لطالما كانت قضية الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال محط اهتمامٍ، ولطالما كانت كل قصةٍ من قصص الأسيرات تحمل في طيَّاتها تجربةً مؤثرة توقع أثرًا جديدًا وبليغًا في نفس من يسمعها أو يقرأها، في تقريرنا هذا نطلعكم على تفاصيل جديدة من التجربة المستمرة لأكبر أسيرة في سجون الاحتلال (71 عامًا) الأسيرة سهام أبو سالم "أم خليل".
بعد بدء الحرب، تصاعد تهجير الفلسطينين في غزَّة بفعل القصف والقتل والإجرام المتواصل، صمدت أم خليل وعائلتها في بلدهم خانيونس، لكنَّها أُجبرت على النزوح من منزلها إلى مستشفى ناصر في خانيونس، وفي شهر شباط/ فبراير من العام الماضي (2024) اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى وقتلوا النساء والأطفال واعتقلوا عددًا من الموجودين، فاضطر النازحون للخروج من المستشفى هربًا من هذا البطش.
الأسيرة سهام أبو سالم: والدة الشهداء وكافلة الأيتام
تقول حفيدتها "منار" عن جدتها سهام أبو سالم: "جدتي امرأة ملتزمة وحكيمة تساند وتساعد الجميع، لها مكانة بالغة عند أسرتها وعائلتها وحارتها وجيرانها، وكل من يعرفها. جدتي امرأة متكلمة، تساند كل من فقد عزيزًا وتحضر بيوت العزاء وتقدم لهم الكلمة الطيبة قبل الفعل، وتخفف عن من تزوره ألم الفقد ".
ليس غريبًا على "أم خليل" أن تكون كذلك، فهي المرأة الصابرة المحتسبة، الأم التي ودَّعت اثنين من أبنائها شهداء، الأوَّل ابنها البكر الشهيد "وحيد برهم أبو سالم" والذي استشهد وهو في الرابعة عشر من عمره بتاريخ 8/12/1987، والثاني هو ابنها الشهيد "ماجد برهم أبو سالم" الذي استشهد بتاريخ 13/12/2004 عن عمرٍ يناهز الخامسة والعشرين، تاركًا خلفه ابنةً تبلغ من العمر ثمانية أشهرٍ واسمها “منَّة الله"، ويقول من شهد الحدث أنَّها استقبلت خبر استشهاده بالتكبير والرضى والاحتساب، وعاشت حفيدتها منَّة عندها بعد استشهاد والدها ونشأت الطفلة في أحضان جدَّتها في تربيةٍ إسلاميَّةٍ قويمة.
اعتقال من الممر الآمن
حدَّثتنا عائلة الأسيرة المسنة سهام أبو سالم عن لحظات النزوح، إذ أن هذه الامرأة المسنَّة "أم خليل" كان معها ابنتيها سوزان ورباب وعددًا من أحفادها وحفيداتها أكبرهم عمرًا 4 سنوات وأصغرهم طفلة لا يتجاوز عمرها العام الواحد..! وكان يعينها عليهم ويساعدها، حفيدتها منَّة أبو سالم (عشرون عامًا) وهي ابنة ابنها الشهيد ماجد أبو سالم التي تربت عندها يتيمةً منذ طفولتها.
وعند مرورهم من طريق "الحلَّابة" على اعتباره ممرًا آمنًا بجانب مستشفى ناصر الطبي اعتقلت قوات الاحتلال الجدَّة "سهام أبو سالم وابنتيها سوزان التي حررت في آخر عملية تبادل للأسرى، ورباب التي أفرج عنها من المعسكر ولم تصل إلى سجن الدامون، تاركين مجموعةً من الأطفال خلفهم رفقة حفيدتها "منَّة".
انتشر خبر اعتقالها كالنَّارِ في الهشيم، فقد شاهدها الناس لحظة اعتقالها مع ابنتيها عند الممر، وشاهدوا كيفَ أُجبرت ابنتها "سوزان" على ترك ابنتها الرضيعة على الطريق دون أن يُسمح في لحظتها لأيِّ أحدٍ أن يساعدهن أو أن يصطحب الأطفال معه. تلَّقت العائلة خبر الاعتقال بصدمةٍ بالغة وحزنٍ شديد، وخوف من المصير المجهول لأمّهم المُسنَّة سهام أبو سالم، فهي قد تجاوزت عمر السبعين، وتعاني من أمراضٍ عدَّة (سكري وضغط وأزمة تنفس وآلام في المفاصل).
الدامون سجن معزول عن العالم
عندما نروي قصَّة اعتقالٍ من غزَّة، لا تكون كمثيلاتها من القصص، ولا يُساوى حجم المعاناة فيها بغيرها. لم يعرف الأهل أي معلوماتٍ عن أم خليل، ولأشهرٍ طويلة انقطعت الأخبار عنها وعن مكانها وعن حالها، وعاشت العائلة في قلقٍ مستمرٍ، وأسعفتهم القليل من الأخبار التي وصلتهم بصعوبة عبر محرراتٍ من الضفة.
