لم يستغرق الأمر إلا ثوانٍ ليجد السقف الإسمنتيّ يحاصره تمامًا، ثانية واحدة فقط شكلت الفارق بين النجاة والموت، فتحة صغيرة في نهاية السقف المائل كانت سببًا في نجاته، تعلق بخرطوم كهربائي ممتد على طول الأرضية ليتمكن من الخروج من تحت الركام، ظل يتسلق حتى وصل للفتحة المرجوة فدفعه خاله الذي كان بجانبه لينجو من موت أكيد، إن لم يكن بفعل الصاروخ المتفجر سيكون حتمًا من الاختناق.
نحكي هنا مع شاب فلسطيني فقد جل عائلته في قصف إسرائيلي على منزل خاله الذي نزح هو وعائلته نحوه بعدما أمرهم الجيش الإسرائيلي بإخلاء منزلهم. يحكي لنا رضوان أبو معمر عن اللحظات الأخيرة قبل أن يقتحم المنزل صاروخٌ إسرائيليٌ، عن والدته ووالده وشقيقته وأخويه وابنه شقيقته والذكريات الأخيرة، وعن الألم القابع في النفس ولا يطيب.
انفجار لم يُسمع: بين الموت والحياة ثوانٍ معدودة
في 20 ديسمبر/كانون الأول وفي تمام الساعة الثامنة مساءً، صعد رضوان للطابق الثالث بغية الاتصال بشبكة الإنترنت عبر شريحة إلكترونية، تاركًا أهله في الطابق الأول، وكانت تلك المرة الأولى التي يفارقهم فيها ويصعد للأعلى. يقول لبنفسج: "لم أسمع لحظة قصفنا صوت انفجار، شعرتُ فقط باهتزاز الأرض من تحتي وهبوط سقف الشقة على رأسي ولكنه، وقع بشكل مائل مما تسبب في نجاتي، أخذ مني الأمر بضع ثوانٍ لأستوعب أنه تم استهدافنا بشكل مباشر، كنتُ بين خيارين إما أن استسلم وأبقى تحت السقف الخرساني، أو أفعل أي شيء لأنجو، رأيتُ خرطومًا كهربائيًا قد ظهر من تحت البلاط فتمسكتُ به وزحفت حتى خرجت من تحت السقف".
ركض رضوان نحو الطابق الثاني فأسعف بعض أقربائه، ثم توجه للطابق الأول الذي تتواجد فيه عائلته بالكامل، ولم ير إلا فتات أجسادهم، كان أغلبهم عبارة عن أشلاء مكومة لم يعِ من هذا ومن ذاك، يضيف لبنفسج بصوت مرتعش: "أنا بصرخ على أهلي والناس حواليا محدش قادر يعمل إشي، رحنا على المشفى حطولي طاولة عليها أشلاء وحكولي بتقدر تتعرف على حدا منهم؟".
أشلاء العائلة: " حطولي أشلاء على الطاولة وقالوللي تعرّف عليهم"
أيوجد قهر في الدنيا أشد وقعًا على النفس من أن ترى عائلتك كومًا من اللحم، لا شيء يدلل على هوياتهم، ومطلوبٌ منك أن تتعرف على بضع أشلاء وتقول هذه أمي وهذا أبي وتلك أختي وذاك أخي، ترتجف وأنت بجانب الثلاجة التي تبنعث منها رائحة الدم الحي، رضوان تمنى في تلك اللحظة أن تخرج روحه للسماء.
فيكمل: "لم أتعرف سوى على ابن عمي، عرفته من خلال قطعة من ملابسه التصقت بجسده المنصهر، ثم جلبوا لي أشلاء شقيقتي أسيل فلم أعرفها تعرف عليها طبيب من عائلتي من جرح في جبينها يعرف مكانه جيدًا كونه طبيبها المعالج".
أما والدته فقد تعرفت عليها شقيقته الناجية معه من جواربها، وقبلها تاه رضوان في جثتها ثلاث مرات، مرة ينفي ومرة يؤكد، كان الأمر برمته أعظم من قدرته على الاستيعاب، يؤنب نفسه كيف لم يعرفها فهذه "أحلام" حبيبته الأولى وصديقته الوحيدة، لم يستطع أن يقبلها قبلة الوادع، كان يود كثيرًا أن يعانقها عناقًا أخيرا، كفنها بيديه ووضع بقايا أشلاء شقيقته أسيل بأحضانها، وقال في سره: "حبيبتي يما هي حطيتلك الغالية جنبك بعرفك بتحبيها".
