بنفسج

إسراء العرعير: حين يتجاوز الخبر عدسة الصحفي لذاته وذويه

الخميس 27 مارس

زوجات الشهداء في غزة
زوجات الشهداء في غزة

في اللحظات الأولى من الحرب، لم تكن إسراء العرعير تدرك أن هذه الحرب ستكون مختلفة عن كل ما غطته سابقًا. لم تكن تعلم أنها لن تروي قصص الشهداء من خلف العدسة، بل ستصبح جزءًا منها. كان زوجها إلى جانبها، قبل أن تسرقه غارة غادرة، تاركًا لها طفلة صغيرة ومسؤوليات لا تحصى. لم يكن لديها وقت للبكاء، فالحرب لا تمنح ترف الحداد، والصحافي الفلسطيني لا يملك رفاهية التوقف، حتى وإن كان هو نفسه الخبر العاجل.

ولم يكن فقدان الزوج هو الاختبار الوحيد، فسرعان ما وجدت إسراء نفسها تائهة بين خرائط النزوح، متنقلة بين غزة وخانيونس ورفح ودير البلح والنصيرات، بحثًا عن مأوى يحمي طفلتها من برد الشوارع ولهيب القذائف. ثمانية عشر مرة، حملت طفلتها وهربت، تاركة وراءها بيتها، ذكرياتها، وحتى أدوات عملها الصحفي التي دُفنت تحت الأنقاض. لكنها لم تحمل قلبًا منكسرًا، بل روحًا تأبى الاستسلام.

طفلتي ترافقني في الميدان

زوجات الشهداء في غزة

كانت الحرب قاسية، لكن أكثر ما أوجع قلبها هو نظرات طفلتها، التي كانت تتشبث بها كلما تحركت. الميدان كان يناديها، والمهنة تفرض عليها أن تروي الحكايات، لكن كيف تشرح لابنتها أن عليها الذهاب إلى حيث تسقط القذائف؟ لم تكن تملك خيارًا، فقررت أن تأخذ طفلتها معها إلى الميدان، حيث الشهادة أقرب من النجاة، لكنها كانت تدرك أن الصحافي الفلسطيني لا يختبئ، حتى وإن كان يحمل قلب أم.


اقرأ أيضًا: سها نصار: أحمد الرضيع حلّ ضيفًا ورحل


في هذه الحرب، فقدت إسراء كل شيء، حتى أدوات عملها. دُمرت كاميرتها، احترق حاسوبها، ولم يبقَ لديها سوى هاتف متآكل البطارية. لكنها لم تتوقف، فقد كانت تعرف أن الصحافي الحقيقي لا يحتاج إلى معدات بقدر ما يحتاج إلى عزيمة. واصلت الكتابة والتصوير بما تيسّر، لأن الرسالة يجب أن تصل، ولأن القصة يجب أن تُروى، حتى لو كانت دموعها هي الحبر الذي تكتب به.

حرب لا تمنح ترف الحداد

زوجات الشهداء في غزة

لم تكن إسراء تظن أن زوجها سيكون خسارتها الوحيدة، لكن الحرب أبت إلا أن تمعن في قسوتها. بعد أشهر من فقدان زوجها، فقدت أشقاءها أيضًا. عاشت تفاصيل الفقد بكل أشكاله، ولم يسلم من عائلتها إلا القليل. كانت تعرف أن كل بيت في غزة قد خسر أحدًا، لكنها لم تتخيل أن يصل الفقد إلى مئة من أقربائها وأصدقائها. ورغم ذلك، لم تنكسر، ولم تتراجع، بل واصلت العمل، لأن الصحافي الفلسطيني لا يحمل قلمه بيده فقط، بل يحمله بروحه أيضًا.

حينما كانت تهرب من مدينة إلى أخرى، تذكرت جدها الذي عاش نكبة 1948، الرجل الذي حمل رصاصة في قدمه منذ صباه ولم يتخلّص منها حتى رحل في 2015. لم تكن الحرب بالنسبة لإسراء مجرد عدوان جديد، بل كانت إعادة تمثيل لقصص التهجير التي عاشها أجدادها. شعرت أنها تعيش نكبة جديدة، لكنها هذه المرة ليست مجرد رواية من الماضي، بل واقع مرير يعيد نفسه، دون أن يتوقف العالم لينظر إلى هذا الجرح المفتوح منذ عقود.

صحافية بلا معدات صحافة

زوجات الشهداء في غزة

رغم كل ما فقدته، لم تفكر إسراء يومًا في التوقف عن العمل. الصحافة بالنسبة لها لم تكن مجرد مهنة، بل كانت سلاحًا آخر من أسلحة المقاومة. كانت تعرف أن الصحفي الفلسطيني لا يعمل من أجل المال، بل من أجل الحقيقة، وأن التغطية لن تتوقف إلا حينما يتحقق الحلم الأكبر.. العودة إلى الأقصى محررًا.

إسراء العرعير ليست مجرد صحفية، بل قصة نضال تتجسد في امرأة فقدت كل شيء، لكنها لم تفقد إيمانها بأن الكلمة، مثل الرصاصة، قادرة على اختراق جدران الصمت. ستستمر في الكتابة، لأنها تؤمن أن الحكاية لم تنتهِ بعد، وأن التغطية القادمة ستكون من ساحات الأقصى، حيث لا خوف ولا نزوح، فقط وطن يعود لأصحابه، وتضحيات لا تذهب سدى.