"انفجار.. صاروخ.. موت.. إصابات".. لم تعي حينها ما الذي يجري كل ما تذكره المشهد الأخير للعائلة سويًا وهم يتناولون طعام العشاء، قطع فعلهم صاروخ إسرائيلي غادر ففتت الناس لأشلاء، قضى على أحلامهم وأمنياتهم بحضور لحظة وقف الحرب، قتل الأمل والذكريات والحاضر والمستقبل. في لحظة الاستهداف لم تأتي لهم سيارات الإسعاف ولا الدفاع المدني ليسعفوا ويطفئوا الحريق الذي اندلع.
ما هو أصعب حدث بقي عالق بذهنك؟ تجيب أسماء: "إصابة طفلتي ورفضها للتغيير على الجرح وبكائها المتواصل، وتركي لها بغزة كان الحدث الأشد وقعًا على نفسي، وأيضًا مشهد الشهداء والأشلاء على الطرقات أثناء ذهابي لمشفى ناصر بالجنوب".
مات معظم من في البيت محروقين، ولم يعلم أحد ما الذي جرى، ماذا شعروا باللحظات الأخيرة! هل قضوا نحبهم من اللحظة الأولى أم تعذبوا أولًا! ومنهم من بقي ست ساعات تحت الأنقاض يناجي الله أن يخرجه من بين الأسقف الإسمنيتة.
استهداف وقصف
وعن من نجى كمحمد وزوجته أسماء وأطفالهم عاشوا ليروا حكاية الناجين من موت محقق، هنا تحكي أسماء البطش وزوجها محمد البطش، عن قصفهم بشكل متعمد، وإصابتها وإصابة أطفالها، ومشوار العلاج الطويل لزوجها الذي أصيب إصابة خطيرة بالدماغ، ففقد ذاكرته.
في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، انقلبت الحياة رأسًا على عقب، ومنذ ذلك اليوم لم يعد لهم يوم قديم وذكرى، فعاشوا أيام مريرة، تقول أسماء: "كنا حوالي 100 شخص في بيت مكون من ثلاث طوابق، نزحنا له من بيتنا الذي يقع في منطقة حدودية بجباليا، وأغلب النازحين أطفال ونساء، اعتقدنا أننا في مكان آمن لكن قصفونا ونحن نتناول الطعام، أُصبت أنا وبنتي وابني، وزوجي أيضًا لم أعلم حالته في البداية حتى اتضحت الصورة لي فعلمت بخطورة حالته لاحقًا".
كانت أسماء وطفلها الصغير أول الناجين من البيت المقصوف، ومن بقى لقى حتفه وجزء آخر تم انتشالهم من تحت الركام بعد ست ساعات، كان الوضع آنذاك صعبًا للغاية فلا إسعاف يصل للمناطق المستهدفة، فنجى زوجها وطفلتها بعد ساعات من تحت الأنقاض بصعوبة، ولكن في البداية أخبرتها والدة زوجها أنه اُستشهد ثم اسأل أحد آخر فيقول لي: "ادعي له بالشهادة". حتى جاء الخبر اليقين أن حالته خطيرة للغاية.
تكمل: "ضليت مع بنتي وابني بمشفى كمال عدوان بشمال غزة لحد ما تم التنسيق نروح على مشفى ناصر بالجنوب هناك إمكانات أفضل، ووقتها مكنتش بعرف عن محمد اشي غير إنه عايش وحالته صعبة صرت أقول يستشهد أحسن ما يضل بإعاقة يتعذب أو يموت واحنا نكون بالجنوب وما ندفنه".
بعد 11 يوم من وجودها بجنوب غزة، تم التنسيق لزوجها للخروج من الشمال لخطورة حالته، إذ كان في مشفى كمال عدوان على فرشة وبطانية مغمورة بدمه النازف، فنقل لمشفى ناصر ولكن كان وضعه الصحي سيء جدًا ويحتاج لعمليات كثيرة ولا إمكانية لذلك.
