لطالما تساءلت، وأنا أرى من حولي الفاقدين لأهلهم، كيف يعيشون ليالي الفقد، وأستعيذ الله أن أكون منهم، أرتجف لمجرد التفكير بفكرة الفقد، فأنا لا أقوى على ذلك، لكن قدر الله أن تستشهد والدتي، أغلى إنسانة على قلبي في الحياة، عرفت حينها كيف يشعر الفاقدين!
شعرت أنا قلبي جمرة من نار لا تنطفىء أبدًا مهما حاولت، حُرمت من قبلة الوادع الأخيرة، كنت في جنوب غزة وهي بالشمال، قُصفت هي وأهلي، فقضت شهيدة، ولا أنسى اليوم الذي بُلغت فيه بالخبر، فشعور القلب وهو يهوى من مكانه لا يفارقني كلما تذكرت ذلك اليوم.
كانت مضاوي تدعو الله أن يجعل خاتمتها الشهادة، فحصل المراد، تردد "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وقبل القصف كانت تردد قول الله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"
يوم استشهادها كتب والدي"وجه القمر مضاوي شهيدة"، وأرسل الرسالة لي، شاهدها زوجي أولًا فحذفها، خوفًا على قلبي من استكانة أبدية، كان حدسي يخبرني أن أمي أصابها مكروه ما، لكن لم أكن أود التصديق أن مضاوي حبيبة الروح أصابها خدش واحد، ملاكي بالأرض كما أحب أنا ألقبها.
قُصفت أمي في ذكرى ميلادي، واستشهدت باليوم الذي يليه،مما ضاعف الغصة بالقلب، فكيف ل "مضاوي" أن تتركني! كيف لها أن تغادر الدنيا دون أن تطفيء معي شمعة الميلاد! كيف لي أن أدرك ما جرى! يتيمة أنا بحق في غياب "وجه القمر".
في 18 نوفمبر 2023، استهدف الجيش الإسرائيلي عائلتي التي تركت منزلنا الدافىء لتتجرع ويلات النزوح، تنتقل من مكان لمكان لعل وعسى أن تجد الأمان، لكن عبثًا، لا شيء في غزة آمن، نزحوا إلى معسكر جباليا إلى منزل خالتي، فقضوا 3 أيام من الرعب اللامسبوق، قُصفت منطقتهم بالقذائف، فخرجوا إلى أقرب نقطة من مشفى كمال عدوان، فقُصف مربع بلوك 8 ومدرسة الفاخورة، ما أدى لمجزرة الفاخورة التي خلفت أكثر من 450 شهيدًا، والدتي وابنة خالتي من ضمنهم.
في تلك الليلة التي قُصفت فيها عائلتي كان الناجي الوحيد هو الشهيد، فمن عاش سيعيش بأهوال القيامة التي قبعت في ذاكرته ولن تزول، لم يستطع أحد الوصول للإنقاذ من سيارات الدفاع المدني أو الإسعاف، صار أخي يصرخ على من في المحيط ليساعدوه في انتشال الشهداء والمصابين. رحلت "وجه القمر تلك الليلة، وأصيبت أختي رشا بشرخ بالرأس، أما شقيقي أمير فقد عينيه.
أما شقيقي أحمد يقوم بالتنفس الاصطناعي اليدوي لوالدتي، فظل مشهد والدتي الأخير عالقًا بذهنه يؤلمه، ولكن قدر الله نافذ اُستشهدت السيدة مضاوي في اليوم التالي.
كنت أنا في الجنوب وأهلي في الشمال عندا فقدت أمي، أعاني نار الاشتياق وأدعو الله بلم الشمل، فقدت الاتصال ليلة القصف بهم، فأرسلت إلى خالي "يخال كلمت أهلي اليوم طمني عليهم"، فقال: "ما تقلقي يا خال حالتهم مستقرة". ارتجفت حينها وبقيت أسأل ما الذي حصل، تعالوا لي ب مضاوي، عاد الاتصال بوالدي وأخبرني أن والدتي حالتها صعبة جدًا ولا يوجد إمكانات وأطباء بالشكل الكافي في الشمال لُتعالج. قبلها كان زوجي يعلم عن استشهاد والدتي لكن أخفى الخبر عني، شككت بحدوث مكروه من خلال رسالة على هاتفي "حكيتو لإسراء". فصمت وبدا الحزن على وجهه.
رحلت مضاوي حبيبة القلب، التي يحبها الجميع، معطاءة لأبعد حد، ملاك على الأرض، كنت أخبرها: "حرام يا إمي تكوني بالدنيا هي من كتر من أنتِ طيبة". أذكرها يوم ولادتي لسيلين ابنتي البكر، كانت تبكي عليَّ من شدة خوفها، يوم نزوحي للجنوب عانقتني العناق الأخير أنا وسيلين، كانت رحيمة بالعصافير التي تأتي إلى نافذتها، تضع لهم الطعام.
كانت مضاوي تدعو الله أن يجعل خاتمتها الشهادة، فحصل المراد، تردد "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وقبل القصف كانت تردد قول الله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، يعز عليَّ فراق حبيبتي وصديقتي الأولى، تركتنا نحن الخمسة، أختي المصابة ترعى أشقائي معتصم وعابد وهم لا يتجاوزون العاشرة، وأحمد ومحمد، وأنا رفقة أمير في رحلة علاجه في قطر، ووالدي جبل المحامل يذوب قهرًا من فراق شريكته، سلام وريحان لروحها.