أعرف شذى منذ مدة لا بأس بها، مدة تجعلني أتعرف على مقدار شغفها ونشاطها وذكائها الاجتماعي، وكل هذه أسباب تجعلها محبوبة قريبة ممن حولها. وإنني كلما حاولت محادثتها منذ تحررها أقبل الزائرون والمرحبون منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل، فنؤجل محادثتنا إلى اليوم الذي يليه.
شذى تعلم حقيقة محادثتنا وأسئلتي الكثيرة والتفصيلية عن تجربة الاعتقال بكل تفاصيلها منذ حدث الاعتقال وشكله ومجرياته، ومراحل الاقتياد والتحقيق، وحالة القسم الذي وضعت فيه، والأسيرات من حولها اسمًا اسمًا،أسألها عن المأكل والمشرب والمنامة... وأسئلتي هذه منبعها تدوين تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية بالتركيز على الأسيرات الفلسطينات، لأنها كانت صحافية مراسلة لمنصة بنفسج، وتنجز المقابلات واللقاءات مع الأسيرات أو أهلهن، منذ بدء حرب السابع من أكتوبر.
الأسيرة المحررة شذى جرابعة

أول ما نود التعرف عليه في كل مقابلة هو الأسيرة المحررة، اسمها وبلدتها ودراستها وعملها، تجيبنا شذى: "أنا شذى نواف جرابعة، خرِّيجة جامعة بيرزيت تخصص أحياء فرعي كيمياء حيوية، سكرتيرة اللجنة الثقافية في دورة مجلس طلبة جامعة بيرزيت للعام 2022-2023. بعد التخرج، عملت في مؤسسة تُعنى بالشباب الفلسطيني وتطويره، وافتتحت مشروعي الخاص "بيع الملابس الشرعية للنساء أونلاين".
هل توقعتِ الاعتقال يا شذى، وقد كنتِ على اطلاع وعلى علاقة بالحالة الفلسطينية والفاعلين فيها منذ بدء الحرب، إذ لك علاقة بالأسيرات وأهلهن منذ المرحلة الجامعية وما بعدها، تقول شذى: "بعد طوفان الأقصى ومع بداية الحرب والعدوان على غزة، ارتفعت وتيرة الاعتقالات بحق الكل، دون تمييز بين شاب وشبل وشيخ وامرأة وغيره. ولأننا جزء من هذا الشعب، ولأننا تربينا نحمل الهم وندفع الظلم عن أخوتنا ولو بلساننا وبكلمة الحق، كنتُ مهيأة لتجربة الاعتقال عند الاحتلال، لكن مع مرور أشهر على الحرب واقتحام المنزل أكثر من مرة دون اعتقال أي أحد، تلاشت كل هذه الاحتمالات وعشت نوع من محاولات الاستقرار والإصرار على الاستمرارية بالعمل والإنجاز رغم كل الظروف، وافتتحت مشروعي الخاص في شهر أبريل/ نيسان 2024.
اعتقال الابن والابنة في ليلة واحدة

"في 16 آب/ أغسطس 2024 من فجر يوم الجمعة الساعة 1:45 فجرًا، اقتحمت آليات جيش الاحتلال بأعداد كبيرة وأحاطت المنزل، بل اقتحمت غرف نومنا قبل أن نتجهز للقائِهم.. دخولهم كان عنيفًا جدًّا، شتائِم عديدة وجهها الجنود إلى والداي، واحتجزوه في صالة المنزل.
