تجري في الشارع الضيق المعتم، تتعثر بالحجارة التي لم ترها لشدة غباش عينيها من فرط الدموع، وقلبها يعلن تمرده معلنًا العصيان بخفقاته التي تُسمع لمن حولها، تلاحقها طائرات "الكواد كابتر" التي تُصدر طنينًا مزعجًا رفقة طائرات الاستطلاع "الزنانة"، تلمع في السماء وهي على أهبة الاستعداد لانتزاع روح غزية، لكنها لم تأبه وتلتفت فالخوف من الموت غدا تافهًا أمام مصابها الجلل في قصف بيت أهلها.
وصلت بعد عناء إلى بيت العائلة لتجده ركامًا ورائحة الغبار والبارود تغمر الأنحاء، صرخت حتى بُحّ صوتها، خرج والدها من تحت الركام حيًا يرزق لتردد بهستريا وهلع أسماء باقي العائلة: "مرح، مسك، حمود، عصوم". تستضيف منصة بنفسج السيدة أمل أبو ركاب التي فقدت شقيقتها مرح وأولادها الثلاثة مسك ومعتصم ومحمد، لتروي حكايتهم وحكايتها كأم ثانية لهم، إذ لم يقدر لها الله أن تكون أمًا.
روح الروح شهداء
في 18 يوليو 2024، اخترقت عين أمل إضاءة قوية، وأصوات أقدام تجوب المكان إيابًا وذهابًا، فتحت عينيها بنصف وعي، لتسأل: "ما الذي يجري؟" ثم غفت مرة أخرى لتسمع صوتًا خافتًا يقول: "أمل.. أنتِ مؤمنة واحنا أهل الرباط.. ولازم نسلم بقضاء الله". صرخت بفزع: "قصفوا بيت أهلي صح! أنا راضية يارب بشو ما كان بس خليلي مسك". ركضت نحو بيتهم غير آبهة بقصف قد يطولها، كان الطريق طويلًا جدًا، تجر قدميها بالقوة حتى خانتها وسقطت، ولم تقو على الوقوف مجددًا لتأخذها زحفًا للبيت.
وقفت حينما هلّ وجه والدها لتتعلق بأحضانه، اول تهدئتها، بينما الإصابات تتوالي في سيارات الإسعاف، لتصر على ذهاب للبحث عن شقيقتها مرح وأطفالها الثلاثة. وصلت إلى مشفى شهداء الأقصى وسألت عن من جاؤوا ليخبرها رجل الإسعاف: "أنتِ أختها.. فوتي لعندها اتعرفي عليها". تقول أمل: "أردت في تلك اللحظة أن أهرب، وأقول ليست أختي، مرح حيّة لم تمت ولن تتركني، لكن عيني وقعت عليها فسقطت بجانبها أحتضنها، وبجانبها كان كل من الصغار مسك ومعتصم ومحمد، عانقتهم واحدًا تلو الآخر، ثم جاؤوني وأغلقوا الكفن وسحبوني بالقوة، لأودع الحياة في تلك اللحظة".
لم يكن الصغار الثلاثة مجرد أبناء أخت فحسب، لم تمارس دور الخالة أبدًا كانت أمًا حقيقية، كونها حُرمت من الإنجاب، وباءت كل محاولاتها لأن تكون أمًا خلال 15 عامًا بالفشل، فكانوا هم العوض الجميل لها، وخصوصًا أن زوج شقيقتها مرح هو شقيق زوجها.
في سيرة الأحبة
لا تنفك أمل عن جولاتها في صور شقيقتها مرح وأبنائها، وصوتها الذي ينخر في أذنها: "والله ولادي هما ولادك". فصدقت، لم تكن تفعل شيئًا يخص الصغار إلا بمشاورة أمل، كانا معًا دومًا وكأنهن توأم. تقول لبنفسج: "كانت مرح أختى الصغرى لكنني أشعر أنها تكبرني بأعوام تحتويني، تنثر الحب بقلبي وطيب الحديث، تواسيني لفقدان نعمة الأطفال، وتصر على أن أبنائها أبنائي".
"من يوم الفراق وأنا أعاني من الحزن الشديد، أشعر أن قلبي سيخلع من مكانه، أبكي كثيرًا لكن الجرح لا يطيب بل يزداد ألمًا"
كانت أمل تتطوع في مشفي ميداني بجانب البيت، فلا تنفك مرح عن مراسلتها وإخبارها أنها تعاني الملل في غيابها، تضيف: "من يوم الفراق وأنا أعاني من الحزن الشديد، أشعر أن قلبي سيخلع من مكانه، أبكي كثيرًا لكن الجرح لا يطيب بل يزداد ألمًا". أما الصغير محمد الابن البكر لمرح وأمل، فاكهة البيت وروحه، تصفه أمل بالرجل الصغير، تمنت أن يمد الله في عمرها لتراه في أعلى المراتب، لكن الصاروخ كان أقوى من الأماني، تذكر جيدًا حين كبر ليصبح بالروضة، جابت الأسواق مع زوجها لتجلب له ملابس جديدة، ثم ذهبت مع مرح لتختار له الحقيبة والدفاتر، وكانت أقسى حيرة لهما هل يجلبا اللانش بوكس بصورة التمساح أو سبايدر مان.
مش قادرة أعيش بدونهم!
تردف أمل بصوت مبحوح: "لا زلت أذكر صوت مسك وهي تتسلل إلى جانبي وأنا نائمة، لتعانقني من جهة ومحمد من الناحية الأخرى، كانت صغيرة مثالية لا أحد يشبهها، أحب شعرها بلونه الأسود، كنت أخاف عليها من غرتها الصغيرة إن سقطت على عينيها، فأقصها لها". تباغتها شقيقتها مرح وتقول: "شوهتي غرة البنت"، ليرد زوجها: "أمل مسموح إلها تعمل كل شي.. هدول ولادها".
تشتاق الآن أمل لشجار مع مرح على قص شعر مسك، وتشتاق للشعر الذي كانت ترميه وتسأل نفسها: "لما لم أكن أحتفظ به ليظل ذكرى"! أما معتصم الذي ولد في مارس 2024، تعلقت به أمل جدًا، تذكر يوم ولادته جيدًا إذ نجى ومرح بأعجوبة من قصف محقق في مشفى العودة بالنصيرات وسط مدينة غزة، تكمل: "تعلقت بعصوم كثيرًا في فترة قصيرة، كان يشبه مرح كثيرًا، كنت أنتظر أن يكبر أكثر لأرى شكله كيف سيكون حين يكبر، لكني حتى نظرة الوادع لم أحصل عليها إذ كان أشلاءً".
مر ما يقارب عام على الفراق لكن الجرح ما زال مفتوحًا لدى أمل، فقدت شغفها وأملها، وتنتظر أن ترحل روحها للبارىء لتلتقي بكل الأحبة. تختم حديثها: "والله مشتاقة مش قادرة أعيش بدونهم.. الحزن كسرني".