تقول أسرتها لبنفسج: "نحن في العائلة يراودنا تفكير دائم بحال أمّنا في حال قام الاحتلال بتهجيرنا أو قتلنا وتفريقنا، فكيف ستدبر أمورها بعد الإفراج عنها وكيف يمكنها التواصل معنا!"
من وجهةٍ أُخرى، تواصلنا في بنفسج مع الأسيرات اللواتي التقين بـالأسيرة سهام أبو سالم، وعرفنا أنها كانت صابرة محتسبة وقوية كما وصفها أهلها تمامًا، لكنَّ القلق على أهلها كان يتصدر المشهد، فهي في الأشهر الأولى من الاعتقال كان يجول في خاطرها أسئلة كثيرة عن مصير الأطفال الذين تركوا خلفها في "الممر الآمن"، وأسئلة أخرى عن أبنائها وبناتها في غزَّة.
ومع انقطاع الأسرى في السجون عن الأخبار في الخارج، ولأشهر طويلة لم تكن تعلم أم خليل مصيرهم ولا حالهم، تتساءل دائمًا ما إذا كانوا أحياء، وما هو حالهم في النزوح؟ وللاطمئنان عنهم فقد سألنا عن مصير الأطفال الذين تركوا في الممر الآمن وحدهم، فأخبرتنا العائلة أن الحفيدة منة (20 عامًا) اعتنت بهم حتى أوصلتهم من مدينة خانيونس إلى رفح.
تقول أسرتها لبنفسج: "نحن في العائلة يراودنا تفكير دائم بحال أمّنا في حال قام الاحتلال بتهجيرنا أو قتلنا وتفريقنا، فكيف ستدبر أمورها بعد الإفراج عنها وكيف يمكنها التواصل معنا!" كما وأخبرونا بأن بيتها كما حال بيوت أهل غزة دمر بالكامل وسوي بالأرض, وجميعهم في حالة نزوح ووضع صعب ما يزيد المعاناة والقلق.
سألنا العائلة، إن كان لديهم أيَّة معلومات عن محاكمها وعن وضعها ومصيرها في السجن فقالت حفيدتها منار: "ليس لدينا أية معلومات عن محاكماتها أو ما تتعرض له داخل سجون الاحتلال".
قلن عن أم خليل
حدثننا الأسيرات المحررات عن أم خليل، فهي التي تعطف على الجميع رغم أنها بحالٍ صعب، تختم القرآن الكريم قراءةً بشكل أسبوعِيّ وتقوم الليل، تركت أثرًا وبصمةً عند كل من يلقاها، تذكر بالصبر دائمًا وتذكرهم بالآخرة وعظيم أجرها حتى نسي الأسيرات أنها من أصحاب الابتلاءات الكبيرة.
سطّرت وما زالت أم خليل تسطر معانيٍ من الصمود والقوة، وبالإضافة للحنان الذي تحمله تجاه الفتيات في الأسر، فإنها تحمل صلابةً تواجه فيها السجَّان، لم تظهر يومًا من الأيام أمامهم بمظهر المنكسرة أو الضعيفة، تقم رافعةً رأسها رغم منعهم ذلك منذ بداية الأسر..!
تقول إحدى المحررات من سجن الدامون: "أكثر شيء كان يلفتني في أم خليل عندما كان السجانون يخرجونها من غرفتها هي ومن معها للتفتيش أو السورچيم "الفحص الأمني والدق على الجدران"، كانت أم خليل تطلع رافعة راسها وشامخة بطريقة جدًا ملفتة، من وقفتها ومن "تكتيفة" إيديها واضح إنها غزاوية".
وفي الحديث عن إمكانية الإفراج عنها، فإن المسنة سهام أبو سالم كانت على موعد مع الحرية في شهر فبراير من هذا العام من خلال صفقة التبادل التي أنجزتها حركة حماس وفصائل المقاومة في غزَّة، وبالفعل فإنَّ أسيرتين من أسيرات غزَّة وهم ابنة أم خليل الأسيرة المحررة سوزان أبو سالم والأسيرة المحررة أسماء شتات قد أفرج عنهن في هذه الصفقة، إلا أن الاحتلال جعل من استمرار اعتقال المسنة سهام أبو سالم نقطة جديدة من نقاط خرقهم لهذه الهدنة، وهذا ما أعلنت عنه حركة المقاومة الإسلامية - حماس في تصريحٍ صحفي مصور مع القيادي أسامة حمدان.
تناشد عائلة الأسيرة المسنة سهام أبو سالم العالم أجمع بأن يسعوا للإفراج العاجل عنها. "نناشد العالم والرأي العام وكل من لدية نخوة أن يساعد هذا المرأة المسنة المريضة وأن يتابع قضيتها المحامين والجهات المختصة إلى حين الإفراج عنها، نحن موقنون أنه ليس هناك أي سبب لاعتقالها مدة عام ونصف حتى الآن.."