120 ثانية انفصلت فيها عن العالم، كانت بمثابة عمر كامل، اعترتها مشاعر لا تعرف ماهيتها، ابتلعها باطن الأرض وغطتها الطبقات الإسمنتية، لم تدرك أين هي وماذا حصل! هل ما زالت على قيد الحياة أم رحلت، لوهلة لم تعرف من هي! سيل من الأفكار والتساؤلات اجتاحتها لا تعلم إجابة لأي منها! حتى أخرجها من قوقعتها صوت أطفالها وهم ينادون: "ماما ماما". فحثتهم أن يقولوا يارب ليسمعهم أحد. وقتها عادت للواقع وأيقنت أنها تحت الأنقاض وأن الصاروخ الإسرائيلي الذي استهدفها لم تسمعه، فقط شعرت بنفسها تُسحب لتدفنها الأرض.
سرعان ما جاءهم منقذ ينادي: "في حدا عايش هان". ردت عليه: "اه أنا وولادي عايشين واحنا فوق ال 50 نفر بالبيت عايشين".
هنا حكاية لغزية اسمها زينب النحال من مخيم الشاطىء غرب مدينة غزة، سُمح لها بالحديث عن قتل "إسرائيل" لعائلتها المتمثلة بوالدتها وأشقائها وزوجاتهم وأولادهم، وشقيقاتها وأولادهن، فبقي لها أخ وأخت من عائلتها، وابنة شقيقتها حلا، وأولادها الأربعة وجنينها. تحكي عن يوم الاستهداف، ولحظاتهم الأخيرة سويًا، عن إصابة أطفالها وإصابتها، عن الحمل الذي كتب الله له النجاة على الرغم من انتشالها من تحت الأنقاض.
حين دفنتهم الأرض
قبل استهدافهم صدح آذان المغرب في الأرجاء، فقاموا للصلاة، انتهى البعض وظل آخرون يصلون، لكن سرعان ما باغتهم صاورخ إسرائيلي غادر حال دون إتمام صلاتهم، تقول السيدة زينب عن يوم الاستهداف: "ما حسيت وقتها غير إني تحت الركام وصوت ولادي بنادوا عليا، مش فاهمة شو صار ومين أنا ووين، كنا لسا كلنا حوالين بعض، بس شفنا ضو أحمر وما سمعنا صوت الصاورخ، بعدها اجاني منقذ يقلي في حد عايش قلتلو أنا والكل عايش على أساس أنه بما أنه أنا عايشة يبقى الكل كويس".
لم يكن بيت زينب البيت الوحيد الذي استهدفته الطائرات الإسرائيلية، بل كان الاستهداف لمربع سكني كامل بحزام ناري ناسف، تضيف: "حينما حاولوا انتشالي من تحت الأنقاض أخبرتهم أنني حامل ليراعوا ذلك أثناء عملية الانتشال، ووصلت لمشفى الشفاء وأنا لا أعلم عن أي أحد شيء، فقد كانت أعداد الإصابات ضخمة جدًا كونه مربع سكني كامل مليء بالمواطنين، وحقيقة كان التعامل مع الإصابات صعب جدًا نظرًا لقلة الكوادر الطبية وكثرة الإصابات".
تستذكر زينب لحظات انتشالها فتقول: "جاء خالي لي أثناء انتشالي وسألني هل سأستطيع التحرك فأخبرته أن ظهري يؤلمني جدًا ولن أتمكن من الحركة، فسحب فرشة وغطاء من تحت الركام وحملوني عليه وطوال مدة مكوثي بالمشفى بقيت على الأرض، اشتم رائحة البارود التي تنبعث من الغطاء الذي وُضع عليِّ".
لم تكن حالتها تتيح لها التحرك والتعرف على الحالات أو البحث عن صغارها، فُكتب على ملفات دخولهم للمشفى، "مصاب مجهول الهوية"، كانت أحد أقارب زينب مصابة معها بذات المشفى فتولت هي مهمة التعرف على المصابين. تردف: "لسوء حالتي أعطوني مهدئ، نعم كنت أخف الإصابات لكني كنت متعبة جدًا، سمعت الناس تقول لبعضها أم عبدالله اُستشهدت برفقة ابنتها آلاء، فُصدمت، جاء لي خالي فسألته من استشهد، صمت، قلت له أنني أعلم عن والدتي وآلاء، لكني الآن سأقول لك أسماء وأنت تجيبني بالنفي أو التأكيد".
