"أنت مش معهم أنت ارجع".. رأى نفسه في المنام أنه قُصف واُستشهد وكان يحاول أن ينطق الشهادة لكنه لم يستطع في الحياة الدنيا ثم أكملها في العالم الثاني الذي حلقت روحه به، حينها شعر بسكينة وطمأنينة لم يشعرها بحياته أبدًا، نظر حوله فرأى أناس يمشون في طريق، حاول التعرف على أحدهم، وسرعان ما وجد زوجته وابنه حسن أول الطريق، فركض نحوهم ليمشي رفقتهم نحو نهاية الطريق المغطى بالأضواء، كان النور يشبه ضوء الغروب الساطع.
ثم باغته أُناس يرتدون الأبيض فأخبروني: "أنتِ مش معهم بدنا نرجعك ونشوف صبرك واحتسابك". فظل هو وغادرت زوجته وطفله يمسكون بعضهم بعضًا لآخر الطريق ثم لوحوا تلويحة الوادع واختفوا. هنا يحكي الطبيب علي حسن النويري المتخصص بجراحة العظام، عن عائلته التي قتلتها "إسرائيل"، زوجته الطبيبة وابنه حسن، ووالديه، وشقيقه وزوجته وأبنائه الاثنين، يروي عن أصعب المواقف خلال عمله كطبيب في حرب الإبادة الجماعية، عن إصابته وألمه الذي لا يخمد.
ليلة لا تُنسى
وجد الطبيب علي النويري نفسه بين الأنقاض بعد استيقاظه من رؤيته التي تجسدت واقعًا لاحقًا، يقول: "لم استطع التنفس وأنا تحت الركام، فسمعت أحدهم يقول يوجد أحد حي هنا، فجاءوا لإنقاذي ولكن ظهري كان يؤلمني بشكل لا يوصف، من شدة الألم أخبرتهم أن يتركوني، لكنهم أكملوا عملية انتشالي حتى وضعوني بجانب البيت الذي أصبح كالبسكوتة، وقتها أيقنت أنه لا أحد قد ظل على قيد الحياة، فصرت أسأل ماذا حدث لعائلتي لكن لا أحد يجيب".
كان الطريق نحو مستشفى العودة طويلًا، يتألم علي بقلقه على العائلة ويوجعه ألمه الجسدي إثر الإصابة، فوجد هناك طبيبًا زميلًا له سأله على زوجته وطفله فأخبره أنهم بخير، يضيف: "نقلوني بعدها إلى مستشفى شهداء الأقصى، مكنش فارق معي شو صار معي ولا إصابتي ولا ألمي بقدر ما كنت مهتم أسأل على زوجتي وابني وطول الطريق بسأل ابن عمي شو صار يقلي مش عارف بس متصاوبين وطول الطريق وأنا بدعي يارب يكونوا عايشين".
"الحمدلله أنه ضلت صورتهم الحلوة ببالي.. ما شفتهم وهما أشلاء أو غيره".
لاحقًا تلقى علي خبر استشهاد كل العائلة ما عداه هو وشقيقته التي أُصيبت بحروق متوسطة، وتخضع للعلاج الآن في القاهرة، فيقول عن لحظة تلقي خبر استشهادهم: "بعد إنهاء عمليتي الأولى سألت ابن عمي عن عائلتي فصمت، قلت له سأسألك، أمي وأبي استشهدوا فقال نعم، ثم قلت وأخي فرد بنعم أيضًا، صمتُ لفترة وسألت عن ابني وزوجتي فرد بالإيجاب، شعرت وقتها أن الدنيا سوداء أمامي، لم أعرف هل أبكي أم أصرخ، وهل سيجدي نفعًا؟ سرعان ما تذكرت قول الله تعالي: "وبشر الصابرين". فقلت بعدها الحمدلله أنك رزقتني بالامتحان بالدنيا قبل الآخرة".
يصف علي عائلته بأنهم السند والحياة، ويستذكر ما قبل الاستهداف، فيضيف: "كانوا خائفين جدًا من الحرب ولم يكونوا يخرجون من البيت، كنت أشتري حاجياتهم وأنا عائد من عملي بالمشفى، وكانوا يخافون علي لكن سبحان الله الكل استشهد وبقيت أنا لوحدي فتذكرت آية: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة". لقد كسبوها وذهبوا لمكان أفضل وأكثر طمأنينة وسكينة، فتمنيت أن أكون معهم". لم يلقي نظرة الوادع الأخيرة عليهم ولا يعلم أكانت هذه نعمة أو نقمة، وأحيانًا يُحدث نفسه ويقول: "الحمدلله أنه ضلت صورتهم الحلوة ببالي.. ما شفتهم وهما أشلاء أو غيره".
رحيل العائلة
يحكي علي عن زوجته وزميلته في آن واحد التي تزوجها عن حب، أنها كانت الزوجة والصديقة والرفيقة الدائمة، فيقول: "تزوجتها منذ أربع سنوات، وكل يوم كان كأنه يوم اللقاء الأول، لم تخمد مشاعرنا بل بقيت متجددة، حينما كانت تذهب للمبيت عند عائلتها كنت انتظر عودتها بفارغ الصبر، كثيرة هي ذكرياتنا، كنا بالمشفى نتناول طعام الغذاء والعشاء سويًا بحكم عملها كطبيبة في قسم الطوارئ والاستقبال".
