بعض الأشخاص نقول عنهم أنهم مؤثرون، والأثر يُحفر في العمق، نتذكره، ونرصده، هكذا كان أنس، ينام الناس ويستيقظون وهم يتتبعون صوته، ويرصدون أثره، فإذا كان أنس قويًا نقوى به، إذا كان صوته ثابتًا نثبت معه، وإذ صار أصفر اللون وترنح أمام الكاميرا، نعلم أن كل غزة جائعة، إذا ابتسم وخلع خوذته علمنا أن المفاوضات تسير على ما يرام، وإذا عاد حزينًا نعلم أن الإبادة مستمرة. والحقيقة ان أنس ليس صحافيًا بل هو إنسان يتأثر بالفقد الذي ذاقه مرارًا في والده ورفاقه وصحبه، يبكي ويحزن ويخوي.
كنا نتتبع تغريدات أنس وصوره ورسائل الاستغاثة اليومية التي كان ينشرها لعل وعسى... حتى أن وصيته رحمه الله كانت ثقيلة بحجم كل تغريداته، وتلخيصًا لها، أبقوا الأرض والقدس في حماكم، شام وصلاح أمانة في أعناقكم، أمي وزوجتي في رعايتكم من بعد الله.
تقبلك الله يا أنس، ونحن الذين نشهد أنك قد أديت رسالتك وبلغت ما استخدمت من أجله وكنت صاحب صوت صادق مخلص، كنت صوتنا وحزننا وألمنا وانتصارنا، فأنت المؤثر في عمق أرواحنا. ولكم من أشخاص يمرون مرورًا زائفًا بوهم يشبه الغيوم، ألا تكون هذه هي حقيقة الحياة، وقيمة الأعمار، وزخم التجارب، ألا تكون الحياة في شخص مثل هذا الشهيد الذي اختار له الله أن يستشهد بعد ما يقارب الثلاثة أعوام، بعد معاناة وجهد وتعب.
فأنس لم يسترح أو ينم أو يأكل حد الشبع منذ مدة طويلة، وكان قد استأذن من زملائه في قناة الجويرة أن يأخذ قسطًا من الراحة، وينام لساعتين متواصلتين، ولكن أنس بعد طلب الاستراحة للمرة الأولى لم يستيقظ من بعدها، بل نام أبديًا، واستحق أن يكون شهيدًا خالدًا، وإسرائيل التي أرسلت إليه رسائل تهديد مستمرة حولته إلى بطل من أبطال ذاكرتنا الجمعية الفلسطينية والعربية والإسلامية، وهو في عمر 28 عامًا.
أنس شاب صحافي لاجئ من عسقلان المحتلة، وُلد الشريف عام 1996 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة وكان يقطن في مدينة جباليا. تلقى تعليمه في مدارس وكالة الأونروا، ومدارس وزارة التربية والتعليم الفلسطينية. التحق بجامعة الأقصى عام 2014 ودرس تخصص الإذاعة والتلفزيون وحصل على شهادة البكالوريوس عام 2018.
يحفظ أنس حارات جباليا ويعرف أبطالها، فهو ابن البلد، يعرفهم ويعرفونه، يقول الشهيد في وصيته: "يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة، لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة "المجدل" لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ.
الحقيقة لا تموت بالرصاص، بل تزدهر بالقوة التي تركها خلفه، مفجرًا الاحتلال خيمته التي ينام فيها ورفاقه الصحافيين، مشوه الجسد مضيء الروح، وزُفّ على الأكتاف شهيدًا خالدًا إلى الجنة
عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي، بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف.
بدأ أنس عمله كمتطوع في شبكة الشمال الإعلامية، ثم انتقل للعمل مراسلًا لقناة الجزيرة، ولطالما تعرض للتهديد المباشر في الإذاعات الإسرائيلية والمنشورات الإلكترونية والرسائل النصية، حتى أنه كان يعلم ان يوم استشهاده قادم. وفي 11 ديسمبر 2023، قصف منزل والده في مخيم جباليا ما أدى إلى استشهاده.
قال عنه أهله وأصحابه ورفاقه وأهل غزة: "أأنس الشريف هو غزة وغزة هي أنس الشريف"، وهو صوت غزة التي لن تنساه فلسطين، أنس الذي وصفه الاحتلال بأنه "إرهابي متنكر بزي صحفي"، وهذا وسم بأنه الصحافي الصادق الشجاع الصامد والشهيد أخيرًا. ومن غزة إلى العالم جاء أنس من مخيم جباليا، محملاً برؤية إعلامية نادرة تُحاول نقل صورة إنسانية عن الحرب التي يتعرض لها شعبه، بعيداً عن التجميل الإعلامي. والانكشاف الأخير جاء ليس مجرد نقل للأحداث؛ كان ترجمة لمعاناة يومية يعيشها الأطفال الجائعون، ولصمت العالم أمام مأساة غزة.
أما الرسالة الأخيرة فلم تكن إلا صدقًا وتحديًا: "إذا وصلت إليكم... فقد نجح الاحتلال في إسكات صوتي". لكنها رسالته أصبحت أعمق من صوته.
كتب أنس شهادته الأخيرة: الحقيقة لا تموت بالرصاص، بل تزدهر بالقوة التي تركها خلفه، مفجرًا الاحتلال خيمته التي ينام فيها ورفاقه الصحافيين، مشوه الجسد مضيء الروح، وزُفّ على الأكتاف شهيدًا خالدًا إلى الجنة.