بنفسج

منال عبد العال: أم الشهداء "قلب من جمر"

الأربعاء 23 أكتوبر

أمهات الشهداء قصص في الصبر والصمود
أمهات الشهداء قصص في الصبر والصمود

في هذا التقرير شهادة لأم من غزة، قلبها كالجمر، فقدت أبناءها، منهم من تمكنت من وداعه ومنهم من دفن دون نظرة أخيرة، أو حضن دافئ من أمه. هذه قصة منال عبد العال التي فقدت أبناءها في حرب الطوفان، تروي قصتها ومشاعرها وحزنها وألمها. قصة أم الشهداء بل أمهات الشهداء في غزة من اللوات فقدت أبناءهن؛ كلهم أو بعضهم، فسلام عليهن بما صبرن!

أمهات الشهداء "قلب من جمر"

حرب الإبادة

تقول منال عبد العالي، وهي تروي قصة ابنها الشهيد محمود: "منذ بداية حرب الإبادة الجماعية وأنا قلبي كجمرة مشتعلة لا تنطفئ، استيقظت كباقي أهالي غزة على أصوات الصواريخ المتجهة إلى أراضينا المحتلة، خرج ابني محمود وقتها ليلبي نداء الوطن، قلت له: "يما شكل الوضع صعب كول لقمة قبل ما تطلع بلاش تتأخر".

 أوصاني بنفسي وأخواته البنات، وأوصى شقيقه الصغير بإكمال حفظ كتاب الله تعالي، وغادر ولم أراه منذ ذلك اليوم، عرفت لاحقًا أنه ارتقى شهيدًا مقبلًا غير مدبر.

فمن هي أم الشهيد محمود المصري، تجيب: "منال عبد العال أم الشهيد محمود المصري، وفقدت ابني حسن الذي لا أعلم عنه شيئًا حتى الآن. أقطن أنا رفقة عائلتي في حي الشجاعية، نزحنا في بداية الحرب من البيت لمنطقة الطوابين، حتى جاء أمر الإخلاء للجنوب، نزحت أنا ورفض أبو حامد زوجي النزوح لأن شقيقاته وبناته متزوجات في غزة، ورفضت زوجته الثانية النزوح معي، طلبت منها أخذ أطفالها منها للنزوح معي جنوبًا فقالت لا استطيع.

نزحت لظروف أبنائي لكن بقيت على تواصل مع العائلة، زوجي كان حنونًا جدًا على أولاده؛ في كل محادثة كان يحادثني ويخبرني وهو يبكي "يارب يومي يكون قبل محمود ابني". وكان يوصيني على أبنائنا يوسف وكريم، وفي كل اتصال كان الحديث هكذا بتمنيات السلامة والفرج.

استشهاد الزوج والأبناء

حرب الطوفان

في 4 نوفمبر 2023 انقطع الاتصال بزوجي وزوجته الثانية في غزة وأطفالهم الثلاثة، ثم وصلني اتصال يفيد بقصف بيت شقيقة زوجي الذي كان يبقى عندها، ارتجفت وأنا أمسك هاتفي اتصل به لكن لا مجيب، فاتصلت ببناته الباقيات في غزة، فذهبن للبيت، فوجدون والدهن تحت الأنقاض، كان ما زال على قيد الحياة لكن لا معدات ترفع عنه الركام، حاولن وأزواجهن رفع الحجارة الإسمنيتة لكن لم يستطيعوا إنقاذه واستُشهد.

 أما زوجته الثانية وعلاقتي بها جيدة، فكانت مصابة إصابة خطيرة، وأطفالها سارة وأحمد وجدوهم شهداء فنقلوهم إلى المشفى، أما الطفل آدم صاحب الست سنوات فلم يظهر منه أي شيء، فبقي في عداد المفقودين.

آلمني قلبي ألمًا لا دواء له عليهم جميعًا، زوجي الذي عشت معه قرابة الثلاثين عامًا، كان وحيدًا، تزوجني أولًا ثم زوجته الثانية، وأكرمنا الله بستة أولاد وثلاث بنات، عشنا على الحلوة والمرة، أنا كنت مدرسة قرآن في المدارس، وكان يشجعني دومًا. أذكر أنني في مرة مرضت فجأة، فترك كل شيء وجاء عندي وقال لي: "أمانة تديري بالك على حالك مش عشانك عشان خاطري أنا".. لم يضايقني يومًا، وإن حصلت مشادة بيننا لم نكن ننام إلا ونحن على وفاق.

أما ابني محمود وصلني خبر استشهاده أول يوم بالهدنة المؤقتة، عز عليَّ مفارقة ابني هكذا، لا جثمان ولا قبر ولا جنازة، ولم أضع على جبينه قبلة الوادع الأخيرة، لم أودع أيًا من الأحبة، فكان الألم مضاعفًا، وتملك المرض مني، كنت أصرخ من ألمي على فراقهم ووجعي الجسدي.

أما ابني حسن فلا أعرف شيء عنه هو ضمن قوائم المفقودين، حرق فؤادي عليهم جميعًا، حتى أطفال زوجي الثلاثة كانوا أطفالي أيضًا، كانت غلاوتهم من غلاوة أبنائي، لا أفرق بالمحبة بينهم، ذهبوا جميعهم دون وداعهم وذهب البيت الشاهد على ذكرياتنا، وما زالت أنا أعاني ألم الفراق.

أطفال زوجي

الأطفال المصابون في غزة

أما أطفال زوجي الثلاثة: سارة كانت بالصف الخامس، مؤدبة وخجولة وكانت دائما تقول لي: "كلهم رح يتزوجوا وأنا رح أضل عندك".. أما أحمد كان بالصف الثاني محبًا خلوقًا، ملتزمًا بالصلاة مع أشقائه الشباب، أما آدم كان أصغرهم ولم يعرف شيء من الحياة بعد.

أعيش الآن في القاهرة بعدما اضطررت للخروج مع شقيقتي المصابة للعلاج بالخارج، وفوجئت وأنا هناك باستشهاد شقيقي أيضًا، فصدمت جدًا لأننا منذ زمن لم نلتقي أبدًا، وتروادني في ليالي الغربة صور كل الأحبة الشهداء وخاصة ابني محمود في أيام الجمعة وهو يجلس معي نحتسي النسكافيه ونتسامر ويحكي لي عن أحواله.

 ويطلب مني أن أترك أعمال المنزل ليوم إجازته ليفعلها هو، وما زال صوته يتردد في أذني: "يما اخطبيلي بدي ألحق أسيبلك مصعب من ريحتي قبل ما أروح".