دخلوا غرفتي وغرفة أخي عبد الرحمن في نفس الوقت، كبلوا يدي أخي وقاموا بتعصيب عينيه وهو لا يزال على سريره! واقتادوه خارج المنزل سريعًا دون وداع، كانت آخر لمحة أرى أخي فيها حتى يومنا هذا وهم يخرجونه من غرفته أمامي..أما أنا، فقد كنت أصرخ عليهم وأطلب منهم الخروج من الغرفة حتى أتمكن من ارتداء حجابي. وبرغم محاولاتي إلا أنهم لم يفارقوني داخل الغرفة واضطررت لارتدائه أمامهم.. فتشوا الغرفة وصادروا أغراضي وبعض ذكرياتي التي أحتفظ بها، ومن ثم فتشوني. اعتقدت في البداية أن الاعتقال كان لأخي، ولم أتوقع أن يتم اعتقالي أنا وأخي في نفس اللحظة! لم أتخيل يومًا أن يُفرغ البيت على والداي بهذه الطريقة، أنا وعبد الرحمن الأصغر في العائلة، نعيش معهما في المنزل وحدنا، والبقية متزوجون ولهم عائلاتهم المصغرة.
وما المشهد الأكثر صعوبة على الابنة الصغرى شذى وقت الاعتقال، تجيب: "مُنعت من وداع والدي ولكنَّني استرقت سلامًا عجولًا وأمي، وبرغم أن أعينهما كانت حمراء وتلمع وتكاد تفيض من الدمع، إلا أنني في هذه اللحظة اتخذت قرارًا بأن أخرج من المنزل بثباتٍ وابتسامة، وبفضل الله أعانني على ذلك. على الشارع أمام المنزل، ومن حولي الآليات والجنود مدججين بأسلحتهم متأهبين، التفتُ سريعًا موجهة أنظاري نحو شرفة المنزل "البرندة" فوجدت خيالًا لأمي وأبي وهم يراقبون اعتقالنا ورفعت يدي لهم ملوحةً بوداعٍ أخير!
بالنسبة لي، كان هذا المشهد الأصعب والذي رافقني طيلة أيامي ولاحقني في مواطن الضعف والعجز..لم أطل التفكير في كلِّ هذه التفاصيل، أعلم أن الظرف سيكون قاسيًا على الأهل، ولأننا في الأساس لنا أخ أكبر معتقل قبلنا بأشهر عديدة، لكنني اتخذت قرارًا بأن أبعد كل هذه الأحداث والأفكار عن مخيلتي، وكان هذا من لوازم المرحلة حفاظًا على نفسي ونفسيتي وتجربتي..".
نود لو تحدثينا بالتفاصيل التي كنت تدركينها بعد اقتيادك خارج المنزل منذ تعصيب عينيك، تردف: "على باب الجيب العسكري، تم تربيط يديّ بالمرابط البلاستيكية، ووضعوا عصبةً على عيني. في ساحة معسكر "بيت إيل" والتي أعرفها جيدًا تم تصويري عدَّة مرات من قبل الضابط أولًا ومن قبل الجنود، ومن ثم ذهبوا بي إلى معسكرٍ قريب "معسكر ترمسعيا غالبًا" ووضعت في غرفة وحدي معصبة العينين مكبلة الأيدي، مدَّني الله بصبرٍ مهيب وتدبيرٍ للموقف والحدث، برغم أن المرابط البلاستيكية بدأت تؤلم يداي وتترك آثار جروحٍ طفيفة وكدمات زرقاء بسبب الضغط، إلا أنني تجاهلتها وافترشت الأرض ونمت، مما أثار استغراب الجنود الموجودين في المعسكر حينها، لكنها تدابير الله ومعيته كما أسلفت..
سمعت آذان الفجر للمرة الأخيرة من القرى المحيطة بي، تيممت وصليت الفجر بقبلةٍ عشوائية.
سمعت آذان الفجر للمرة الأخيرة من القرى المحيطة بي، تيممت وصليت الفجر بقبلةٍ عشوائية..وجدت قلمًا على الأرض، فسارعت وكتبت الأذكار على جدران الغرفة، وبدأت أرددها..بعد عدَّة ساعات وقبل الظهيرة، أدخل الجنود كلبًا لتفتيش الغرفة التي كنت فيها، اقتادوني للسيارة التي ستنقلني إلى سجن شارون "معبار هاشارون"
الطريق كانت طويلة جدًّا، ومعاملة الجنود سيئة، يداي مكبلتان للخلف ظهري محني للأسفل، والمجندة تتكئ على ظهري طيلة الطريق، مع شتائم مستمرة وأسئلة عن انتمائي. -مين بتحبي أبو عبيدة ولا أبو مازن. - صمت. -إنتِ حماس ولا فتح؟ •ولا إشي-ولا إشي؟!! ولا إشي يعني حماس! كله بحكي ولا إشي وهو حماس.. وحوارات عديدة من هذا النوع، مليئة بالشتائم والتهديدات والوعيد المستمر..