رُزق الطبيب علي وزوجته إيناس الحاج حسن بطفلهم حسن الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، فكانت أرواحهم معلقة به، يضيف عن ابنه: "لما والدته بتكون مناوبة بالمستشفى بنضل أنا واياه لحالنا، كان يحب يطلع معي يروح البحر، وكنا نطلع سوى نتغدى برا مرتين ثلاثة بالشهر وبكل مرة يطلب ياكل برجر أو بيتزا، يوم الاستهداف كلمتني زوجتي حكتلي حسن بدو شوكولاته نوتيلا ميلت، وأنا راجع من الشغل بس ما لقيت لأنه الأشياء كانت مقطوعة، لقيت شوكولاته وشيبس فجبلتهم".
رآه علي وهو عائد من مناوبته التي استمرت لأربع وعشرين ساعة بالمشفى، يلعب من أولاد عمه المعتصم بالله وحسن، فركض نحوه الصغير وقال: "بابا جبتلي بلوزة برشلونة". فأخبره أنه لا يوجد بالأسواق محلات فلينتظر لبعد الحرب وسيجلبها له.
أصعب المواقف بالمشفى
كان يعمل علي بمستشفى شهداء الأقصى التي وصف امكاناته بأنها محدودة، ويوجد بها مرضى تفوق استيعاب المستشفى، ما يزيد عن 400 مريض، وتستقبل يوميًا شهداء بالعشرات وإصابات بأعداد مهولة. كانت المشفى تعج بالمرضى بكل مكان بالممرات وأمام غرفة الأطباء، "لما كنت ببصم دخول للمشفى كنت بعدي فوق الناش النايمة بالممر لحتى أقدر أسجل دخولي على جهاز البصمة".
وعند سؤاله ما هي أكثر حالة عالقة بذهنك؟ يجيب: "أتتت حالة لسيدة كبيرة بالسن وأنا أفحصها كانت قدمها مبتورة والثانية متهتكة، ولديها إصابة بالصدر والدماغ، كنت سأبدأ العملية لها لكنها اُستشهدت في ذلك الوقت تخيلتها أمي، كان شيئًا صعبًا للغاية عليَّ، أما الحالة الثانية التي أثرت بي كانت لطفلة عمرها عشرة أشهر، يدها اليسار بُترت وقدمها مكسورة، الجلد والأنسجة للبطن والفخد ذائبة، إضافة لإصابة بالدماغ، حاولت فعل ما استيطع لمعالجتها لكن بعد نصف ساعة أخبروني أنه سنزيل أجهزة التثبيت عنها لأنها اُستشهدت".
تعرض علي خلال عمله لمواقف مؤلمة، فهذا صديق له اُستشهد ابنه الوحيد، لم يعرف بماذا يواسيه، وهذا من معارفه الذي فقد عائلته وهذا جاره وهذا صديق، كان الأصعب عليه وهو يواجههم عن قرب أنه غير قادر على فعل أي شيء لهم سوى المواساة.
أما عن إصابته فلم تكن إصابة علي بالهينة، كان لديه كسر بالفقرة الأولى من الظهر وتضغط على الحبل الشوكي، طلبوا منه تحريك قدميه لكنه لم يستطع.
يكمل: "شعرت بقدمي اليمين لكن لم تكن هناك معدات لتكشف عن الفقرات بمستشفى الأقصى، لذلك تم نقلي لمستشفى الأوروبي وأُجريت لي عملية تحرير للعصب الشوكي وتثبيت للفقرات، ثم بعد يومين تحسن وضعي قليلًا وبدأ العلاج الطبيعي، تحسنت قدمي اليمين، أما قدمي اليسار لا حركة بها لكن الإحساس بها يتحسن، وكنت بحاجة لعلاج طبيعي لكن لا مراكز مختصة، فانتظرت 45 يومًا حتى نزل اسمي على قائمة المسافرين للعلاج في تركيا".
بدأ رحلة علاجه التي كانت صعبة، خضع للعلاج الطبيعي بشكل مكثف في مشفى تركي لمدة 3 أشهر، وبعدها بدأ يشعر بإحساس وحركة في القدم اليمنى أما اليسري توقفت الحركة عند الركبة، فاضطر لتركيب جهاز فيها، ويمشي بالعكاز، وبعد مدة من عدم التحسن بها أخبره الأطباء أن احتمالية التحسن الكامل والعودة لما قبل الإصابة ضئيلة، وعقب بالقول: "الحمدلله قضاء الله وقدره لازم نرضى ونكسب الآخرة".
يختم حديثه: "إصابتي كانت دمار لي فقدت 5 سنين طب، فقدت عملي وعيلتي كلها، قيمة الحياة اتغيرت بنظري للأبد لكن كانت مواساتي دايما القرآن الكريم بلاقي بآياته جبر، آيات فضل الصابرين بتخليني أحس أنه قدمت للآخرة".

