على أرضٍ لا تزال تسكنها أصوات الرصاص، وصوت الأمهات المكلومات يطغى على كل شيء، وفي عالمٍ تتسابق فيه الأصوات، هناك من يصنعون الحكايات الخالدة بدمائهم وتضحياتهم، أحمد جميل نصر الله، ذلك الشاب الذي عاد إلى غزة رغم الآمال التي فتحت أمامه، والعروض التي أُغرِق بها، اختار طريقَا مختلفًا تمامًا، هو طريق الشهادة، طريق العودة إلى الوطن، وكأن قلبه كان يكتب كلماته الأخيرة بكل شجاعة، عازمًا على التضحية بأغلى ما يملك ليروي أرض جباليا بالدم الطاهر.
طفولة قرآنية وبر بالوالدين
تبدأ والدة الشهيد أحمد حديثها بكل فخر، "ولدي الحبيب أحمد، ربيته أنا ووالده الشهيد الأستاذ جميل نصر الله، وإخوته، كأنهم جدارٌ متين لا يُكسر، كان أحمد وأخوه الأكبر بشكل خاص يمثلان الأخوة الحقيقية؛ كانا سندًا حقيقيًا لبعضهما، ترسخت فيهم معاني الأخوة بقوله تعالى "سنشد عضدك بأخيك".
كنتُ وزجي قد حددنا هدفنا منذ البداية أن نبني جيلًا محبًا لله ورسوله،" كان أحمد في طفولته مواظبًا على المساجد، يرافق والده لطلب العلم وحفظ القرآن، حتى أتمه وهو في العاشرة من عمره، تميّز أحمد أيضًا بتفوقه الدراسي، فحقق معدل 94% في الثانوية العامة في الفرع العلمي، متحديًا كافة الصعوبات ليحقق ما يصبو إليه.
كان أحمد روحًا خفيفةً محبوبة في البيت، لا يفوته أن يرسم الابتسامة على وجه والديه، " كان قلبه متعلقًا بي، يخاف عليَّ كثيرًا، لم يكن يحتمل أن يرى أمه متعبة، فكان يبادر في مساعدتي بالأعمال المنزلية، يردد دائمًا كوني مرتاحة وأريني ابتسامتكِ، فهي تفتح أمامي كل دروب الحياة'."
أحمد نصر الله: فارس العودة إلى الوطن
عندما أنهى أحمد مرحلته الثانوية، قرر دراسة العلوم الشرطية في كلية الرباط بغزة، لم يكن طموحه الدراسي عاديًا، بل سعى بجد ليحصل على المرتبة الأولى في الكلية، وعندما سنحت له الفرصة للالتحاق بكلية الشرطة القطرية ضمن منحة دراسية، رأى فيها خطوة أخرى نحو تحقيق أهدافه الكبرى، فاجتاز عامًا من التحديات والتدريبات التي صقلت شخصيته وقوته، ليمثل في قطر وطنه ويكتب تاريخًا يليق به.
مع اقتراب موعد تخرجه، كان أحمد يتحدث مع أسرته عن قراره بالعودة إلى غزة ليكون جزءًا من النضال المستمر، وعندما تخرج بامتياز، كُرّم من قبل أمير قطر وحصل على عرض عمل مميز، لكن صوت الوطن في قلبه؛ فرفض العرض قائلاً: "وطني أولى بي."
استأذنني للجهاد فأذنتُ له
في معركة طوفان الأقصى، استشهد والد أحمد الأستاذ جميل، كان مُصابًا جللًا على أحمد وعائلته، لكنه لم يتراجع، بل واصل مسيرته على خطى والده، في جبهات القتال، حتى نال الشهادة في ذات المعركة. حول ذلك تقول والدة الشهيد: " انقطعت أخبار أحمد منذ بداية الحرب، كغيره من الجنود المجاهدة، كنتُ قد نزحت وعائلتي إلى الجنوب، جاءت الهدنة، فدخل عليَّ ولدي الأكبر، قال لي بصوت مرتج، يا أمي أحمد بخير! أحمد على الهاتف، حيٌّ يُرزق." شعرت كأن الحياة تعود إلى جسدي من جديد، فأمسكت بالهاتف وسمعت صوت أحمد لأول مرة منذ بدء الحرب، تحدثنا لا فرحة تضاهي فرحتي تلك اللحظة.
طالت الحرب عامًا كاملًا، كانت الأيام تمر كأنها سنوات، وكل مكالمة معه تحمل في طياتها ألمًا جديدًا، كان يكلمني من تحت ركام بيتنا، يقول لي، "يا أمي، أزلت الركام ونظفت البيت، أنتظركم أن نلتقي فيه مجددًا." ثم يعاود الاتصال بي مرة أخرى ليقول، "يا أمي، أكثري من الدعاء، فإني أخاف ألّا نجتمع، والله إني أشتاق إليك وإلى إخوتي شوقًا يعذبني كل يوم."