إلى سجن الشارون مقبرة الأحياء

تستكمل شذى حديثها وتقول: "وصلت إلى سجن شارون مقبرة الأحياء ومدفن الخطوط الحمراء والحُرمات"، وبدأت مرحلة جديدة من الشتائم والدفع والشد مع استمرارهم بإعلان أن هذه الأسيرة حماس لتتغير المعاملة من سيء لأسوأ من قبل السجانين! يتم الاستقبال بتفتيش عارٍ تمامًا مصحوب بشتائم مستمرة كالعادة مع أوصاف مُهينة يُراد بها كسر نفسية الأسيرة خلال التفتيش، ومحاولات رفضك لهذا التفتيش يقابلها عنف وضرب وتهديدات بأن يتم إدخال سجان بدلًا من سجانة للتفتيش..
بعد الانتهاء من إجراءات السجن، نقلتُ إلى زنانة بين زنانين عزل المدنيين، أفرغت الزنزانة من كل مقدراتها حتى الفرشة الخفيفة التي تُضع على البرش الحديدي، جميع الأسرى المدنيين ينظرون من الباب بنظرات غريبة فضولية أحيانًا وشامتة أحيانًا أخرى، غالبيتهم موجود على خلفية قضايا دنيئة ( تعاطي مخدرات، تحرش، اغتصاب، قتل وضرب وغيرها).
وضعت في هذه الزنزانة قبل عصر يوم الجمعة تقريبًا وبقيت فيها حتى المساء ما بعد صلاة العشاء، طيلة هذا الوقت استمر الأسرى بالصراخ والشتائِم وخبط الأبواب، وتشعر كأنك في مكان للحالات العقلية والنفسية، واستمر بعضهم بمناداتي لساعات طويلة دون ملل.
مع حلول المساء نقلتُ إلى زنزانة أخرى، ضيقة جدًّا يوجد فيها حمَّام أرضي أمام الباب المكشوف للمارة، وهو بالأساس بلا أبواب داخل الزنزانة، ومقابل الحمام مباشرة يوجد كاميرا، وكاميرا أخرى في زاوية الزنزانة، الزنزانة بلا فرش ومليئة بالقاذورات والأوساخ والحشرات والنمل، تفتقد لأساسيات الحياة وأساسيات البقاء.. عشت في هذه الزنزانة أصعب التجارب وأقساها خلال رحلة الأسر كاملة!
تمكن أحد الأسرى المدنيين (سكان الضفة) أن يسرب لي مصحفًا! وكان هذا أعظم ما حدث معي!
طلبت من السجانين عدَّة مرَّات الذهاب لاستخدام المرحاض لكنهم رفضوا، ورفضوا أن يوفروا لي مستلزمات صحية خاصَّة للإناث رغم الحاجة المُلِّحة في حينها!كنتُ أمام خيارات صعبة، الأكل رديء وسيء، هل آكله لأنني لا أعلم ما هو الآتي في رحلتي ومدى حاجتي للطاقة؟ أم أمتنع عن تناوله وعن شرب الماء لأنهم يرفضون طلب خروجي إلى الحمام ومن الاستحالة استخدام الحمام داخل الزنزانة لأنه مكشوف ويقابله كاميرا كما أسلفت!
