بنفسج

سها نصار: أحمد الرضيع حلّ ضيفًا ورحل

السبت 25 يناير

سها نصار شهادة على حرب الإبادة
سها نصار شهادة على حرب الإبادة

في ليلة من ليالي أكتوبر الباردة، وبينما تهدهد على صغيرها الرضيع، وتدعو الله بالنجاة له ولكل الأحبة، باغتهم صاروخ إسرائيلي قطع مناجاتها، فلم تر نفسها إلا بين الركام، تصرخ "بدي ابني أحمد.. وين ابني". صغير بعمر الخمسة أشهر، سلبت "إسرائيل" أمنيات أمه أن تراه عريسًا كما أرادت.

 جاءها بعد شوق جارف، 4 سنوات وهي بانتظاره ليكون شعلتها الأبدية في الحياة، لكنه قُتل وقتلت أحلام والدته معه، لم يكن لوحده، بل حلق رفقة والده محمد إلى السماء، لتنال هي لقب زوجة الشهيد وأم الشهيد، فصبرت عند الصدمة الأولى، أنزل الله على قلبها سكينة لم تعهدها من قبل، فكان شعور لا يوصف.

 أعلنت فخرها باللقب، وهذا لا يتعارض مع حزنها وقهرها على رحيل عائلتها الصغيرة وتركها وحيدة تواجه حرب إبادة جماعية. يفرد بنفسج في هذا التقرير مساحة للسيدة سها نصار لتروي قصتها مع الفقد، ولتتحدث عن إصابتها الخطيرة وكيف نجت من موت أكيد، عن زوجها محمد علي وطفلها الرضيع أحمد، وعن اللحظات الأخيرة.


يوم أن دُفنوا تحت الركام

شهادات الإبادة في غزة.jpg

في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبل الساعة السابعة والربع مساءً كان زوجها محمد معها، وكل العائلة، يباغتهم محمد بالقول: "نذر عليا لو طلعنا من الحرب بالسلامة رح أدبح خروفين". فردد الجميع: يارب النجاة.. يارب السلامة". وبعد دقائق اهتز البيت لتسقط الحجارة فوق رؤوس ساكنيه كالمطر.

 صرخت سها: "علينا القصف علينا". علقت بين الركام الذي قيّد جسدها، لم يأت في بالها إلا نطق الشهادتين أولًا، فهي على أعتاب لقاء الله عزوجل، بقيت عالقة ما يقارب النصف ساعة، ظنتها هي دقائق قليلة حتى أخبروها بالوقت التي ظلت تقاتل فيه وحدها. تقول ل "بنفسج": "عندما بقيت لوقت تحت الأنقاض، أدركت حينها أنني لم أمت، ويمكنني النجاة، وهنا أصبحت أساعد نفسي بالخروج ورفع الحجارة عن صدري وجسمي.

 حاولت إخراج جسدي كاملًا لكنني لم أستطع. كانت ذراعي اليمين وساقي اليسار عالقتين تحت الردم، بعد أن فقدت الأمل بإخراج نفسي بنفسي تنبهت لوهلة على شباب ينادون على أي ناجٍ، هنا حاولت أن أنادي عنهم بكل ما استطعت ولم أدرِ كيف خرج صوتي من حنجرتي وأنا بالكاد أستطيع النطق".
طلبت منهم سها البحث عن ابنها وزوجها، فأخبروها أن باقي المنقذين يقومون باللازم، واصطحبوها لمشفى كمال عدوان.

مرت الليلة ولم أنم أبدًا، لا أعلم شيئاً عن زوجي وابني وأهل البيت، لم أر أي منهم في المستشفى، في الساعة الحادية عشرة مساءً اتصلت بأختي ورجوتها أن تخبرني أي خبر عنهم، قالت لي: احتسبيهم لوجه الله يختي، لسه ما بنعرف عنهم شي...

