حين تُعرَف الأمهاتُ بأسماء أبنائهن، نوقن أن الأبناء كانوا صنَّاع الحكاية... يعرِّف عنها الناس بِـ "والدة أبو شجاع" والأسيرة وأم الشهداء حنين جابر، الشاب الصنديد، بطلٌ من أبطال مرحلةٍ مفصلية في تاريخ القضية، من عزم على تحدي الكيان الذي احتَّل أرضه، وتجاوز كلَّ محاولات تصفية سلاحه المقاوم من الاحتلال الصهيوني وأعوانه، حتى استشهد مشتبكًا لأكثر من 18 ساعة بقصفٍ إسرائيلي بتاريخ 19 نيسان/ أبريل 2024.
محطات من حياة حنان جابر قبل الاعتقال
في مدينة طولكرم وتحديدًا مخيَّم نور شمس، كانت حنين جابر (٤٦ عامًا) تؤدي دورها كأُم بعد أن تزوجت في عمرٍ صغير، بحياة بسيطة كما أي أمّ فلسطينية، هذه الحياة البسيطة التي تضمن كرامة المرء ورفضه الذلَّ، ويتربى فيها على حب الوطن. ولأنها الأم الفلسطينية، فقد عاشت حنين لوعة البُعد والفراق باكرًا، إذ اعتقل ابنها محمد جابر "أبو شجاع" لأول مرَّة وهو قاصر! وتعرض للاعتقال مرتين لدى الاحتلال ومرَّة عند أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، وكذلك ابنها الثاني عُدي، الذي كانت تحرص على عدم تفويت أيِّ زيارةٍ له في أيِّ سجنٍ كان، وآخرهم ابنها أحمد الذي اعتقل مع بدايات ظهور الكتيبة في مخيم نور شمس.
قالت أختها لِبنفسج: "من 3 سنوات طلع أبو شجاع من السجن، وكانت بداية الكتيبة في المخيم، أمه حنين وأبوه حاولوا يخطبوه ويزوجوه عشان يهدى ويقعد بس رفض وحكالهم أنا عروستي سلاحي والتحق بالكتيبة وصار قائد كل المخيم والناس بتحبه".
حين تُروى هذه التفاصيل، لا تغيب في أبسطها الأم عن المشهد، فذلك القلب الذي صبر على بعد ولوعة الأسر، يجابه الآن قلق المطاردة من الاحتلال والسلطة، والتخوف من الفراق الأبدي، يكابد اقتحام الاحتلال المستمر لمنزلهم الذي هُدم لاحقًا فتشردت العائلة بين منازل الأقارب الذين طالتهم يد الاحتلال وقصف بيت عائلتها واستشهد ابن أخيها، فعاشت الأم لحظات قاسية لا يتصورها العقل البشري إن امتلك شيئًا من الإنسانية.
اقرأ أيضًا: الأسيرة المحررة وفاء نمر: على باب الزنزانة أتممت حفظ القرآن الكريم
أكملت أختها: "استشهاد ابنها محمود جابر كان صادمًا لها وللعائلة، فقد كان يعمل في الكتيبة بشكل سرِّي، عاشت تجربة قاسية ونفسيتها تعبت كثير، وكان في نفس الوقت أكبر أبناءها عدي وأصغرهم أحمد رهن الاعتقال، ومحمد أبو شجاع مطارد". أُفرج عن ابنها الكبير عُدي، وانتقلت هي زوجها وابنيها عدي وقصي وابنتها نيبال، للعيش في مدينة طولكرم واستأجروا منزلًا في محاولةٍ للابتعاد عن المخيم وتبعات ملاحقة الاحتلال لهم بعد استشهاد ابنها أبو شجاع.
بعد انتقال العائلة للعيش في مدينة طولكرم، سُلم ابنها الأكبر عُدي إلى أجهزة أمن السلطة بداعي إبعاده عن مخيم نور شمس والكتيبة، وبحسب العائلة، أنه وبعد ثمانية أشهر من احتجازه وبشكلٍ مفاجئ، نُقل عدي إلى سجن الجنيد تعرض خلالها ولا يزال للتعذيب المستمر والقاسي، إضافة إلى حالته النفسية الصعبة متأثرًا باعتقال والدته وحال أخوته.