وهذا ما حدث، ٣ أيَّام في سجن هاشارون قضيتها بلا طعام ولا شراب، لكن الله مدَّني بقوَّة منه ولم أشعر حينها أنني بحاجة لهذا الطعام أصلًا وتمكنت من أن أحافظ على طاقتي ونفسي وثباتي قدر المستطاع، واستمريت في ذكر الله وتلاوة ما أحفظ من القرآن..في نهاية اليوم الثاني داخل هذه الزنزانة، تمكن أحد الأسرى المدنيين (سكان الضفة) أن يسرب لي مصحفًا! وكان هذا أعظم حدث وأكثره "طبطبة" علي..كان هذا المصحف نجاتي في لحظاتٍ حاول اليأس أن يتسلل إلي، وكان رفيقًا في وحدةٍ لم أعهدها من قبل، وكان عونًا وتثبيتًا لي حتى نهاية هذه المرحلة..".
إلى الدامون: سجن الأسيرات الفلسطينيات

في يوم الأحد 18/8/2024، نقلتُ عصرًا إلى سجن الدامون الخاص بالأسيرات الأمنيات، بحسب وصف الاحتلال، مرحلة تفتيش عاري جديدة، وتحقيق أوَّل من قبل المخابرات، ومن ثم نزلوا بي إلى القسم.هذه اللحظات القليلة ما قبل وصولي إلى القسم، كانت مليئة بالتوتر والترقب للقاء بقية الأسيرات، فهنَّ من سيشاركنني هذه التجربة، وسيتقاسمن معي لياليها وأيامها ولحظاتها، وفي الأساس كان لي في هذا السجن أحبَّة سبقوني إلى السجن، كنَّ الحبيبات (أمل شجاعية ووفاء نمر) أخواتي في الجامعة ورفيقات الأسر، والصديقة أسماء هريش، والخالة أم عناد "حنان البرغوثي"، وآخر من اعتقل قبلي من الأسيرات (براءة فقها) وغيرهنَّ الكثير من المعارف..
ما أن وصلتُ إلى داخل القسم وتم إدخالي إلى ساحته (الحتسير)، حتى بدأت الأصوات تعلو من الغرف أن هناك أسيرة جديدة في القسم، وأصوات أخرى تنادي باسمي: (شذى جرابعة أجت، شذى تعالي عنا احنا غرفة ١٠، شذى جرابعة من بنات بيرزيت، شذى من رام الله)، وبرغم هذه الفوضى إلا أنها كانت من لحظات الراحة الأولى في السجن، ومتأكدة من أن جميع الأسيرات عشن ذات التجربة وذات الشعور عند دخولهن لقسم الأسيرات...توجهت سريعًا لمصدر الصوت الذي أبحث!.
السعي وراء الصوت هو ولوج الطمأنينة، وربما يعني تحمل كل هذا الأذى النفسي رفقة الصاحبات، وهو أمر يهون، تقول شذى: "عندما رأيتهن كانت هذه من أكثر اللحظات المؤثرة، غلبتنا الدموع وتمسكنا بأصابع بعضنا من شبك الباب الحديدي، كان الباب حادًّا وثقيلًا على نفسي، فأنا المتلهفة لعناقهن ولقائهن بعد غياب، وهو الذي حال بين هذا اللقاء لأجسادنا، تطمنت على حالهن سريعًا وأخذت جولة سريعة عجولة على بقية الأبواب قبل أن أستحم وأدخل إلى الغرفة التي قررتها المخابرات (غرفة رقم 7)، لم أكن أعرف أي من الأسيرات اللواتي معي في هذه الغرفة وكنَّ يختلفن معي كثيرًا بالفكر والثقافة والرؤى، وكانت هذه إحدى محاولات الاحتلال لكي يزيدوا من الغربة في هذا السجن، إلا أنهم أخطأوا التقدير كعادتهم، فنحن نشترك في التجربة، يصيبنا الظلم ذاته والبُعد ذاته، بل إنها كانت فرصةً لتجربةٍ نوعية لم أكن لأحظى بها في أي ظرفٍ آخر أو تجربةً أخرى.
في اليوم التالي كانت بصمات منصة "بنفسج" جليَّة، شاءت الأقدار أنني قمت بعدد من المقابلات والحوارات مع أهالي عدد من الأسيرات قبل أسبوعٍ واحدٍ من اعتقالي لصالح منصة بنفسج. الأسيرات المتلهفات لسماع خبرٍ واحدٍ عن أهاليهن، أخبرتهن بكل التفاصيل التي نقلها أهاليهنَّ، وضحت لهن مدى اهتمامهم بهن، كان يومًا مليئًا بدموعٍ تضج بالشوق والحنين ونظراتٍ تحمل في ثناياها امتنانٌ لله الذي ساق لهنَّ الخبر والطمأنينة.