 تضيف: "مرت الليلة ولم أنم أبدًا، لا أعلم شيئاً عن زوجي وابني وأهل البيت، لم أر أي منهم في المستشفى، في الساعة الحادية عشرة مساءً اتصلت بأختي ورجوتها أن تخبرني أي خبر عنهم، قالت لي: احتسبيهم لوجه الله يختي، لسه ما بنعرف عنهم شي"، قلت لها أنا متأكدة من أن زوجي محمد شهيدًا لأنه آخر أيام كان في أفضل أحواله، وكأنه على وشك الشهادة، لكني أأمل أن أجد ابني أحمد حيًا يرزق". 

لم يطل انتظارها طويلًا، جاءها أهلها في صباح اليوم التالي، ليخبروها باستشهاد زوجها وابنها الرضيع، و 25 شخصًا من العائلة، ومن نجوا من البيت المستهدف 6 أشخاص، لم تتلفظ حينها سوى بعبارات الحمد، فتعقب: "احتسبتهم لوجه الله تعالي من كل قلبي، مش شطارة مني أبدًا، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والحمد لله أن أكرمني بالصبر عند الصدمة الأولى، وربنا يجعلني من عباده الصابرين المحتسبين".

رحيل رفيق الحلوة والمرة

مفقدون في غزة.jpg

تستذكر سها لحظات لقاءها الأول مع شريك الطريق محمد علي، تزوجا زواجًا تقليديًا في العام 2019، لم يكن يشبهها أبدًا، ويخبرها "أنا هيك الله خالقني دقة قديمة"، تقول: "حاولت تقبل صفاته التي لا تشبهني، عشنا معًا على الحلوة والمرة، اختلفنا كثيرًا في مبادئنا الحياتية لكننا كنا نتنازل ليسير مركب الحياة، ولأجل الحب الذي أراه في عينيه".

لم يكن محمد رجلًا يحب إظهار مشاعره أمام الناس وهذا تعرفه سها علم اليقين، لكنه قبل استشهاده بأيام، نادته على عجالة من بين جمع كبير من العائلة، فرد: نعم يا عيون محمد، يا روح محمد، يا قلب محمد". يومها فغرت فاهها من الدهشة، وضحكت على استحياء، وما زالت حتى اليوم تذكر طريقته وبسمته وصوته، وكأن الموقف حدث للتو.

كان محمد يشعر بقرب الأجل، لكن سها لم تدرك إلا بعد استشهاده، كانت تظنها هواجس الحرب، تكمل ل "بنفسج": كان يقول لي أغلبنا سينال الشهادة، ومن سيعيش سيروي الحكاية، فأرد أنا سوف نعيش أنا وأنت وطفلنا ونخبره كيف نجونا من هذه الحرب، فأخبرها أنه لو عاش يود مسحها من ذاكرته".

وعلى الرغم من قلق محمد على العائلة، وانتظار دوره في طابور الموت إلا أنه لم يفقد حسه الفكاهي، فيقف في صدر البيت ليقول بابتسامة: "سنموت بعد قليل". "كان واثقًا أنه رح يستشهد هو وأهله، وأنا كنت بكذّب إحساسه وما بدي أصدق.. بس ما كنت بعرف أنه أنا اللي رح أضل من دونهم." تقول سها.

قبل استهداف بأربع ساعات أصرت سها على مغادرة البيت والنزوح إلى مشفى الرنتيسي حيث تعمل مختصة للعلاج الطبيعي، فرفض محمد لأن أباه سيرفض الخروج، فأخبرته أن إقناع حماها سيقع عليها وعليه،  وطلبت أن تتصل بزميلتها لتحجز غرفة بالمشفى وبالفعل حجزتها ليذهبوا إليها صباح اليوم التالي، لكن لم تشرق شمسه أبدًا، نجت هي واستشهدت العائلة.

