بنفسج

في الدامون مرت ذكرى ميلادي: فأهدتني الأسيرات

الأحد 29 ديسمبر

الأسيرة بنان شريدة
الأسيرة بنان شريدة

في عالم غريبٍ عنا لا يشبهنا من على سفوح دالية الكرمل، ومن قلب قلعة الدامون قسم ٣، على وجه الخصوص،  في ظروفٍ استثنائية تحاول تجريدك من أي خيط أمل يحاول التسلل لقلبك هنيهة. هناك حيث تغدو القلوب قناديل معلقةً بحبل السماء رواؤها قرآن وأنيسها همس دعاء تهونها أرواحٌ سماوية تنسج المستحيل من المستحيل ذاته.

وأرواحٌ مثقلة تغدو كرقة الفراشة حينًا وجسارة خيلٍ برّية لم تُسرج بغير الريح حينًا آخر أمّا ما هو متفقٌ عليه بالإجماع بأنها لم تحنِ رقابها للجلاد ساعةً وما هو مفروغٌ منه بأن أحضانهن غدت البيت والعائلة والأنس في ذلك العالم الموحش.

هذا الفاصل هو أغلى عليّ من هدايا الكون كلّها قصّته ببساطة أنه لما كان العاشر من أيار وهو يوم مولدي، وجدت العطايا تفيض عليّ من حيث لا أحتسب، فقد وهبتني سجى وإباء حصة الخيار المخلل الخاصة بهما، وقد كانت المرة الأولى التي نتذوّق فيها طعم المخلل بعد شهر كامل فأصبحت حصتي حبة خيارة كاملة، ولن أُخفيكم بأنني انفجرت باكيةً عندها.

فلم أدرِ إن كنت بكيت على إتمامي لعامي في مكانٍ يحارب كل جميلٍ فينا، فنأبى إلا أن نفيض جمالًا أو على كوني فلاحة يزرع والداي حبات الخيار البلدي في حديقة منزلنا ثم تخلله أمي، والعمر الفعلي لزجاجة المخلل في بيتنا هو يوم واحد، فما إن تُفتح "سلامتك"، وها أنا يومها أستجدي نصف حبة مخلل من سجاني.

أما أسماء فقد أهدتني حصتها الغداء من بضع ملاعق البرغل، وهذا يعني بأنها حرمت نفسها من وجبتها لتؤثرني بها، لم يُفقد السجن أسماء رتابتها المعهودة وخروجها عن الصندوق وإبداعها فأعدت لي بها مقلوبة الجمعة ومن فتات الخبز كتبت لي بجانب مقلوبة يوم ميلادي H.B  لاصقةً حروفها بما تبقى من حصة المربى الصباحية...

 أم أن ذلك الشعور بعدم القدرة على استيعاب المنّة والجميل بأن أحدهم قد آثرني على نفسه إيثارًا أخاله أشد من إيثار الأنصار للمهاجرين، فأعطاني الطعم المالح الوحيد الذي حصل عليه من فترة طويلة، لأن الأسرى لا يعرفون للملح سبيلًا، تلتها حبة بيض من شيماء مخطوطٌ على قشرتها كل عام وأنتِ بخير. بخط شيماء الذي نحب وإيثار شيماء الذي يأسر، والبيض هو بديل اللحم والدجاج و هو مصدر البروتين للأسيرات! ما أعطى للبيضة بعدًا آخر فكانت كمن عزمني على كتف خروفٍ أو أكثر..

أما عن أسماء فقد أهدتني حصتها الغداء من بضع ملاعق البرغل، وهذا يعني بأنها حرمت نفسها من وجبتها لتؤثرني بها، لم يُفقد السجن أسماء رتابتها المعهودة وخروجها عن الصندوق وإبداعها فأعدت لي بها مقلوبة الجمعة ومن فتات الخبز كتبت لي بجانب مقلوبة يوم ميلادي H.B  لاصقةً حروفها بما تبقى من حصة المربى الصباحية، التي هي على العموم ملعقة واحدة.

وهبتني سجى وإباء حصة الخيار المخلل الخاصة بهما، وقد كانت المرة الأولى التي نتذوّق فيها طعم المخلل بعد شهر كامل فأصبحت حصتي حبة خيارة كاملة، ولن أُخفيكم بأنني انفجرت باكيةً عندها...

من ثم وصلتني كعكة يوم ميلادي من غرفة ١٠ معدة من خبز ومربى وشيءٍ من لبن يشبه اللبن الرائب، ولكن بحموضه أقل، ترتبها الأسيرات بطبقاتٍ متتالية وبلمسة حبهن تكتسب شكلًا بصدق يشبه الكعكة. الحقيقية وإذ بأهل غرفتي الكرام -غرفة ٤- يفاجئونني بكعكة أكبر حجمًا اشتركن فيها بحصصهن جميعًا لتكون كعكة يوم ميلاد معتبرة.

وتوافدت عليّ التهاني والتبريكات بيوم مولدي بقصاصات ورقٍ ناجية من قمعات سابقات من هنا وهناك. ثم ماذا عن الفاصل؟ الفاصل حكاية لوحده، من بداية الحرب لم تسمح إدارة مصلحة السجون بتوفير ليف استحمام للأسيرات، ولكن الحمد لله، فبلطف الجليل توافرت بعد مرور قرابة الستة شهور.

 والكرتونة المرفقة في الصورة هي الكرتونة التي تصاحب الليفة الجديدة، تحتفظ الأسيرات بأي شيء كان صغيرًا أو كبيرًا أملًا في الاستفادة منه، وهو ما كان..  تلصق الأسيرات دفتي الفاصل معًا بمعجون أسنان وتخط أناملهن بها عبارات احتسابٍ وأمل وكان هذا الفاصل هدية شيماء وليان ناصر والعبارة من اختيار أختي خُطت بيد حليمة أبو عمارة. 

عند خروجي، منع سجاني خروج أوراق المعايدات تلك معي، ولكن طمس الله على قلبه، فعندما سألني عن الفاصل أخبرته بأن هذا فاصل كتاب فتركه معي.. بين يديّ فاصلٌ صنع بأيادٍ تتحدّى كل ظلمٍ وظلام من عالمٍ مقطوعٍ عن العوالم جميعها ومن فتياتٍ هن من المجتمع صفوته بين يديّ نبل أسيرات شاطرنني الدمع والهم فبرئ.

اللهم آنس وحشة أهل غزة والأسرى واجبر قلوبهم وسرّي عنهم وأمنّهم من خوف وأطعمهم من جوع...
سجن الدامون/ ١٠-٥-٢٠٢٤