حمدت الله حمدًا كثيرًا وسألته القبول، وهو الذي ساقني لمثل هذه البشرى ولمثل هذا العطاء وهذه الرحمة! تذكرت اقتباسًا للشيخ الشعراوي كنت أحفظ معناه ويقول فيه: يسوق الله لك أحداً من أقصى الأرض، فيجمع الله بينكما من غير سابق معرفة ولا ميعاد، ثم يقضي الله حاجتك على يديه، وأنت الذي لو طفت الأرض كلها شرقاً وغرباً ما كنت تدري بمن تُنزل حاجتك، إنها ألطاف الله التي يُدبّرك بها من حيث لا تشعر، فاطمَئِن دائماً".
في أروقة التحقيق من جديد

بعد يومين، وفي ساعات الصباح الباكر أخبرتني إدارة سجن الدامون أن هنالك زيارة محامي لي، فأعددت نفسي لأول زيارة محامي ورتبت أفكاري وما أود إرساله لعائلتي وصديقاتي من رسائل ثبات وصمود ورفع للمعنويات، وبعد أن تم إخراجي من القسم فوجئت أنني ذاهبة لمركز تحقيق سالم!
حاولوا مباغتتي في التوقيت وعدم توقع الموضوع إلا أنني كنت على مستوى عالٍ من الجهوزية بفضل الله وبفضل والدي الذي كان قد هيأني لمثل هذه الأحداث وهذه التجربة فخضتها بأنفةٍ وثبات، وكانت كلماته ترافقني طيلة لحظات الاعتقال والتحقيق، كان قد أخبرني أنه سيقف بجانبي في أعتى الظروف، سيحمل همِّي عن كاهلي أمام الجميع، سيمسك بيدي نحو رضى الله وفي سبيله مهما كان الثمن، وكان كذلك وأكثر..
وأمَّا والدتي، فهي صاحبة القلب المرهف والمشاعر التي غالبًا ما تكون دفينةً تُطلقها للحياة في لحظاتٍ احتجت فيها لتلك المشاعر، كنت أعلم أنها المرأة التي خاضت من تجارب الحياة أقساها، وعانت في هذه الدُنيا ما عانت، وكنت على ثقةٍ بأنها ستصبر وتحتسب عند الله بعدنا والفراق، وكُنت أدعو الله لها بأن يربط على قلبها وأن يحفها بعطفه وحنانه..
عودةً إلى تحقيق الأول، وبعد جولاتٍ منه دون أن يُثبتوا أي تهمٍ خلالها، أخبرني المحقق بأنه وبجميع الأحوال لديهم ما يسمى بالاعتقال "الإداري"، وهنا يتيقن الواحد منا أنه لا حاجة لتهمٍ حقيقية حتى يتم اعتقالك. يكفي أن لا تروق لهم أو أن تصلهم تقارير من قبل العملاء أو أن يقرروا التنكيل بك وبعائلتك لأنك فلسطيني فقط..
كل محكمة هي فرصة لرؤية أحدٍ من عائلتي عبر الشاشة ولو كانت دون الحديث معهم أو رؤيتهم بوضوح
في التحقيق الثاني بعد أيام قليلة، تحولت صيغة التحقيق ومحتواه نحو أخي "عبد الرحمن"، وقال لي المحقق حينها "رح أجيب أمك وأبوكِ عندكم عشان يشوفوا كيف بتكذبوا ويشوفوا تربيتهم وكيف ولادهم بكذبوا بعض"... فما كان مني إلا أن ابتسمت وأخبرته أنني هكذا سألتقي بأمي وأن هذا سيسعدني، فلا مانع لدي.