أما والده فقد احتضن شقيقه محمد في الكفن ذاته، وشقيقه منصور وضعوا في كفنه ابنة شقيقته تالا البالغة من العمر 9 سنوات، وبذلك يكون رضوان قد دفن جل عائلته في القبر بيديه، ثلاثة قبور صنعها لستة أفراد، وبقي هو وشقيقته الناجية مع طفلها يعانون من وجع لا دواء له.
عن حلومة عمري وأبي الرجل النبيل
كان الثقل على قلبه حينما رأى بقايا جسد والدته مسجيًا أمامه مرعبًا، قلبه يحترق ولا يتوقف كجمرة أعلنت التمرد ولا تقبل الانطفاء، لم يعلم على من يبكي على أمه أم أبيه أم شقيقته أسيل أم أخويه محمد ومنصور. عيناه صُدمتا صدمته وهن ينظرن لجسدها المنصهر أمامه "هل هذه أحلام حقًا"؟ "أين وجهها أين عيناها"؟ تمنى لو أن الخلاص الأبدي يأتيه الآن لأنه قلبه لن يتحمل هذا الحزن المفجع.
ما زال وجه والدته أحلام بابتسامتها الخلابة التي يقسم أنه لم ولن يرَ مثلها في الوجود، حاضرًا أمامه. يقول لبنفسج: "أنا كتير متعلق بإمي مسميها حلومة عمري، ما بقدر على الحياة بدونها صار عمري 23 سنة ولسا بتزكر لما كنت بالمدرسة كيف كانت تدللني، حتى لما كبرت بتدلل، بتزكر مرة إيدي انكسرت صارت تعملي كل شي بس شو بدك يما، بحب إمي كتير ومن يوم ما راحت حياتي صارت باهتة".
قبل استشهادها بساعتين أحضر لها رضوان ملوخية لتطبخها له في صباح اليوم التالي، كانوا سيقطفون أوراق الملوخية سويًا وتطهوها السيدة أحلام لتفوح رائحتها في البيت، طلب منها أن تصنع الأرز بجانبها وطبق سلطة، اشتراها بثمن مرتفع لأن حبيبته تحبها ولكنه قال: "متغلاش على الحبايب".
ركض نحوها وكأنه حاصل على جائزة قائلًا: "جبتلك ملوخية يما". فردت: "الله يجبلك الخير يما". لكن الجيش الإسرائيلي لم يسمح لها بطهو طبق الملوخية لعائلتها قتلها وقتلتهم ونجى رضوان ليحكي لنا القصة.في كل مرة يرى رضوان الملوخية يتراءى أمامه وجه والدته ويسمع صدى صوتها وهي تدعو له بالخير والرضا، فيبكي بكاء لا نهاية له، أكل الملوخية ثلاث مرات منذ استشهادها إذ يبحث عن نفس أمه في الطعام لكنه لا يجد مرداه.
أما عن والده يخبرنا رضوان أن اسمه نبيل، وهو اسم على مسمى حكيم، خلوق، وحنون، له سمعة طيبة بين الناس، يروي لبنفسج: "كان والدي رجل لا مثيل له، يحب التعليم ويشجعنا عليه، حتى شقيقاتي البنات كان يشجعهن على نيل الماجستير والدكتواره، وكان يود أن أكمل أنا أيضًا الدراسات العليا، حقيقة لم أجد رجلًا محبًا للتعليم وللنجاح مثله".
كان رضوان مطمئنًا آمنًا في وجود أب كأبيه، يفخر بين الناس به ويحكي عنه لكل الأصدقاء، يعلم علم اليقين أنه إن غدرت به الدنيا يومًا ما سيكون نبيل في ظهره يسنده كالجبل، نعاه الأصدقاء والمعارف وقالوا لابنه: "احنا خسارتنا ما بتتعوض في أبوك".
ماذا عن الحديث الأخير بينك وبين والدك؟ يجيب: "قبل نصف ساعة من استهدافنا نادي علي وسألني أين كنت طوال اليوم فأخبرته، تحدثنا قليلًا ثم ختم حديثه وقال لي: الله يرضى عليك يابا".
كان أول من رأى في المشفي من الجثث أخويه ووالده، ولم يعلم حينها كيف ربط الله على قلبه وسجد سجدة شكر لله، ثم قال قول الله عزوجل: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
لم يكن رضوان يحفظ تلك الآية أبدًا، ولا يعرف حتى اللحظة كيف أنطقه الله بها. فيقول لبنفسج: "حسيت وقتها بلطف الله بعرفش كيف صبرت بهداك الوقت كنت مقهور لكن راضي الحمدلله الذي اصطفاهم".
