بكت مثل طفل فقد كل أمله في الحياة وهي تسعف سيدة حاملًا ماتت قبل وصولها بثوانٍ، فأصرت على أن تنقذ الجنين متذكرة القاعدة الطبية القائلة: "إن تستطعين النجاح بثماني دقائق فافعلي". أخرجت الطفل فهلل الحاضرون تكبيرًا، ولكن الجنين لفظ أنفاس الحياة والموت في آن واحد، وبقي صوت الموت وحده حاضرًا.
طبيبة النساء والولادة في مشفى الشفاء فادية ملحيس، تحكي عن عملها الطبي خلال العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، وعن ثلاثية الأمل واليأس والموت، والمواقف التي اقتحمت أسوار القلب لتبرحه كمدًا.
طبيبة من مشفى الشفاء
في السابع من أكتوبر 2023 بدأ أهالي غزة التوافد على مشفى الشفاء، هاربين من الموت، فقد ظنوا أنه أكثر الأماكن أمنًا في غزة، ولكن سرعان ما سقطت النظرية. تحكي الطبيبة فادية عن الآلاف الذين كانوا هناك فقدرتهم ب60 ألف نازح في بداية الحرب، تقول: "لم أكن مع النازحين في المشفى، أدوام في عملي ثم أغادر قبل المغرب بقليل إلى أولادي الذين يبقون بمفردهم، كون زوجي مغتربًا في تركيا، حتى اشتد الحصار أكثر فأكثر على منطقة الرمال حيث بيتي، إذ أضحى النظر من النافذة انتحار محقق".
عندما وصلت الدبابات باب بيتها، جمعت الأمتعة لتهرب من الموت رفقة عائلتها، فما كان منها التفكير إلا في مشفى الشفاء، لم يكن هناك متسع أبدًا لوجودها، لكن المشفى أعطتها غرفة الأشعة، تضيف: "كانت مساحة الغرفة ضيقة جدًا إذ تقدر مساحتها بمترين، وضعنا 3 فرشات فيها وبتنا ننام فيها عشر أشخاص، بقينا مدة شهرين أمارس فيهما أنا عملي كطبيبة نساء وولادة لكن الاجتياح الأول للمشفى حدث".
وما بين سلسلة اقتحامات عاشتها الطبيبة فادية، واصلت صمودها وعملها، 24 عامًا من العمل كطبيبة، وحاضت حروبًا كثيرة، لكن حرب الإبادة الجماعية هذه لم تشهد لها من قبل مثيلًا، كان الوضع مأساويًا للغاية في المشفى، فلا أدوية، ولا أجهزة، ولا إمكانات، حتى أسرة المرضى لم تعد تكفي بسبب العدد الهائل للإصابات، فالطبيب كان مضطرًا أن يؤدي واجبه الطبي في أي مساحة فارغة مهما بلغ ضيقها.
ومن الأمور التي أثرت على الطبيبة فادية لأطفال الخدج الذين يمكثون في الحضانة، فتقول: "كان يوجد لدينا عدد مهول من الأطفال الخدج، بعدما تحولت لنا أعداد كبيرة كوننا المشفى الوحيد الذي يحتوي حضانة الأطفال، 3 طوابق من المشفى كانت مخصصة لهم، ولكننا كنا نعاني من عدم توافر الأجهزة، ما أدى لوفاة جزء كبير منهم، بسبب البرد القارص وعدم وجود وسائل تدفئة، سوى قطع القصدير".
مواقف من ذاكرة الجرح
عاشت الطبيبة فادية لحظات مروعة في مشفى الشفاء، فلم يتح لها الحزن كما يجب، فعجلة الموت التي لا تتوقف عن الدوران تحتم عليها أن لا تسقط، فها هي تعدد المواقف المؤثرة التي هزتها بعنفوان، وتركت فيها جروحًا عميقة، تقول: "كثيرة هي الحالات الصعبة الذي عايشتها وأكثر ما كنت أتعرض له حينما تكون الأم مصابة ودخلت بغيبوبة وجنينها حي في رحمها، فيأتي الأب يبكي ويخبرني أنه يريد هذا الطفل فليخرج بسلام، تأثرت جدًا بكثير من الآباء الذين فقدوا زوجاتهم وأطفالهم".
ومن المواقف التي لن تنسها الطبيبة فادية ما عاشت، يوم أن جاءتها سيدة عاشت عمرها كله تحاول أن تكون أمًا، 12 عامًا من المحاولات حتى نجحت عملية زراعة الأنابيب، فدقت طبول الفرح في العائلة الصغيرة، ينتظرون أن تأتي الصغيرة لتعلن عهد الحب والأمل، لكن "إسرائيل" قتلت الجنين في بطن أمه.
