوا أنه أنا تم مصادرة التلفون ومنعي من الزيارة لفترة".
استشهاد أخت الزوج في غزة
وفي غمرة الحزن القوي الذي أصاب تسنيم باستشهاد الشقيق في الخليل، كانت عين القلب على غزة والإبادة التي يتعرض لها الغزيون، وكون زوج تسنيم غزواي عائلته تسكن غزة، فكان القلق مضاعفًا مع كل خبر تبثه الشاشات تتسع أعينهما، ومع كل رنين للهاتف يهوى القلب، حتى جاء الخبر الأليم: "منال استشهدت".تردف تسنيم: "منال أخت زوجي هربت من حرب أوكرانيا واجت غزة للبحث عن الأمان هي وأطفالها لكنها استشهدت في مركز الإيواء التي لجأت له بعد نزوحها من بيت حانون".
كان الجو باردًا والعتمة تلف الأجواء، وصوت الزنانة وحده يعلو، سمعته زينة ابنة منال، فحاولت أن تنادي على ليلى شقيقتها وباقي العائلة ولكنهم نيام، فما كان منها إلا أن تركض للخارج، فنزل الصاروخ على عائلتها بالكامل واستشهدوا ونجت هي لتكون شاهدًا على الإجرام الإسرائيلي. اُستشهد كل من والدتها وشقيقتها وشقيقها البالغ من العمر سنتين والآخر في عمر الأشهر.
تكمل تسنيم: "بنحس زينة أم السبع سنوات عمرها 21 سنة كلامها أكبر من عمرها، بتضل تحكي أنه هي مشتاقة لأختها ليلى ولإمها، بتحكيلنا كلام بوجع قلوبنا". كانت والدة زوج تسنيم مريضة في غزة، فعكفوا على الحصول على تحويلة طبية لها للعلاج بالخارج، تم قبولها بالفعل للسفر، ولكنها لم تقبل: "أنا ما بدي أطلع واسيب ولادي وأحفادي بقدرش".
وبعد محاولات عديدة قبلت وسافرت لتلقي العلاج بمصر، فكان قلبها يكتوي بنيران الشوق والألم وندمت على قرار السفر هي وابنتها، حتى جاء خبر استشهاد منال، تردد زوج تسنيم في إبلاغ الخبر لوالدته فبقى الخبر طي الكتمان لأيام، فالأم التي ظنت أن غزة أأمن من أوكرانيا وحثت ابنتها على العودة لغزة تلقى حتفها وأطفالها هنا، فكان وقع الخير قاسيًا عليها.

