عندما يقترب رمضان، تتزاحم في القلب مشاعر لا تشبه غيرها، وكأن الروح تعلم أن على الأبواب نفحات لا تعوَّض، ومواسم لا تدركها الأجساد إلا مرةً كل عام. لكنه ليس شهر الجوع والعطش كما يظن الغافلون، ولا موسم الولائم كما يظنه المترفون، بل هو أولًا وأخيرًا شهر القرآن.
رمضان هو الميقات الذي اختاره الله ليكون وعاءً لأعظم تجلٍّ في تاريخ البشرية، لحظة انبجاس النور، حين تنزل جبريل بكلمات الله على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وحين تفتحت الأرض على رسالةٍ لم تكن ككل الرسائل، بل كانت الضياء الذي يبدد العتمة، واليقين الذي يمحو الشك، والحياة التي تبعث النبض في القلوب الميتة.
لقد كان يمكن أن يكون رمضان شهر الجهاد فقط، أو شهر الزهد، أو شهر الصدقات، لكنه كان شهر القرآن، وكأن الله يقول لعباده: "كل ما ترجونه من رحمات، وكل ما تسألونه من خيرات، وكل ما تبحثون عنه من نورٍ وهدى، إنما هو في هذا الكتاب.”
القرآن في رمضان: رحلة التدبر قبل التلاوة

حين نسمع عن “ختم القرآن” في رمضان، تتسابق الأذهان إلى الأرقام: “كم مرة ختمت؟” وكأن الختمة هي نهاية الرحلة، لا بدايتها. لكن الحقيقة أن القرآن لم ينزل ليُعدّ بالمرات، بل ليُعاش! ولو تدبر الواحد منا آية واحدة حتى أضحت نبراس حياته، لكان ذلك عند الله أعظم من ألف ختمة بلا فهم.
إن التدبر هو السفر في أعماق الآيات، هو أن تنظر إلى كلام الله لا كنصوصٍ محفوظة، بل كرسالةٍ شخصية إليك، كأنك أنت المخاطَب، وكأن جبريل لم ينزل إلا إليك بها. حين تقرأ عن الصبر، تشعر أن الله يخاطبك أنت في محنتك، وحين تقرأ عن التوبة، تعلم أن الباب مفتوح لك مهما عظمت خطيئتك، وحين تمر على آيات الجهاد، تدرك أن حياتك كلها ميدان، وأن كل ضعفٍ فيك يحتاج إلى ثورةٍ لتنتصر عليه.
يقول الإمام الحسن البصري: “إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويعملون بها في النهار". فهل تدبرت الرسائل التي أنزلت إليك؟ أم أن المصحف لا يُفتح إلا للقراءة العابرة التي تُحصي الصفحات دون أن تحصي المعاني؟
في رمضان، تتهجد الأرواح قبل الأجساد، ويصبح الليل ميدانًا لسباق العابدين. لكن السؤال الحقيقي ليس كم قرأت، بل كيف قرأت؟! اقرأ القرآن كما لو أنه الدواء الأخير لروحك العليلة، لا كنصٍ مألوف تحفظه منذ الطفولة. عش مع آياته، وابكِ عند تهديده، وارتجف عند وعيده، وأمِّل عند وعده، وتعلق به كما لو أن نجاتك كلها في آيةٍ لم تصل إليها بعد.
عمر بن عبد العزيز – ذلك الخليفة الزاهد – كان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة، كررها حتى يسمع أهل البيت بكاءه، وإذا مر بآية فيها تهديد، وقف عندها حتى يُسمع نحيبه. هذا هو القرآن الذي نزل ليمس القلب، لا مجرد ألفاظٍ تلوكها الألسن بلا روح.
إن رمضان فرصةٌ نادرة لنعيش مع القرآن لا ككتابٍ محفوظ، بل كرسالةٍ متجددة، وكأنه ينزل علينا من جديد، وكأن جبريل ما زال ينادي في أسماعنا: “اقْرَأْ”.
"إن الله يحب المحسنين"

لا أحد يشكك في فضل التلاوة وكثرة القراءة، فكل حرفٍ بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لكن القراءة التي تُحدث الأثر هي التي تفتح لك باب العمل. رمضان ليس شهر التلاوة فقط، بل شهر التطبيق.
عندما تسمع “إن الله يحب المحسنين”، فلتكن ختمتك الحقيقية هي إحسانك إلى الناس. عندما تقرأ “ولا يغتب بعضكم بعضًا”، فليكن تتويج رمضانك هو أن تحفظ لسانك كما تحفظ صومك. عندما تمر على “وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها”، فليكن نور هذا الشهر هو إصلاح علاقتك بالله، وأخذ يد أهلك إلى المسجد كما تأخذهم إلى موائد الإفطار. القرآن لا يُتلى فقط، بل يُنفَّذ. والتدبر لا يكون فقط بالبكاء، بل بالسلوك الذي يعكس أن الآية سكنت قلبك حتى غيرته.
اغتنمي ليلة القدر

ليلة القدر: حين تنزل القرآن أول مرة.. فهل ينزل على قلبك اليوم؟ أعظم ليلة في رمضان، وأعظم ليلة في السنة كلها، هي ليلة نزل فيها القرآن. ليس ليلة الغنائم، ولا ليلة المسابقات، ولا ليلة البرامج الرمضانية، بل ليلة الوحي! فهل تأملت هذا السر؟ لماذا كانت ليلة القدر ليلة نزول القرآن، ولم تكن ليلة انتصار، ولا فتح، ولا كرامة أخرى؟
لأن القرآن هو الفتح الأعظم، هو النصر الأكبر، هو الكرامة التي لا تفوقها كرامة. فمن فاته القرآن، فاته كل شيء. ومن وصل إليه القرآن، وصله إلى الله. لذلك، في كل ليلة قدر، هناك معنى أعمق من مجرد صلاة طويلة ودعاءٍ كثير. إنها الليلة التي ينبغي أن تعيد فيها النظر إلى القرآن، أن تسأل نفسك: “هل أنا ممن يقيمون هذا الكتاب؟ أم ممن هُجر عنهم القرآن؟”
إياك أن تكون ممن يشكون إلى الله! أشد الآيات ألمًا هي قوله تعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” (الفرقان: 30). تخيّل أن يكون الشاكي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشتكَى منه هو أنا وأنت، والمشتكَى به هو القرآن! أي خذلانٍ بعد هذا؟ وأي خسارةٍ أشد من أن يشكوك نبيك إلى ربك لأنك لم تعش مع أعظم نعمة أنزلت إليك؟
رمضان فرصة، وليس كل فرصة تتكرر. القرآن حياة، وليس كل حياة تدرك معناها. فمن لم يعش مع القرآن في رمضان، فمتى سيعيشه؟! اغتنم رمضان قبل أن يُطوى بسجلِّ أعمالك، وأقبل على القرآن قبل أن يُقال لك: “اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا.”