عرفت زينب أن شقيقها عبدالله وصفاء وأطفالهم أسامة وبتول ومريم وماريا، ووالدة زوجته، وشقيق زوجته وأطفاله تحت الأنقاض، أما شقيقتها نوران وطفلها فريد استشهدوا وبقيت ابنتها سوار، فأخبرت خالها: "مستحيل تكون عايشة سوار، أن أمها استشهدت فهي وفريد راحوا لإنهم بفارقوش إمهم".
"صحيت أختي آية بعد ثلاث أيام من الغيبوبة، وعرفت أنه أخويا عز الدين استشهد فدخلت في حالة صدمة".
أما شقيقها عز الدين مصاب إصابة خطيرة، وشقيقها الآخر محمود مصاب بقدمه ولديه حروق، وحلا ابنة شقيقتها آية مصابة لكن لا تعلم أين هي، بعد مدة وجيزة عرفت مكانها، ومسك ابنة شقيقتها أيضًا اُستشهدت وأختها جودي مصابة بقدمها، أما والدتهم آية ففي العناية المركزة نظرًا لخطورة حالتها.
بقيت زينب ثلاثة أيام في الاستقبال رفقة طفلها سامي المصاب، وأشقائها عز الدين ومحمود وآية وأطفال شقيقتها كل منهم في مبنى مختلف، فلم يكن هناك متسع لحالات أخرى بالمشفى، تكمل: "صحيت أختي آية بعد ثلاث أيام من الغيبوبة، وبعدها عرفت أنه أخويا عز الدين استشهد فدخلت في حالة صدمة".
الأم الحامل في زمن الحرب
لم تجد زينب ما يدواي آلام جسدها وكان وجعها النفسي يفوق الجسدي، أخبرها الأطباء أنهم لن يستطيعوا أن يعطوها مسكن أو أي دواء يداوي آلامها نظرًا لحملها، تقول عن الحمل: "منذ اليوم الأول للحرب أُغلقت عيادة الوكالة التي كنت أتابع فيها الحمل، فلم استطع متابعة سير حملي وأطمئن على سلامة جنيني، ولم أتناول المقويات والفيتامينات التي كنت بحاجة لها، كما كنت أشتري مياه معدنية بمبالغ غالية نظرًا لندرة المياه النظيفة آنذاك، وبعد الإصابة ساءت حالتي فلم أعد أفكر في صحة الجنين فالصدمات التي تعرضت لها كانت كافية لتشغلني عنه".
وبينما كانت زينب تجاهد نفسها للوصول لتحسن في حالتها، وصلها خبر استشهاد شقيقها الحنون كما وصفته عز الدين، تضيف: "حكتلهم وقت ما سمعت خبره أنه حاسة أنه صار بالبيبي اشي، كان في دكاترة بس ما فادوني بشي، حكولي بنشوف دكتور من برا حكتلهم لا خلص، كنت يأسانة وقتها كتير، حسيت وقتها أنه ظهري انكسر طلع الوصف هاد مش مبالغة وأنه جد الظهر بنكسر، مش عارفة أعبر، بطلت عارفة على مين أزعل، مشاعري مخربطة من كتر الصدمات حتى البيبي اللي حسيت أنه صارله شي رفضت أتبع مع دكتور، مش أنه مش هممني بس الوضع أصعب".
لم يعرف زوج زينب وعائلتها بولادتها لجنينها عز الدين إلا بعد الميلاد بيومين نظرًا لانقطاع الاتصال
لاحقًا مرت الأيام بزينب لتصل لشهرها التاسع، ولكنها ولدت في ظروف صعبة، رفقة طفلها بهاء المصاب الذي سافرت به للعلاج في تركيا، بينما طفلها الآخر سامي سافر رفقة عمته للعلاج في الإمارات.