لا يزال ابن حنين جابر "أحمد جابر" رهن الاعتقال في سجون الاحتلال، ومع تردي الأوضاع في سجون الاحتلال بعد السابع من أكتوبر 2023، كانت الأم في زيارةٍ لأسير خرج من نفس السجن الذي يقبع فيه ابنها، فذهبت للاطمئنان عليه والسؤال عنه وعن حاله، علها بذلك تروي ظمأها، وفي طريق العودة، تحديدًا على حاجز قلقيلية، اعتقلت حنين جابر في 5 ديسمبر 2024، وكان رفقتها زوجها وابنها قصي (6 سنوات) وابنتها نيبال (١٤ سنة)، كما وتم اعتقال الشوفير الذي يقلهم.
التهمة إطعام ابنها وغسل ملابسه
في ظروف غامضة، ومعلومات شحيحة عن وضعها، مكثت الأسيرة حنين جابر 45 يومًا في مركز تحقيق الجلمة، يُحقق معها عن ابنها الشهيد محمد جابر أبو شجاع، عرضت مرَّات عدَّة على المحكمة وقد رفع بحثها لائحة اتهام تشير بأنها كانت تطبخ له الطعام وتغسل له ملابسه خلال مطاردته، وأنه أعطاها مبلغ 700 شيكل، ويتهمها الاحتلال أيضًا بأنها كانت تشجعه في طريقه ودربه.
بعد الإفراج عن دفعة من الأسيرات في صفقة تبادل الأسرى التي أنجزتها المقاومة، كانت الأسيرات قد التقين يوم الإفراج بالأسيرة حنين جابر، إذ تعمد الاحتلال إدخالها على القسم برغم أنها لن تخرج في الصفقة، إلا وأن جميع الأسيرات قُلن بأن "وجهها خير علينا" وأنهن استبشرن جدًا بقدومها، خاصةً أنها كانت مبتسمة وهادئة فور دخولها إلى القسم!
وشهادات مماثلة تنقلها الأسيرات المفرج عنهن من سجن الدامون حتى يومنا هذا، وذلك رغم ظروفها القاسية واستشهاد أبنائها، وتعذيب ابنها المستمر في سجن الجنيد، والإفراج عن ابنها الآخر من سجون الاحتلال وهي في الأسر ليستمر البُعد القسري..
أم الشهداء: تجابه السجن والسرطان
تحذيرات تصدح من سجن الدامون، خوفًا من تدهور حالتها الصحية بعد تشخيصها بمرض السرطان داخل الأسر، وأوضحت التفاصيل لنا أخت الأسيرة حنين جابر عن مرضها قائلة: "بالنسبة لمرضها كانت قبل ١٤ سنة عندها كتلة حميدية في صدرها اليمين، عملت عملية وأزالوا الكتلة الحمدلله، لكن قبل استشهاد أبو شجاع كانت تعبانة وحكت بدي أرجع أفحص، واستشهد أبو شجاع وما راحت، واعتقلوها وهي بوضع صحي حرج وصعب".
وجَّهت العائلة رسالة إلى المؤسسات المعنية بالأسرى، وتطالب بضرورة الإفراج عنها وسط تخوف حقيقي بسبب جهل تفاصيل تشخيصها بمرض السرطان إضافة لوضع عائلتها وأطفالها المشتت.
يُكتب هذا التقرير في لحظات من الألم الجسدي والنفسي تعيشها الأسيرة حنين جابر، فمسيرة حياتها القاسية التي مرَّت بها استثنائية وتفاصيلها صعبة السرد والطرح، وبرغم أن قصتها استثنائية، إلا أنها تمثل نموذجًا من نماذج المرأة الفلسطينية التي ما أن تنطلق إلى الحياة حتَّى تجابه في طريقها المصاعب والبعد والفراق، نسأل الله أن يشفيها ويعجل لها بالفرج.