تضيف: "تم التقديم لحوالة طبية للعلاج بالخارج، لننقذ حياة محمد، ولكن تم رفض خروج شقيقه كمرافق معه، فاضطررت للسفر معه رفقة طفلتي وطفلي، ليبدأ مشوار مرير، بدأ حينما أخذ المسعف طفلتي المصابة مني ليرجعها لمشفى ناصر بدعوى أنه اسمها غير منسق للسفر معنا، فكانت اللحظة الأصعب بحياتي أن تؤخذ طفلتي مني ولا اعلم أين هي هل وصلت أم لا من معها وكثير من التساؤلات".
فقدان ذاكرة
وسط كل ألمها ومأساتها اُنتزعت منها طفلتها صاحبة الثلاث سنوات، لتسوء حالتها النفسية، وتسافر هي مع زوجها المصاب لتركيا، لتبدأ مشوار علاج صعب جدًا، تقول: "كان محمد في غيبوبة وحالته سيئة، فهو مصاب بتمزق في النسيج الدماغي وكسر بالجمجمة، خطة علاجه كانت تركيب شرائح بالدماغ، لكن الأطباء الأتراك قالوا أنه لا داعي للتركيب سيتم علاجه وفق خطة معينة كونه فاقد لجزء كبير من الدماغ.
وحينما استيقظ كان فاقدًا للذاكرة لا يعرفني، ويطلب والدته وابنته فقط، فطلبت العودة لغزة لرفضه الشديد لي وفعله لتصرفات غير معتاد عليها، لكن سرعان ما بدأنا مع معالجين نفسيين فشخصوه آنذاك بصدمة نفسية، لنبدأ علاج مكثف لتعود له ذاكرته تدريجيًا".
لم تستطع أسماء التحمل، بلغ التعب منها ما بلغ، فكانت كعصفور جريح، تسأل الأطباء "لو اجتمع بأهله بتروح الصدمة".. فكان الجواب دومًا لا فهو يحتاج لوقت ليعود لطبيعته، أما عن فقدان ذاكرته لم يتذكر سوى أحداث ما قبل الحرب وذلك بعد تذكير من زوجته، تعقب: "كنت أساعده كثير بورجيه صور وبحكيله متى الحدث وشو المناسبة، كتبت الو كتير أحداث سابقة وهوا كان يضل طول الليل ويتذكر، إلا أنه فترة ما بعد قصفه حتى سفره لتركيا واستيقاظه من الغيبوبة لم يستطع تذكرها أبدًا وأخبرنا الأطباء أنه لا بأس في عدم تذكره لمأساوية الحدث".
بعد 5 أشهر من العلاج المكثف تحسن محمد كثيرًا، فسأله مذيع برنامج شاهد بودكاست، ماذا تذكر عن يوم القصف وماذا سألت أول استيقاظك من الغيبوبة؟ فرد: "أخبرتني زوجتي أنني كنت على درج البيت ماذا أفعل لا اعلم، وبالداخل كانوا يتناولون الطعام، أما عن ماذا سألت عن أشقائي وأهلي هل أحياء أم لا، كانت ذاكرتي مشوشة لا أتذكر زوجتي، اسألها السؤال عشر مرات، وأثناء جلوسي بالفندق مع المصابين كنت اسألهم السؤال أكثر من مرة، فيخبروني أنني سألتهم أكثر من عشر مرات، ولكني لا أذكر ذلك".
200 غرزة في رأس طفلتي
تعود أسماء للحديث عن إصابة طفلتها التي أُجبرت على تركها بغزة رغم حاجتها للعلاج بالخارج، لتحكي عن حالتها يوم الاستهداف، فتقول: "يوم قصفنا لم أر طفلتي أول يومين، سألت عنها قالوا لي إنها على قيد الحياة، طلبت الذهاب لها في قسم الأطفال، ولكن كان الذهاب لهناك صعب جدًا نظرًا لشدة القصف، ووجود الجرحي والشهداء في طرقات المشفى، أما أنا كان وجهي محترق بالكامل ومُغطى بالكامل بالشاش، لم أكن أرى اتحسس الطريق لأذهب لها،فأخذتني سيدة عمد طفلتي لأطمئن عليها".
