نقشت النساء الفلسطينيات أسماءهن في التاريخ الفلسطيني، فمنهن من ساندن الرجل في رحلة النضال، وحجزن مكانًا لهن في الصفوف الأمامية في المقاومة، آمنّ بفكرة وعشنّ في سبيلها. وبجانب ممارسة حياتهن اليومية وأعبائها حلمن الهم الفلسطيني الجمعي، وقاومن المحتل منذ زمن طويل ما قبل الانتداب البريطاني.
قاومت النساء بطريقتهن الخاصة؛ فمنهن من حملن السلاح والتحقن بالركب النضالي المسلح، وكن أمهات وزوجات، ومنهن من اخترن طريق المقاومة الاجتماعية، من خلال المؤتمرات والندوات التثقيفية، والمظاهرات، ومساعدة الفدائيين، وتربية الأبناء على حب الوطن والمقاومة.
وهنا في بنفسج نستعرض أسماء نساء فلسطينيات مناضلات تزخر كتب التاريخ الفلسطيني بأسمائهن، فكن نموذجًا يُحتذى به، ومنهن من ظهرت أسمائهن قبل النكبة كالشقيقتين مهيبة وناريمان خورشيد، ومنهن ما بعدها كشادية أبو غزالة، ليلى خالد، آيات الأخرس، دلال المغربي.
ما قبل النكبة: مهيبة وناريمان خورشيد
كان للأختين مهيبة وناريمان خورشيد حضورًا بارزًا في ذاكرة النضال الفلسطيني قبل النكبة، فقد أسستا تنظيمًا عسكريًا نسائيًا اسمه "زهرة الأقحوان" في مدينة يافا بتاريخ 20 شباط 1947، وكتبتا في الوثيقة الخاصة بالتنظيم قسم سري يقول: "أقسم بشرفي وديني وملتي على موالاة مبدئي، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الخير والمساعدة لكل محتاج وضعيف، أشهدت رب العالمين على ما ذكرت، كما أنني لا أبوح به حتى الموت".
"أقسم بشرفي وديني وملتي على موالاة مبدئي، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الخير والمساعدة لكل محتاج وضعيف، أشهدت رب العالمين على ما ذكرت، كما أنني لا أبوح به حتى الموت"
وقعت على الوثيقة السرية عدد من المناضلات الفلسطينيات برزن في عهد الانتداب البريطاني، منهن صبحية عوض ونجمة عكاشة ومبرة خالد، وقد حفظن سرية القسم حتى نهاية حياتهن. وفي عام 1947 ساهم التنظيم في مساعدة الأسر الفلسطينية النازحة، وعمل على جمع المال لشراء السلاح والعتاد.
في عام 1967: شادية أبو غزالة
عُرفت شادية أبو غزالة بروحهها المقاتلة، تشارك في عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، تحب الشعر المقاوم وتردد على الدوام: "أنا إن سقطت فخذ مكاني.. يا رفيقي في الكفاح". قالت عنها فيحاء عبد الهادي في تصريح صحافي "إن وجودها في صفوف النضال الفلسطيني شكل نقطة تحول جذرية إذ تم الانتقال من العمل الاجتماعي والمقاومة الشعبية من خلال المسيرات وكتابة المنشورات التوعوية والتحريضية ضد الاحتلال إلى العمل العسكري المباشر".
تعلمت شادية في الخفاء فنون القتال وتدربت على السلاح وتصنيع المتفجرات، شهد جبل النار على شجاعتها ونضالها غير المعهود. ولدت في نابلس عام 1949، التحقت عام 1966 بجامعة عين شمس في مصر بتخصص الاجتماع وعلم النفس، ولم يطل بقائها خارج الوطن كثيرًا، فعادت إلى مسقط رأسها لتكمل دراستها بجامعة النجاح الوطنية، بالرغم من معارضة أهلها وخصوصًا بعد النكسة أصرت على قرارها لتنطلق في مشوار المقاومة.
انضمت إلى حركة القوميين العرب "التنظيم الفلسطيني" عام 1962، وفي عام النكسة واحتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وغزة، انبثقت عن الحركة تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة حورج حبش، ورافقه في الفكرة أبو علي مصطفى ووديع حداد وغيرهم، ورافقتهم شادية أبو غزالة كعضو قيادي.