مرَّت الأيام والمحاكم الكثيرة، بين إفراجٍ مترقب وبين تخوفٍ من تحويل الملف لاعتقالٍ إداري، وبين تأجيلاتٍ متعددة إلا أنها كانت تسعدني، فإن كل محكمة هي فرصة لرؤية أحدٍ من عائلتي عبر الشاشة ولو كانت دون الحديث معهم أو رؤيتهم بوضوح، إلا أن هذه الثواني المعدودة كانت تكفيني وتمدني بقوَّةٍ ورضًى لا حدَّ له..
النقل إلى غرفة رقم 11

بعد شهرٍ ونصف من الاعتقال، تحول سجن الدامون إلى مدفن ومقبرة حقيقية لكل إنجازات الأسيرات خلال الأعوام الماضية، دخلت قوات القمع إلى القسم وصادرت كل مقدرات الأسيرات ومستلزماتهم، لم يتبق للأسيرة حينها إلا ملابسها التي ترتديها وما استطعن تمريره عن أعين السجانين، فقد صادروا ملابسنا وفراشي الأسنان وأمشطة الشعر والحرامات وعلب الأكل والأحذية وما كان متبقٍ من الكتب وكل شيء حرفيًا.
نُقلت بعد شهرين إلى غرفة جديدة (غرفة رقم ١١)، وهي الغرفة التي عشت فيها مع أخواتٍ لي كنَّ بلسمًا وسط هذه المحنة، عشنا سويةً أيامًا نهوّن فيها على بعضنا كل صعب، تجاوزنا معًا ليالٍ ثقيلة، وصنعنا ذكرياتٍ طيبةٍ حُفرت في أذهاننا كما لو أنها نقوشٌ على جدرانٍ صلبة، لن تمحوها عواصف الزمن ولا تقلباته.
تكررت القمعات بين حينٍ وآخر، حتى أن الأسيرات تأقلمن على الفراغ وعلى قلة الموارد، كنا نسرح شعرنا بشوكة بلاستيكية نحتفظ بها، أو بأصابع أيدينا، كنا نتشارك الملابس حتى تلبي الحاجة بين كل استحمامٍ وآخر، نرتدي ملابس الصلاة على الجلد مباشرةً وننتظر ملابسنا حتى تُغسل وتجفف، نستخدم "كبسة كبَّاسة الورق" لخياطة ملابسنا وترقيع الفتحات وغيرها. التفاصيل كثيرة والظروف مستحيلة لكننا برحمة الله مضينا وصمدنا وبقينا..
الظروف الإنسانية في السجن ما بين الأسيرات متفاوتة ومختلفة، وأحلاهما علقم، فكم من أم تركت رضيعها واعتقلت، وكم من امرأة استشهد نجلها أو شقيقها أو والدها فزُجَّ بها في السجن، وكم من فتاةٍ سُلبت من أوج شبابها وتم إقصاؤها عن استكمال مسيرتها العلمية أو العملية؟! ماذا عن الأسيرات اللواتي شهدن تحرر عشرات الأسيرات أمامهن وما زلن يحسبن سنين عمرهن داخل الأسر؟ وماذا عن أسيرات غزة، من تركن أهلهن وأطفالهن وسط حربٍ داميةٍ ومحرقةٍ نازية؟!!
كان لزامًا علينا أن نلتزم الصبر، ونلزم الدعاء، ولا نبرح قيام الليل والمناجاة، وأن نكرس وقتنا للقرآن حفظًا وتلاوةً وتدبرًا، هذا الإيمان المطلق بأن ربنا يعلم حالنا ويتكفل بأمرنا، وأنه لن يمر يومٌ واحد داخل الأسر إلا وقد كان أمر الله النافذ وحُكمه الحكيم..!وما هو إلا ابتلاءٌ واختبار، فإما أن نسخط أو أن نُحسن التجاوز، وما إحساننا هذا إلا استجابة هذه الدعوات في خلواتنا مع الله، وما تجاوزنا إلا رحمةً من ربنا الرحيم الودود اللطيف الجبَّار..