رحل محمد وظل صوته يتردد في أذنها وهو يرد على سؤالها: لو متت بتتزوج؟ فيرد: "أنتِ تسهلي، وعيب عليا إذا بعملها". فتضحك هي من قلبها، في يومه الأخير طلبت من شوكلاته فجلب لها حقيبة من كل أنواعها المفضلة، لكنها حُرقت قبل أن تأكلها رفقته. ما هون على سها مصابها الجلل أن محمد المحب للحياة وأخيرًا سيلتقي بوالدته الذي كان مشتاقًا لها، "اجتمع الحبيبان في انتظار أن نرحل عن الدينا لننعم بنعيم الآخرة سويًا".


أحمد الرضيع شهيدًا

المفقودون تحت الأنقاض.jpg

في أول يوم من الحرب، مازح محمد ابنه أحمد: "يلا يا بابا جهز حالك بدنا نروح على أسدود". تقول سها ل "بنفسج": "احمدي حبيبي وابني، الضحوك المفضل للعائلة كلها، تعلقت به جدًا، 5 أشهر كنّ الأجمل في حياتي كلها، فهو الغالي الذي جاءني بعد سنين عجاف، قبل رحيله بيومين قال: "بابا"، وكانت أول كلمة ينطقها،وفرحت جدًا وقتها".

قبل استشهاده كانت سها تلبسه كل يوم ملابس مختلفة، فتراه عمته فتقول: "عريس يا عمتو عريس"، تضيف: "كان أجمل طفل ممكن أن تراه، قبل استهداف البيت كنت ألاعبه فيضحك بشدة، فالتقطت هاتفي وصورته فيديو، فقلت في سري: "هذا فيديو الوادع"، لم أعلم كيف نطقتها، خفت جدًا ولم أرسل الفيديو إلى أهلي كما أعتدت أن أفعل".

لم أفقد زوجي وابني فحسب بل فقدت حمايا الرجل الطيب، وشقيقات زوجي مي ومرام وعبير وأولادهم وأزواجهم، وشقيق زوجي عبد الرحمن، عائلتي الثانية، رحلوا رفقة 25 شخصًا من العائلة، وما يزيد عن 70 شهيدًا في قصف مربعنا السكني...

5 أشهر من حياة الصغير التقطت فيها سها الكثير من الصور التي بقت زادها بعد فراقه، فكلما أحزنتها الحياة، تركض نحو صوره لتبكي، فتهدأ نارها قليلًا، ثم تعود للاشتعال مع كل أم تفقد طفلها. تضيف: "لم أفقد زوجي وابني فحسب بل فقدت حمايا الرجل الطيب الذي كان ونعم الأب لي، وشقيقات زوجي مي ومرام وعبير وأولادهم وأزواجهم، وشقيق زوجي عبد الرحمن، كانوا عائلتي الثانية بحق، رحلوا رفقة 25 شخصًا من العائلة، وما يزيد عن 70 شهيدًا في قصف مربعنا السكني".

لم تسلم سها من الإصابة عانت كثيرًا من إصابتها في شمال غزة، حتى أجبرت على النزوح نحو الجنوب لتلقي العلاج، فتقول ل"بنفسج": "كنت مصابة بكسر  العمود الفقري وضعي لا يسمح لي بالمشي، أسير على "ووكر"، أثناء طريقي نحو الجنوب، وقعت على الأرض الممتلئة بالركام، وحينما وصلت جلست على بلاط مدرسة، تمنيت وقتها الشهادة لأرتاح، لم أنم حتى انتقلت إلى لمشفى الأوروبي لأبدأ علاجي".

 تنقلت سها بين مخيمات النزوح، تحمل في حقيبتها محفظة محمد وصورتهما الأولى، وألبوم الصور، وكلما استشهد شهيد فتح جرحها من جديد... في ديسمبر 2024 اُستشهد زوج شقيقتها، فحرق قلبها، ولكنه خمد مع دخول الهدنة حيز التنفيذ، "فرحت آه لأنه عجلة الموت رح توقف".