نختلف نحن البشر في درجات إحساسنا بالفقد، أو الشعور بالحزن والألم، فبعضنا يتواءم مع فكرة الفقد، مثل رحيل أحد الأحبة والأقرباء، لا يتجاوز حزن الفقد بل يتقبله ويعيش معه، ويمضي في ممارسة حياته ويبقى الفقد جزءًا منها. والبعض الآخر لا يتجوز صدمة الفقد وصبح الحزن الشديد سببًا في دخوله موجات اكتئاب عميق تؤثر عليه في كل ممارسات حياته.
وأشكال الفقد هذه لا تنفصل عن واقع الزوجات اللات فقدن أحبتهن في الحرب؛ فبعضهن عشن زمنًا وفيرًا مع زوجها وشريك حياتها، وأنجبن الأولاد، وصنعن بيوتًا ملؤها السعادة والمحبة، والمجاهدة والصبر لسنوات عديدة. وبعض الزوجات فقدن أزواجهن وهن لا يزلن على أعتاب الحياة الزوجية، فأصبحت أرملة وهي عروس لا تحمل في ذاكرتها إلا الصور الجميلة مع عريسها الذي أمسى شهيدًا.
مراحل الفقد
يمضي المرء، بحسب علماء النفس، بعدة مراحل في مصابه وحزنه، أولها: مرحلة الإنكار، وفيها تسأل الزوجة: ألن يعود زوجي ثانية، ألن يدخل البيت ويداعب أطفاله، ألن أسمع صوته للأبد. تدور أسئلة لا حصر لها في نفسها عند سماعها نبأ رحيل زوجها، وكأن وعيها يرفض تقبل الفقد وتصديقه، ويخيل لها أنها تعيش في كابوس مزعج لا بد له أن ينتهي. بل وتبرز أسئلة عن جدوى إكمال حياتها من دونه، وكيف ستواصل المسير، كيف ستقوى على العيش في غيابه.
وثانيها مرحلة هي مرحلة الغضب، الغضب من شكل الفقد وطريقته، الغضب من نفسها لأنها لا زالت تعيش وهو في طي الغياب. وكيف ينبغي للغضب أن يكون للزوجة الثكلى، بعضهن يتأمل صامتًا في حزن مطبق، وبعضهن يذكرن أزواجهن وبعض تفاصيلهم التي تغرقها في موجات الحزن الشديد، وبعضهن يتصبرن لأنه مات شهيدًا ويتمنين لو رافقته شهيدة. وربما تهدأ بمواساة من حولها أو تفريغها غضبها بالبكاء والكلام عن زوجها وتأملها في أقدار الله؛ إذ اصطفاه الله شهيدًا، وهل هناك كرم أكثر من ذلك؟
وثالث هذه المراحل هي المساومة، والانتقال من مرحلة إلى أخرى للتعايش مع الفقد هي بمنزلة القفز من العمق إلى السطح، فتبدأ المساومة، إذ تفكر الزوجة بأنها ستصمد في غياب زوجها، وستبذل كل طاقتها لأجل بيتها وأطفالها وأهل زوجها، وستون خير خلف لخير سلف، تعاهد نفسها بأن تحفظ العهد وتبقى عليه، وهذا كله مقابل رضوان الله وراحة زوجها الشهيد، وكأن ذلك سلوان لها وخير عوض في الآخرة.
في المرحلة الرابعة، تمضي الحياة، ولكن ربما يعتري الزوجة اكتئاب يلازمها في مسير الأيام، مع عديد من الأسئلة التي تداهم العقل آلاف المرات. وفي الخامسة ننتقل إلى حالة التقبل، ولكن التقبل لا يعني النسيان، ولا يعني جريان الحياة على طبيعتها البتة، الحياة لن تعود كسابق عهدها أبدًا، إذن هناك تقبل لأن الحياة قد تغيرت، والتقبل يكون تقبلًا لرحيله الأبدي.
كيف تتعافى الزوجة من فقد الحبيب
وهنا عرض لمسارات قد تساعد زوجة الشهيد على المرور في هذه المراحل في درجة من التعافي والالتئام:
1- التصالح مع الفقد كجزء من الحكمة الإلهية: وفي كل فقد، توجد حكمة سماوية لا تدركها العيون ولكن تشعر بها الأرواح المؤمنة. دعي الحزن يجري في قلبك كما يجري النهر في واديه، فهو طريق للسكينة والطمأنينة. تقبلي الحزن كجزء من رحلة روحية أكبر، فالله يختار لنا الطرق التي تقربنا إليه، وكل لحظة ألم تحمل بداخلها نوراً للشفاء.
2- اسمحي لزوجك بمرافقتك :استمري في التحدث عن زوجكِ، تذكري لحظاتكم معًا، وكوني فخورة بميراثه. فالذكريات التي تحملينها هي الشعلة التي ستبقيه حيًا في قلبكِ. وتواصلي معه عبر الدعاء والذكر والصدقة، للوفاء وجوهٌ وللاشتياق صورٌ لا تغيب.
3- الصبر كطريق للقرب من الله: الصبر هو الجسر الذي يوصلك إلى محبة الله ورضاه، وهو السبيل الذي تنبت فيه القلوب الندية وتثمر رضا وسكينة. الصبر ليس مجرد تحمل الألم، بل هو وسيلة تتفتح من خلالها أزهار الروح. كل لحظة صبر تقربك من الله وتجعلك أقوى في مواجهتك للمحنة.
4- العطاء كطريق للتعافي: في كل مرة تمنحين الحب أو تدعمين شخصًا، تستعيدين جزءًا من نورك الداخلي. اجعلي فقدانك قوة دافعة لتقديم الخير، فالعطاء للآخرين يساعدكِ على التغلب على حزنكِ ويعيد الحياة إلى روحكِ.
5- التحرر من مشاعر الذنب بالرضا بالقضاء والقدر: ما كان ليصيبك من ألم أو حرمان إلا بإرادة الله. القبول بقضاء الله هو أعلى مراتب الإيمان. وتذكري أن كل شيء بقدر. فلا تشعري بالذنب لأنك ما زلتِ هنا. الحياة هبة، والوفاء لذكرى من رحل يكون بمواصلة العيش بكرامة.
6- البحث عن السكينة في الإيمان: حين تضيق الدنيا بما رحبت، تذكري أن هناك سماءً أوسع تنتظر دعاءك. اجعلي من الإيمان والاتصال بالله ملجأكِ. الصلوات والذكر تهدئ الروح وتمنح القلب السكينة التي يحتاجها.
7- الاعتناء بالنفس والروح: المرأة التي تهتم بروحها تشبه زهرة تتفتح حتى في أصعب الظروف. وخصصي وقتًا للاهتمام بنفسكِ، سواء كان من خلال القراءة، التأمل، أو ممارسة هوايات تُشعرك بالراحة. روحك تحتاج العناية مثل جسدك.