بشريات الحرية

في تاريخ 11/12/2024 وصلنا أوَّل خبرٍ وبشرى، بأن هناك صفقةً تلوح بالأفق وهي أقرب من الشغاف للقلب، وكنَّا قد علمنا أنه وقبل تاريخ 20/1/2025 ستنتهي الحرب..منذ ذلك اليوم بدأنا نتجهز يوميًا وكأنَّ حرِّيتنا غدًا. وفي بعض الأيام كنا لا ننام الليل ننتظر أبواب السجن أن تُفتح لإشاعةٍ هنا أو تلميحٍ في غير مكانه هناك..
اختارت كلٌّ منا (لبسة الترويحة) مع أن الخيارات معدومة إلا أنَّ هذا الحس لم يغب عنا كفتيات في سجن الدامون، تبادلنا أطقم الصلاة مثلًا، وتبادلنا (بلايز الشاباص السكنية) بيننا أيضًا لنختار النمرة الأنسب، أخرجنا الحجابات التي كنا نخبّئها عن السجانين حتى نلبسها، في آخر شهر كنا نحرص على أن لا تبات أيّ قطعة من ملابس الترويحة خارج الغرفة لأي سببٍ كان، حتى نضمن وجودها في أي وقتٍ تفتح فيه الأبواب لحريتنا..كنا ننشد أناشيد الحرية لساعاتٍ طويلة، ونردد الأهازيج الشعبية من باب التفاؤل وتمريرًا للوقت العالق البطيء حينها..
وأذكر أنه بتاريخ 8/1/2025 وهو تاريخ آخر محكمة لي قبل الإفراج، بلغني المحامي عن القاضي أن محكمتي تم تأجيلها حتى تاريخ 23/2/2025 فكان ردي حينها: (إذا ضليت لوقتها). كنت على يقينٍ بأن الفرج قريب، كانت هذه حاجتي حينها، وأعلم أن الله يعلم حالنا ويدبر أمرنا ويقضي لنا حاجتنا.. في تلك الأيام حاول السجانون العبث بنفسية الأسيرات، من خلال تمرير أخبارٍ غير صحيحة حول الصفقة، أو نفي وجودها أصلًا، إلَّا أن هذا اليوم جاء حقَّا، فكان أمر الله نافذًا ووعد القادة صادقًا..
طوفان الأحرار: يوم الحرية

١٩/١/٢٠٢٥، يوم الأحد، بدأ النهار بهدوءٍ غير مُعتاد (بوكر توڤ-صباح الخير- العدد سيبدأ)، وكنتُ يومها الخلياه أو المردوان، حيث كان عليّ مهمة توزيع الأكل وغسل ملابس الأسيرات وخدمتهن بما يُتاح لي حينها..جاءت لنا الإدارة بوجبة الفطور، وكانت كمية الخبز ضئيلة جدًّا مقارنةً بباقي الأيام وكان التبرير حينها أن الخبز لم يصل بعد وسيكملون الحصص الخاصة بالأسيرات مع وجبة الغداء..اتخذت الأسيرات هذا الحدث كإشارة ودليل على أن هنالك احتمالية لوجود صفقة..!
وفعلًا خرجت إحدى الأسيرات بعد صلاة الظهر إلى المحكمة وعادت بالخبر تزفه إلى الأسيرات، أن اليوم الأحد ستكون الصفقة وأن اسمها مدرج ضمن القوائم، زاد تأهب الأسيرات وترقبهن، ومع ارتفاع الأصوات في القسم، تم إغلاقه على عجل..
بعد صلاة العصر جاء نائب مدير السجن وبدأ بتهديد الأسيرات عبر مكبر الصوت، بأنه يُمنع أي مظاهر للفرحة أو الاحتفال وأن نلتزم بما يطلبه منا السجانون حينها..بدأوا بذكر أسماء الأسيرات وإخراج كل أسيرتين سويًا، كانوا أحيانًا يخرجون كل الأسيرات من غرفة ويتركون أسيرة واحدة فتظن أنها لن تخرج ثم يعودون لها بعد غرفتين مثلًا..! اللحظات كانت صعبة ولكنها مجبولة بشوق اللقاء بأهلنا وأحبتنا.