تضيف فادية: "ماتت الطفلة بسبب شح الأدوية والبرد الشديد، فعايشت في عيون والدها وأمها حسرة لم تعهدها من قبل، كانت عيونهم تحترق والحزن كثيف جدًا". تعددت أشكال الألم في غزة، فمنهن من تشهد استشهاد طفلها الجنين أمام ناظريها، وآخريات شهدن مقتل العائلة كلها فنالت لقب الناجي الوحيد.
الذكرى المؤلمة
ومن الحكايات التي ذكرتها الطبيبة فادية، سيدة جاءها المخاض في الواحدة ليلًا، فخرج رفقتها من حي الشجاعية زوجها وشقيقه، لنقلها للمشفى، لاحظتهم الطائرات الإسرائيلية فألقت صاورخًا مباشرًا عليهم، قُتل شقيق زوجها على الفور، وتقطعت أطراف زوجها، وأصيبت هي، كانت واعية لما يحدث حولها حتى وصلتها سيارة الإسعاف، بقت حية ترزق لدقائق بعد الإصابة،وعند اقتراب الوصول للمشفى رحلت الروح لبارئها، بعدما عاشت ألم الولادة والفراق والرعب والإصابة في آن واحد.
استقبلتها الطبيبة فادية وأجرت عملية إنقاذ للجنين على بلاط المشفى، فخرج الجنين حيًا، ارتعش جسدها حينها، فعقبت: "كأنه رجعت النا الحياة فرحت مع كل خفقة من قلبه". ولكن سرعان ما انتفخ بطنه، لتكتشف أن شظايا الصاروخ شقت والدته ووصلت له لتستقر فوق الكلى، ليكون بين حياته وموته دقائق قلال.
بقيت فادية على الأرض تبكي بحرقة، وكلما خانتها عينيها وتغفو من شدة تعبها، لاح خيال الجنين أمامها، وحينها تذكرت الأطفال الخدج الذين قتلتهم "إسرائيل"، في مشفى الرنتيسي للأطفال، إذ حين حاصرهم الجيش الإسرائيلي منع الأمهات من أخذ أطفالهن، وبعد أيام عاد الجميع ليجدوا المواليد مقتولين وقد خرجت منهم الديدان.
تألمت فادية كثيرًا مع كل موقف، حتى طالها الألم في ابنتها، تقول: "كانت ابنتي تحتاج لعملية قيصرية عاجلة، لكن لا يوجد أطباء، ولا أدوية تخدير، سألت زميلي عن دواء التخدير فوفر لي بضع منه بأعجوبة، و4 حبات من دواء منع النزيف، فدخلت للعمليات لتكون ابنتي بين يدي وحدي".بمرور الأشهر اشتد الحصار أكثر فأكثر على محافظة غزة، لتقتحم القوات الإسرائيلية مشفى الشفاء للمرة الثالثة.
عندئذ بكت فادية المشفى الذي دُمر وزملائها الأطباء الذين قُتلوا، تقول: "راحت كل الذكريات، راح بيتي فجروه وسياراتنا راحت، عيادتي راجت، كل اشي راح، شقى وتعب 30 سنين كله راح بملح البصر". في ذلك الوقت قررت فادية أن تنزح لجنوب غزة، حتى تستطع السفر خارج غزة، حيث زوجها في تركيا، فجمع لها الأصدقاء الأتراك 40 ألف دولار لتدفعها لشركة "يا هلا" التي تنسق للغزيين للسفر بمبالغ باهظة، إذ تأخذ على الفرد الواحد 5000$.
أعلنت عبر صفحتها على "فيسبوك"، "من يريد أن يذهب للجنوب فلننسق سويًا لنخرج معًا". وبالفعل تواصل معها 120شخصًا، تكمل: "انتظرنا انسحاب قوات الجيش من مشفى الشفاء حتى نتمكن من النزوح، في تمام الثانية ليلًا أعلن الجيش انسحابه، وفي السابعة صباحًا تجمع الجميع لنذهب لشارع الرشيد سيرًا على الأقدام، وبمجرد اقترابنا من حاجز نتساريم صارت الدباباب تطلق النيران علينا فتراجعنا للخلف".
رحلت فادية من غزة، ولكنها تخوض مشوار آخر في بلد إقامتها لتحكي عن إجرام الاحتلال وما عايشته هي بأم أعينها، مشددة أنها لم تر في حياتها مثل الإصابات التي عايشتها في مشفى الشفاء، قائلة: "يستخدم الاحتلال أسلحة محرمة دوليًا، لم أعهدها في الحروب السابقة، إذ تتسبب في تفتيت الأعضاء، حتى طريقة البتر ونوعية الشظايا غريبة وقاتلة".