كم كان حبيبي قريبًا من النجاة، فعشرات الأمتار تفصل بينه وبين المنطقة الآمنة، وكان بإمكانه أن ينقذ حياته مثلما نصحه صديقه، لكن أحمد رفض، أغلق هاتفه حتى لا تضعف عزيمته أمام مناشداتنا وخوفنا عليه، وقال لصديقه، "لن أغادر هذه الأرض، لن يُكتب في تاريخي أنني هربت حفاظًا على روحي، وعاد إلى الثغور، يتنقل بين أخطرها، متحديًا طائراتهم ودباباتهم، يستند إلى إيمانه بالله وآياته".
وتضيف وهي تتذكر لحظاته الأخيرة: "حين أصيب أول مرة، لم يهرع هاربًا، بل عاد ليستمر في القتال، جرحه لم يكن عائقًا، فعاد إلى أرض المعركة بكل قوة رغم ألم جرحه، وكأن دماءه كانت تزيده صلابة وإصراراً على المضي."
في ذلك اليوم، يوم الأحد في الثالث من نوفمبر، كان موعد لقائه مع الله،مشتبكًا مقبلًا غير مدبر، كان جيش الاحتلال يتحدث عن حدث صعب في جباليا،بينما يقاتل أحمد ورفاقه بشجاعة تملأها عزة وتزكيها دماء شهدائنا.
ارتقى أحمد إلى السماء في ذلك اليوم، وكأنه يسطر بدمه تاريخًا جديدًا لكل شابٍ في جيله؛ ليكون مثالًا للتضحية، وقدوة حسنة فلم تشغله دنيا، بل أدار ظهره لنعيمها، ليشتري الآخرة ويقف أمام الله بفخر وكرامة. وفي استشهاده، أدركت معنى قول الله تعالى: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا." ترك لنا أحمد أعظم مثال على الصدق والوفاء بالعهد، وسجّل بدمه الخالد أسطورة الشرف والإباء.
ستكونين أول من أشفع له
يا لها من لحظاتٍ عصيبةٍ حين وصلني خبر استشهاد ابني، شعرت كأن قلبي انخلع من مكانه، لكن وكأن طيفه قد وقف أمامي يهمس لي: "يا أمي، اصبري واثبتي؛ فأنا ما زلت حيًا، لم أمت، أنا حيٌّ عند الله، بجوار أبي".
وقفت لأتوضأ وأصلي ركعتين، شاكِرةً لله، موقنةً بأنه أكرمني به وأنه استرد وديعته، كررت في دعائي: "يا رب، اربط على قلبي وأعني على الفراق، وثبِّتني وثبّت إخوتَه أن نكمل طريقه في سبيلك".
ومنذ تلك اللحظة، بدأت أرى كيف ترددت قصته في أنحاء العالم، شاهدت الناس يتحدثون عن بطولته وتضحيته، عن شجاعته وثباته، بل أصبحوا يأتون إليّ يسألونني كيف ربيتُه، كيف نشأ بهذه العظمة؟ وكأنهم يهنئونني، لا يعزونني، شعرت بالفخر الشديد لكونه قدوة عظيمة للناس، كنزٌ غالٍ منحه الله لي، عريسٍ في الجنة، محاط بالحور العين، وبجانب أبيه الحبيب.
وتعود والدته لتروي تفاصيل اليوم الذي استأذنها فيه أحمد للخروج إلى ساحة المعركة، تقول: "جاءني قائلاً، 'يا أمي، أستأذنكِ للخروج إلى نفير الحرب، للدفاع عن ديني ووطني، وللأخذ بثأر والدي". فقلت له:" لم أشبع بعد من لقياك، دع هذا للمرحلة القادمة". نظر إلي وقال: "يا تاج رأسي ، والله إنكِ أحب الناس إليّ، وأعدكِ يا أمي أن تكوني أول من أشفع له يوم القيامة إذا اصطفاني الله شهيدًا، لكني أرجو أن تسمحي لي بالسير في طريقي الذي طالما انتظرته. "
فضمَّته إلى صدرها ينتابها شعور الفخر وألم الفراق، وقالت له: "اذهب، فإني قد وهبتك لله، إما أن نلقاك وقد عدت بالنصر، أو نلقاك شهيدًا"، تتذكر الأم كيف قبَّل أحمد يديها وقدميها ورأسها في تلك اللحظات الأخيرة، وكانت عيناه تلمعان ببريق الإيمان والتصميم، ثم خرج بروح قوية ليلاقي رفاقه على خطوط الجهاد.
أخيرًا؛ توجه أم الشهيد أحمد رسالتها لنساء وأمهات العالم العربي والإسلامي، وقالت:" أوصيكن بتربية أبنائكن على القرآن أولاً، فالقرآن سيعلمهم كل شيء، وبتعليمهم الصلاة في المساجد خاصة صلاة الفجر، فهي تكشف عن معادن الرجال، كٌن قدوةً لهم في الزهد والصبر، وذكروا أنفسكم دائمًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".