صبرٌ .. فشكرٌ.. فسجود
قمرٌ غفا والشوق فينا لا ينام ودموعنا في الليل تُسمِع السّلام هنا ألف ذكرى ودروب عشقٍ لم تزلْ ترجو لقاك هنا ألف عَبرة ترجوك تأتي أيها الطهر الملاذ".. دكت تلك الأنشودة أوصاله، بكى العائلة كلها حتى تورم القلب ونزف كدرًا وألمًا، غمره حزنه كالغيث، فكيف يرثي المرء كل أهله؟ كيف سيحكي عنهم برفقة الأفعال المنقوصة "كان.. كنا.. كانت.. فعلنا.."؟
فقد رضوان أخويه الوحيدين محمد ومنصور، الأول كان الأخ الأكبر المشجع والداعم على الدوام ورجل الضائقات المالية، أما منصور كان الأقرب له وكأنه توأم روحه، أخبرنا رضوان أنه لو سألوه من نترك لك من العائلة سيجيب "منصور"، الذي منذ رحيله يشعر أنه بلا ظهر. يقول لبنفسج: "منصور كان بحبني كتير وأنا بحبه بتمنى أصير أحسن منه، لو كان جنبي حاليًا كان هون عليا الحياة في غياب الأهل.. دايما بضل أقول ياريته هو ضل".
أما شقيقته أسيل الحافظة لكتاب الله كانت روح البيت ببهجتها، عرفها دائمًا بشكلها المبهج، وحينما شاهدها متحولة لأشلاء قُهر قلبه وانهار، أما تالا ابنة شقيقته الأخرى جاءت زيارة لغزة مع والدتها التي لم تزورهم منذ 4 سنوات، لتزيل شوقها وتناقش رسالتها الدكتوراه في الجامعة الإسلامية، لم تكبر الصغيرة أمام عينيه ولكنه تعلق بها جدًا، وهي أحبته.
يضيف وقد غلبته دموعه: "عانقتني تالا قبل ساعة من قصفنا بقوة ولم تقبل أن تتركني أبدًا حتى أنني استغربت منها، وقالت لي وقتها: "بحبك يا خالو". ربما كانت تشعر أنه العناق الأخير لنا".
يعتقد رضوان أن تالا لم تستشهد بفعل الصاروخ المتفجر بل من الخوف الشديد، لأن جسدها كان مثلما هو، إذ قال لهم المسعف الذي أنقذها من تحت الركام أنها قالت له: "أمانة أمانة"، ثم اُستشهدت.
أوليس يقولون أن الإنسان يشعر أحيانًا بما قد يحدث، يخبره قلبه بأن شيء ما يلوح بالأفق، حدث هذا مع رضوان حينما كان جالسًا مع أعز رفاقه ابن خالته وشقيقه منصور إذ قال لهم: "حاسس البيت هينقصف علينا". فرد كل منهم: "وشو يعني نيالنا بنموت شهداء". وفي الواقع صدق إحساسه وقُصف البيت على رؤوس ساكنيه واُستشهد من قالا "نيالنا" تاركين صديقهم يعاني ألم الشوق وحده.
بقيت أختي الناجية لشهور تذهب إلى المستشفى تبحث بين الجثث عن وجه أسيل أختنا
أما شقيقته الناجية يحدثنا عنها أنها لم تستوعب بعد فقدان العائلة وابنتها تالا، بقيت لشهور بعد استشهادهم تذهب للمشفى يوميًا حيث قسم العناية المركزة لتبحث عن شقيقتنا أسيل بين مجهولي الهوية، ولأنها لم ترها ولم تتعرف بنفسها عليها لا تصدق أنها اُستشهدت.
يحكي لنا رضوان أنه وعائلته خلال أيام الحرب كانوا يجتمعون في نفس الموعد الذي قصفوا فيه ليحكوا سويًا عن الحكايات القديمة ويتوقع كل منهم إلى أين تسير الحرب، 7 عائلات كانوا نازحين في بيت خاله وهم معهم أُبيدت بالكامل في منطقة ادعى الاحتلال أنها آمنة وأمرهم بالنزوح نحوها.
ما زالت الإبادة الجماعية بحق أكثر من مليوني غزواي متواصلة، والمجازر مستمرة والفاقدين المكلومين أمثال رضوان كثر، ولم تسنح له الحياة بعد أن يعيش حزنه على مهل فما بين نزوح وأوامر إخلاء متواصلة يعيش رفقة شقيقته وطفلها.