في غرفتنا (١١) كانتا الأسيرتين شاتيلا أبو عيادة وآية الخطيب (أقدم أسيرات وأعلى أحكام) ممن ننتظر الصفقة لأجلهن، وأصعب لحظة كانت عندما خرج كل الأسيرات من الغرفة ولم يتبقى فيها سوا أنا وبراءة فقها وآية وشاتيلا..تمنينا حينها أن يَكُنَّ آية وشاتيلا الأسماء التالية لكنها أسماؤنا هي التي كانت! ودعناهم بوداعٍ خجول مليءٌ بالبكاء والدعوات والرجاء، وودعننا بثباتٍ ورباطة جأشٍ مهيبة..!
أذكر جيدًا ما أوصتني به شاتيلا يومًا، أنه مهما حصل وإن خرجت ضمن الصفقة أو لم تخرج فإنها تبلغ شكرها للمقاومة وتدرك أنهم قدموا الغالي والنفيس لأجل حريتهن وأنه لن يبقى لها يومٌ واحد لم يكتبه الله لها داخل الأسر.. تم توقيعنا على الأمانات ومن ثم تفتيشنا داخل سجن الدامون، شخصيًا تم مصادرة ملابسي الشتوية وبقيت بملابس خفيفة جدًا تحت طقم الصلاة رغم البرد، ومع وقت المغرب خرجت (البوسطات) التي نقلتنا من الدامون إلى سجن عوفر مكبلي الأيدي والأرجل طيلة هذه الرحلة..
كان جيش الاحتلال يعرض لنا مشاهد من دمار غزة مع عبارة (لا داعي للفرح هذا ليس انتصار)..
ما أن وصلنا سجن عوفر حتى بدأت رحلة من العذاب والعنف والمسبات والشتائِم، تم إخراجنا بعنف وقوة من البوسطة حيث أنهم كانوا يسحبوننا من شعرنا وبعض الأسيرات تم خلع حجابهن في هذه المرحلة..جلسنا جميعًا والأغلال تؤلم مفاصلنا والبرد ينهش عظمنا لساعاتٍ وهم يعرضون لنا مشاهد من دمار غزة مع عبارة (لا داعي للفرح هذا ليس انتصار)..
إلا أننا كنا على يقين بأن هذا هو النصر المحقق وأن هذه دعوة الله في أرضه، يتكفل الله بالنتائج ما دام السعي لها صادقًا.. قابلت الأسيرات جميعهن ضباط المخابرات بحسب المناطق وكان للتحذير من أي عملٍ يخالف رؤيتهم وأي احتفالٍ بالحرية، لذا كان الانتظار طويلًا وشاقًّا، تم نقلنا إلى الزنازين في سجن عوفر وهي أشبه بثلاجات كبيرة، ومرت اللحظات الأخيرة بعنفٍ بالغ، شهده أفراد من الصليب الأحمر دون أن يحركوا ساكنًا..
بعد منتصف الليل وبعد ساعات من القيود التي تركت آثارًا وآلامًا على أيدينا وأرجلنا حتى هذا اليوم الذي أروي فيه هذه القصة! تم تحريرنا من هذه القيود وصعدنا إلى باصات الصليب الأحمر، وانتظرنا دقائِق كثيرة حتى خرجت الباصات من سجن عوفر واستقبلنا أهلنا وأحبتنا وشعبنا، هذه اللحظات التي يصعب علي وصفها، هي تُعاش وفقط! تُتَابع بمشاهدها عبر التلفاز وكفى..!
الحمد لله الذي منَّ علينا بهذا الفرج وهذه الحرية، الحمد لله الذي أسعدنا وطمأننا وأتم علينا فرحتنا بانتهاء هذه الحرب وهذا العدوان على أهلنا في غزة..!الحمد لله أن رزقنا سندًا وجبالًا ضحت بأرواحها لأجل هذا النصر..هم أهل الفضل بعد الله ولا يُرجى لهم إلا الشكر والقبول..