شاركت شادية في الكثير من العمليات الفدائية بالتخطيط والتتفيذ، فشاركت مع فدائية تُدعى "أم باسل"، بوضع عبوة ناسفة في صندوق سيارة عسكرية، ما أدى لمقتل 3 جنود وإصابة آخرين. وفيما بعد تولت مهمة تنفيذ عمليات تستهدف مواقع عسكرية للجيش الإسرائيلي، وأم باسل عكفت على تدريب المجندات الجدد في نابلس. وفي 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1968، كانت شادية منهمكة في إعداد قنبلة لتفجرها في عمارة إسرائيلية بتل أبيب، فانفجرت في بيتها، وبذلك تكون أول شهيدة فلسطينية بعد النكسة.
وعن الحادثة تُعلق شقيقتها إلهام أبو غزالة، "كنا مجتمعين حول مائدة الطعام، الذي تقع في أقصى البيت، قرع الجرس، فهرعت شادية لفتح الباب، وإذ بانفجار يدب بالبيت، لتتصاعد النيران من كل مكان، فأخذنا نبحث عنها، ولم نجدها جثة كاملة، كانت أشلاء، تعرفنا عليها من خصلة شعرها وجزء من ملابسها".
دُفنت الفدائية شادية في مقبرة نابلس بجوار والدتها، وكتبت شقيقتها على قبرها أبيات الشعر المحببة لها للشاعر معين بسيسو "أنا إن سقطت، فخذ مكاني يا رفيقي للكفاح".
دلال المغربي
قال عنها الشاعر نزار قباني "أقامت الجمهورية الفلسطينية"، عُرفت منذ طفولتها بحبها للبلاد، انضمت إلى صفوف الحركة النضالية الفلسطينية منذ عمر مبكر، وعاشت في مخيمات بيروت وولدت فيها في 1958، ترجع أصولها إلى مدينة يافا ولكن عائلتها تهجرت منها لبيروت بعد النكبة الفلسطينية في 1948، التحقت بحركة "فتح" منذ شبابها، وكان لها دورًا بارزًا في الدفاع عن الثورة الفلسطينية في بيروت عام 1973.
تدربت دلال على استعمال السلاح، والتحقت بدورات عسكرية، ثم تطوعت للعمل كممرضة في الهلال الأحمر أسوة بوالدها. وعندما أنهت عامها العشرين، ترأست فرقة دير ياسين وكانت مسؤولة عن 12 مناضلًا، تقضي مهمتهم بالسيطرة على حافلة عسكرية تابعة لجيش الاحتلال والتوجه ل"تل أبيب" للانقضاض على مبنى الكنيست، بهدف الضغط على الاحتلال لإطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين، وسُميت العملية باسم "كمال عدوان" الذي كان قائدًا بارزًا في صفوف المقاومة، واُغتيل مع عدد من رفاقه عام 1977.
تمكنت دلال رفقة الفدائيين في عام 1978 من التسلل للأراضي الفلسطينية، ونجحت العملية واستولوا على سيارات عديدة، وتوجهوا رفقة الرهائن الجنود إلى "تل أبيب" فقالت دلال لهم "نحن لا نريد قتلكم، نحن نحتجزكم فقط كرهائن لنخلص إخواننا المعتقلين في سجون دولتكم المزعومة من براثن الأسر". أنهت حديثها وأخرجت علم فلسطين وعلقته بالحافلة وهي تقول: "بلادي.. بلادي لك حبي وفؤادي، فلسطين يا أرض الجدود إليك لا بد أن نعود".
وبينما كانت دلال بالقرب من تل أبيب، خرجت فرقة خاصة إسرائيلية يقودها إيهود باراك مهمتها إيقاف الحافلة العسكرية، وبالفعل تم توقيفها بالقرب من مستعمرة هرتسيليا، فاشتبكت دلال والفدائيين مع جنود الاحتلال من مسافة صفر وقامت بتفجير الحافلة ليُقتل كل الجنود بالحافلة والذين كانوا حوالي 37، وفيما أصيب ما يقارب الثمانون إسرائيلي، واستشهدت دلال ومن كان برفقتها.
