تختنق وتحاول التحرك علها تفيق مما ظنته حلمًا، لكن مع أصوات الصراخ ورائحة البارود والباطون الخرساني، أدركت أنه تم قصفهم، انطبق عليها السقف والجدارن مما تسبب في اختناق وشيك، حتى سمعت صوت زوجها من بعيد: "مرتي وولادي هان". كان البحث على قدم وساق؛ يركضون هنا وهناك ولا يدرون أنها تحتهم مباشرة، وكل خطوة للمنقذين تأخذ من عافيتها وتنزلق عليها الحجارة بشكل أقوى. حتى أُنقذت بعد عناء وجهد لرفع الكتل الإسمنتية الضخمة وفور رؤيتها الوجوه: "ولادي وين ولادي تالين ومحمد".
كانوا سيشربون "الكولا" التي يحبها الصغير محمد، ويتمازحون: "ماما حطيلي أنا أكتر أنا نزلت جبتها". لكن قُطع المشهد وبقي ناقصًا للأبد. طار محمد بفعل قوة الصاروخ وسقط من الطابق الثالث، ودُفنت والدته وشقيقته تحت الأنقاض. وانسكبت الكولا التي يشتهيها محمد واختلطت بشظايا الصاروخ الحاقد، دون أن يتذوقها لآخر مرة.
هنا نحكي مع أم غزية جابت مواقع التواصل الاجتماعي لتضع صورة فقيدها عزيز الروح على كل منشور للشهداء، لتقول: "هاد هو ابني محمد.. كنت بخطط لحياته وبحلم شو بتمنى أشوفه". بسمة عيسى والدة الطفل الشهيد محمد زيادة الذي لم يكمل عامه الخامس بعد، تقص علينا لحظاتهم الأخيرة، وتحكي عن فراق الابن والأخ في وقت وجيز.
السؤال الأصعب: ايش كان لابس محمد؟

تقول لبنفسج: "بعد أن تم انتشالي وذهبنا للمشفى لم أتوقف عن السؤال عن محمد وتالين، حتى جاءني شقيقي مهيب ليطمئنني عن تالين ويخبرني أن محمد في العمليات، لم أستوعب ماذا يقول؛ فأنا لم أقوَ على أن أُجري له عملية " اللحمية"، بدأ قلبي يغلي وتمر الدقائق عليَّ وكأنها دهرٌ طويل ".
لم يطل قلقها كثيرًا، جاءها شقيقها مهيب ليثير الشك في قلبها، "شو كان محمد لابس"، وذهب لوجهته، ثم عاد من جديد بصورة للملابس، ليردد السؤال ذاته: "هدول كانن الأواعي يختي؟". فأكدتُ من جديد على أمل أنه حي يرزق، ولكن صاعقة دبت في جسدها، وشعرت أنها على حافة الجنون حين عرفت أن طفلها الجميل "ولي العهد" كما يسمونه، شهيدًا، ولكن ما آلمها حقًا أن عزيز الروح كان مصابًا في الرأس والوجه مما أعاق التعرف عليه. لذلك كانت ملابسه الشاهد الوحيد عليه.
لم تر بسمة حبيبها محمد لتودعه الوادع الأخير فقد رفض شقيقها ذلك رفضًا قاطعًا، قائلًا: "بلاش يختي خلي صورته الأخيرة ببالك زي مهوا هتتعبي من شوفته". تضيف: "كنت أود كثيرًا أن يعيش محمد ليكبر على عيني، سعدتُ بأول أيامه في الروضة بشكله الأنيق في الزي، لكن لم تطل فرحتي كثيرًا، جاءت الحرب لتنتشلنا من أيامنا الآمنة إلى أسوء أيام يمكن أن يعيشها المرء بحياته".
احتفل محمد بذكرى ميلاده الرابعة في السادس من أكتوبر المنصرم، غنى أغنية الميلاد واستقبل الدعوات والأمنيات بالعمر المديد، وأطفأ الشمعة وتناول الكيك لآخر مرة، تردف والدته لبنفسج: "حبيبي كان يحب كتير يحتفل بعيد ميلاده بفرح لما نجيب الكيك والشمع وكتير بجب سيدو أبو وسام، بأخر ميلاد تأخر سيدو أصر يستناه وراح جابو واجا وانبسط كتير كتير ما كنت أعرف أنه آخر ذكرى ميلاد ألو".
صورة عائلية ناقصة