أصرت أسماء على التنسيق للخروج لمشفى ناصر بالجنوب، فخرجت بعد الإصابة بأيام بطفلتها التي تحتاج لعلاج مكثف، "بنتي كانت عينها رايحة وبدها علاج وعمليات فاضطررت أطلع لما وصلنا حاجز نتساريم وقفنا على الحلابة فقال الجندي الست يلي لابسة أحمر تنزل وتفك الشاش عن وجهها، خفت كتير ربع ساعة واحنا على الحلابة، لغاية ما حكولنا يلا ارجعوا على الباص اللي اصلا منسق الو من ااصليب الأحمر لكن مع هيك نزلنا منه، وأطلقوا الكلاب على الباص وبنتي قعدت تعيط، لحد ما وصلنا لمشفى ناصر وبدأت رحلة علاجها لوصلت للشفاء".
لم تتعرض طفلة أسماء للإصابة مرة واحدة بل مرتين، والثانية في مشفى ناصر عندما اقتحمه جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانت الطفلة مع جدتها التي ترعاها بعد سفر والدتها، خرجوا وقتها من المشفى لمدرسة ليعيشوا بها كنازحين، تحكي أسماء أن أصعب موقف عندما انقطع الاتصال عن غزة ولم تستطع الوصول لأحد من عائلتها للاطمئنان على طفلتها، وحينها تظل تردد: "ياريت ما طلعت من غزة".
يضايق أسماء نفور طفلتها منها فلا تقبل على الاتصال بها، في كل مكالمة تخبرها أنها مشغولة وستذهب للعب مع أصحابها، تلوم الصغيرة على أمها تركها لها لوحدها في غزة، فتقول بصوتها الطفولي: "أنتِ سبتيني".
جُرح لا يُنسى
أما عن إصابة أسماء تحكي أنها كانت مصابة بتمزق بالقرينة ولم تكن تر بعينها اليمنى، وأصرت على عدم معالجتها حتى تطمئن على زوجها وابنها، تكمل: "أكبر صعوبة كانت تواجهني وأنا مصابة أنني اتنقل بين المشفى التي يبقى بها زوجي ومشفى طفلي، فأتنقل بينهم باستمرار، حتى جلبوا طبيب أطفال عند محمد فأصبحت الأمور أسهل ووقتها استطعت البدء في علاج عيني".
ما هو أصعب حدث بقي عالق بذهنك؟ تجيب أسماء: "إصابة طفلتي ورفضها للتغيير على الجرح وبكائها المتواصل، وتركي لها بغزة كان الحدث الأشد وقعًا على نفسي، وأيضًا مشهد الشهداء والأشلاء على الطرقات أثناء ذهابي لمشفى ناصر بالجنوب".
أما عند سؤال محمد السؤال ذاته، أجاب: "قبل استهدافنا بأربع أيام جاءني ابن عمي يخبرني أنه شقيقته قُصفت وهي تحت الأنقاض رفقة عائلتها، فركضنا للإنقاذ في السادسة صباحًا، لم يكن وقتها أي إسعاف، فتولينا مسؤولية البحث عن الجرحى والشهداء، وجدناها أشلاء رفقة الكثير ممن في البيت.
أخرجناها مع طفلها وطفلتها وزوجها الذي طار على سطح المدرسة المقابلة لبيته فكان عبارة عن أشلاء، فقمت بوضع ابنة عمي وأطفالها بكيس نايلون، ولم ننقذ سوى طفلة لها نجت وبقت الناجية الوحيدة من العائلة، رفقة ناجي آخر كان يصلي الفجر خارج المنزل يومها، أما باقي من بالبيت جميعهم قُتلوا". بعد حديث مطول عن عام الحزن الطويل، تختم أسماء حديثها وهي تتمنى أن تنتهي الحرب ويجمع الله شملهم مع عوائلهم في غزة.