آيات الأخرس
في 29 مارس/آذار 2002 نفذت آيات الأخرس عملية فدائية في مركز تجاري بمدينة القدس وتحديدًا "مستوطنة كريات يوفيل"، فجرت نفسها هناك، لتقتل اثنين من الإسرائيليين وتصيب حوالي 20 إسرائيليًا.
كان من المفترض أن ترتدي آيات ابنة مخيم الدهيشة ببيت لحم وصاحبة السابعة عشر عامًا فستان زفافها في شهر يوليو من العام 2002، ولكنها آثرت أن يكتب اسمها بحروف من نور في التاريخ الفلسطيني فرحلت لربها مقبلة غير مدبرة...
كانت يوم تنفيذها للعملية في درسها تحضر دروسًا تعويضية أقرها المسؤولين عن التعليم آنذاك، بسبب التأخير في الدورس نتيجة للاجتياح الإسرائيلي لمدينة بيت لحم، وبعد أن أنهت درسها ودعت زميلاتها وحين سألتها زميلتها عن خط سيرها اليوم، عانقتها، وودعت باقي الزميلات وأخبرتهن أنها ستنجز عملًا يخصها، وأعطت لرفيقتها المقربة ورقة وأوصتها بعدم فتحهها إلا بعد يوم.
بعد استشهادها انتشر مقطع مصور لها وهي توجه رسائلها، الرسالة الأولى كانت للحكام العرب فقالت: "كفاكم تخاذلًا"، والثانية للجيوش العربية التي تشاهد نساء فلسطين وهن يدافعن عن القدس والأقصى، والثالثة وُجهت للاحتلال الإسرائيلي. كان من المفترض أن ترتدي آيات ابنة مخيم الدهيشة ببيت لحم وصاحبة السابعة عشر عامًا فستان زفافها في شهر يوليو من العام 2002، ولكنها آثرت أن يكتب اسمها بحروف من نور في التاريخ الفلسطيني فرحلت لربها مقبلة غير مدبرة.
ليلى خالد
هُجرت عائلة ليلي من حيفا إلى لبنان بعد النكبة، وكان عمرها آنذاك 4 أعوام، فكبرت في مدينة صور اللبنانية، درست في اتحاد الكنائس الإنجيلية، أما الثانوية درستها في مدرسة صيدا للبنات، وفي عام 1963 التحقت في الجامعة الأميركية في بيروت، لكنها لم تدرس إلا عامًا واحدًا فيها، لعدم إمكانية عائلتها من تغطية مصاريفها الدراسية، أما في طريق النضال انضمت لحركة القوميين العرب.
في عام 1967 انضمت ليلى خالد لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانخرطت بالعمل العسكري للجبهة، وترأست عملية اختطاف طائرة أمريكية عام 1969 تكللت بنجاح ونتج عنها عملية تبادل أسرى، ثم مرة ثانية قررت أن تخطف طائرة إسرائيلية متجهة من إمستردام إلى نيوريوك، ولكنها فشلت وقتل خلال العملية رفيقها الأميركي باتريك أرغويلو على متن الطائرة على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية، بينما هي اُحتجزت في لندن لمدة شهر.
استمرت ليلى خالد ما بين العام 1973_1977، في نضالها في لبنان، وكان له حضورًا بين المهجرين والجرحي في المخيمات الفلسطينية، كما برزت بمهامها في الأمانة العامة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وتم انتخابها عام 1974 كعضو بارز بالاتحاد. ومن أبرز أعمالها مع الاتحاد عام 1978 تأسيس "بيت أطفال الصمود"، لرعاية أبناء شهداء مخيم تل الزعتر في بيروت، الذين سقطوا خلال الحرب الأهلية، فيما عملت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 في مساعدة المهجرين، والاهتمام بالجرحي.
حظيت ليلى خالد باهتمام الصحف وتحديدًا في فترة السبيعينيات والثمانينييات، وكُتب عنها مولفات، من أبرزها كتاب من تأليف سارة إرفنج وترجمة عبلة عودة. فيما كتاب شعبي سيحيا: مذكرات خاطفة الطائرات؛ كتبها كما روتها له جورج حجار"، وهو كتاب يضم مذكرات ليلى التي روتها للحجار، كما كتب عنها زوجها فايز رشيد كتاب بعنوان "ليلى خالد في عيون بعض حرائر وأحرار العالم"، عام 2021.