إن الحزن الدفين في قلوب الأمهات يأكلهن ببطء، يسحب عافيتهن كغول همجي ينقض على فريسته، صُب الحزن صبًا في قلب أم محمد حتى انطفأ نور قلبها للأبد ولو أُضيئت حولها كل أنوار الكون، تسترجع أيام القصف العنيف في حياة محمد، وتكمل: "حينما يرتعب محمد من أصوات القصف العنيف أخبره أنها ألعاب نارية لأجل يوم ميلادك، وأسحبه بين أحضاني، وشقيقته تالين صاحبة السبع سنوات كانت تطمئنه بنفس كلماتي وهي تعي جيدًا أن هذه الأصوات هي غارات تأخذ أرواحًا وبيوتًا".
ولكن مع ازدياد حدة القصف وعلو صوت الصواريخ والمدافع، والكواد كابتر التي تطلق رصاصها بدقة على الهدف، أصبح محمد يعي أن ما يحدث ليس طبيعيًا، وبدأ في إظهار ردات فعل كالبكاء والخوف، تردف: "لما كان محمد يشوفني بضب أغراضنا وبجهز الشنط يقلي بدي أجي معك احكيلو طبعا وين بدك تروح، وبضل يحكيلي عند كل قصف ماما الصوص تبعي، وبيوم استشهاده قبل القصف بساعات بقلي ماما بس تخلص الحرب بدنا نروح الجنة صح.. حبيبي ما طول ما لحق راح بسرعة".
تقول: "في مرة طلب مني محمد سكوتر ليلعب به فوعدته بعد الحرب سأجلب له واحدًا باللون الأزرق الذي يحبه، أما توتو طلبته باللون الزهري، ولكن ستنتهي الحرب ومحمد ليس هنا وأمنياته الصغيرة لن أستطيع أن أحققها، أسأل الله الجبر والصبر لقلبي".
في مخيلتها كانت صورة عائلية سعيدة لعائلتها، ضحكات تطير في البيت، وورود حب تنبت في قلوب الصغار، لكنها بقيت ناقصة ولم تكتمل برحيل ولي العهد الصغير، قبل الحرب بأشهر صممت له ولشقيقته غرفة نوم بألوان مبهجة، لم تجلب أثاث طفولي فكانت ترتأي أن تعيش الغرفة الحديثة معهم عمرًا طويلًا، لكن بساط العمر سُحب من تحت قدمي محمد ليرفع نحو السماء عصفورًا في الجنة، والبيت أصبح بضع حجارة تخضبت بدماء محمد.
فقدان الشقيق الحنون

لم تفقد بسمة عزيز قلبها محمد فقط بل ودعت رفيق الحياة القديم الذي لطالما كان شقيقًا وفيًا وصديقًا حنونًا، شاطرها الحزن يوم استشهاد محمد ورفض أن تراه في كفنه لآخر مرة خوفًا على فؤادها من الصدمة، تقول: "صُدمت صدمة العمر يوم استشهاد شقيقي مهيب كافل الأيتام الحنون الخلوق، إذ قُصف المنزل عليه وهو يصلي العصر، فوجدوه ساجدًا لله، كانت نهاية مشرفة وخاتمة طيبة لحياته".
دفن مهيب محمد ثم لحقه بأسبوع، ومن المواقف التي لا تنساها بسمة له يوم أن انتشر فيديو للصغير محمد وهو شهيد على مواقع التواصل الاجتماعي، فطلب شقيقها من المصور حذفه رأفة بقلبها، واستبدال الفيديو بصورة محمد وهو متأنقٌ في ذكرى ميلاده.
"والله يختي حطيت قطعة مني تقول دافن واحد من ولادي ووصيته سلم عخالك همام".. كان آخر ما قاله الشهيد مهيب لشقيقته عن طفلها محمد، وما زالت كلما تذكره تسترجع مواقفه وكلماته الحنونة، وتخبرنا عن أن "كافل الأيتام" كان كلما قُصف مكان قريب منهم يجلب الجرافة على حسابه الشخصي لتجري عملية توسعة للشارع ونقل للركام، كان محبًا للعمل الخيري التطوعي، لا يتوان عن تقديم مساعدة، فبكاه كل من عرف معدنه الأصيل. تنهي حديثها معنا بالقول: "الله يرحمهم ويصبر قلبي والحمدلله على لقب أم الشهيد وأخت الشهيد، زي إمي أم الشهيدين، وأختي برضو أم الشهيد".