كيف كانت ظروف ولادة طفلك؟ تجيب زينب: "لقد وضعت طفلي في تركيا نظرًا لوجودي كمرافقة مع طفلي المصاب بهاء، وقبل ولادتي لم أطمئن ولا مرة على صحة الجنين، فقد كانت نفسيتي سيئة للغاية أول سفري، تركت طفلي المصاب الثاني سامي في غزة رفقة أشقائه وزوجي، وعادة أنا ألد وتكون معي أمي في غرفة الولادة، في الأربع أطفال الذين أنجبتهم كانت معي كل مرة، لكني الآن أحتاجها لكنها غير موجودة، فرزقني الله بسيدة وقفت بجانبي بغربتي كانت موجودة مرافقة لطفلها المصاب أيضًا".
لم يعرف زوج زينب وعائلتها بولادتها لجنينها عز الدين إلا بعد الميلاد بيومين نظرًا لانقطاع الاتصال، قد مرت أيام عديدة وهم لا يعملون عنها شيئًا وهي كذلك، حالها كأهالي غزة المغتربين، قضت ليالي عديدة وقلبها يذوب من ألمه على أطفالها بهاء وسامي، وها هو عز الدين جاء في ظروف قاسية، ليكون طفلها الخامس.
هول الإصابات والصدمات
تعود زينب للحديث عن إصابات أطفالها، فتقول عن طفلها بهاء: "أُصيب في عينه وأخبرني الأطباء أنه لربما لن يرى بعد ذلك، إضافة لقدمه المكسورة والحروق التي انتشرت في جسده، لم يتلقَ أي علاج في اليوم الأول، وفي اليوم التالي قطبوا جروحه، لكن لم يتابعه لاحقًا أحد، كنا نغير نحن له على الجروح".
أما ابنها الثاني سامي كانت حالته أسوء من شقيقه، فالحوض لديه مكسور، وقدمه ويده مكسورة، فتوضح: "لما طلعنا من مشفى الشفا لمشفى الأقصى بدير البلح، جبنا إسعاف على حسابنا الشخصي، لحتى نجري العملية تاعة الحوض لسامي، فزوجي حكى نعمل تحويلة الو حكيت بنعملها هنا مش مستاهلة نطلع برا، لكن عملنا التحويلة الطبية وطلع اسم بهاء أخوه للعلاج بالخارج قبل سامي، يومها رحت للمسؤولين اقلهم يطلع معنا بنفعش اسيب ابني، لكن ما في مجيب، ليلتها كنت مقهورة، سافرت أنا وبهاء وضل سامي طلع بعدنا بأيام مع عمته لمصر ثم للإمارات"
تسترجع زينب يوم أن داهمهم جنود الاحتلال في مشفى الشفاء، فوجه الجندي السلاح نحو طفلها الذي لم يتجاوز العشر سنوات بشكل مباشر، فصار ينادي طفلي: "يا ماما يا ماما". كانت وقتها تجلس على الأرض رافعة يديها لكنها بمجرد أن صرخ طفلها سامي ركضت نحوه، لتخبر الجندي أنه طفل مصاب، ومن يومها أُصيب سامي بصدمة نفسية فلم يعد يتحدث أبدًا، ولكن تفاصيل حالته النفسية اكتشفتها والدته حين سافر للعلاج بالخارج.
تكمل: "كان دم سامي ضعيف، وأُصيب بفايروس بالمعدة، شهر كامل ظل في مشفى شهداء الأقصى والأطباء لا يعلمون مما يعاني طفلي،لا يأكل ولا يشرب يعيش على المحاليل حتى انقطعت بفعل الحصار، وفي الإمارات اكتشف الأطباء حالته فكان لديه شظايا فوق الحجاز الحاجب وحوض مكسور، وإصابة بالكبد والكلى التي تعمل بنسبة 35%، وعنده سخونة دائمة إثر الالتهابات، ولديه أيضًا صدمة نفسية تسببت له في فقدان ذاكرة".
تعيش زينب حالة نفسية سيئة تبقى مع ابنها بهاء ومولودها في دولة، والابن المصاب الآخر في دولة أخرى، وبقية أطفالها جنى وأنس المصابونن بحروق في غزة مع والدهم، وكل ما تتمناه أن تنتهي الحرب ويُجمعها الله مع عائلتها، تنهي حديثها: "اطلعوا لغزة احنا مش مجرد أرقام احنا كل شهيد عنا الو قصة وحياة".

