بنفسج

النزوح: موت يتكرر كل مرة

الثلاثاء 09 سبتمبر

النزوح في غزة
النزوح في غزة

في بداية نزوحنا إلى رفح، كان الأمر أشبه بانتزاع الحياة من جذورها. وجدنا أنفسنا فجأة في مكان غريب، بلا تعليم، بلا أمان، بلا ملامح من تلك الحياة التي اعتدناها. كل شيء بدا ساكنًا وميتًا، وكأن الزمن توقف عند لحظة واحدة لا تُحتمل.

لكن حين عدنا إلى خان يونس، رغم أن بيوتنا لم تعد قائمة، شعرنا وكأن الروح دبت من جديد في المكان. أهل خان يونس أعادوا بثّ الحياة فيه: نظفوا الشوارع، رمموا المباني، فتحوا مطاعم صغيرة ونقاط تجمع للطلاب. وسط ركام الحرب، ولدت إرادة الحياة.

وعلى الصعيد الشخصي، حاولت التمسك بهذا الأمل، فعدت لأكمل تعليمي، والتحقت بدورة في التعليق الصوتي. بالنسبة لي لم تكن مجرد دورة تدريبية؛ بل كانت نافذة صغيرة وسط الدمار، منحتني شعورًا أن صوتي ما زال قادرًا على الوصول، وأن الحلم يمكن أن يولد حتى في زمن الحرب.

لكن النزوح كان بالانتظار من جديد. في لحظة واحدة اضطررنا لترك كل شيء خلفنا. تخيّل أن تحمل حياتك كلها في حقيبة واحدة: ذكرياتك، أوراقك، بعض الملابس، وشيئًا من متاع بيتك الذي لم يعد بيتًا. مشينا لمسافات طويلة، نحن وآلاف غيرنا، محشورين في طرق مكتظة بالنازحين، وكل واحد فينا يحمل على كتفه أكثر من وزن جسده؛ يحمل الخوف، والحيرة، واللايقين. النزوح يشبه أن تُقتلع شجرة من تربتها، وتُزرع في أرض جرداء، فتظل ذابلة تبحث عن ماء.

كم تمنيت أن أستيقظ يومًا بلا حقيبة جاهزة عند الباب، بلا خوف من أن يُطلب منا الرحيل من جديد. واليوم، حين ينظر المرء إلى غزة بعد أن بدأ أهلها يستعيدون أنفاس الحياة، يخشى أن يتكرر المشهد ذاته: أن تُجتث الحياة من جديد، وأن يُفرض عليهم الشعور القاسي الذي ذقناه نحن من قبل.

استقر بنا الحال في خيام مؤقتة على مواصي خان يونس. والخيام ليست بيوتًا؛ هي مجرد قماش أو نايلون لا يقي من حر الصيف ولا من برد الشتاء. في النهار، يصبح الجلوس بداخلها عذابًا لا يُحتمل من شدة الحرارة، وفي الشتاء يتسلل الماء من بين شقوقها ليغمر الأرض بما نحاول أن نسميه “مسكنًا”. الزواحف والحشرات تشاركنا المكان، وشح المياه يضيف إلى المعاناة معاناة، أما الخصوصية فهي غائبة تمامًا. والأسوأ أن هذه الخيام لا تحمي من القصف، فهي هشّة كأجسادنا، يسهل اختراقها بصوت واحد من السماء.

ومع ذلك، لم يفقد الناس الأمل. كان هناك من بادر لفتح مدارس بدائية في المخيم، ومن نظم حصصًا للطلاب حتى لا تنقطع سلسلة التعليم بالكامل. آخرون تبرعوا بوقتهم لتنظيف الشوارع المحيطة، أو لزرع شتلات صغيرة بجوار الخيام، وكأنهم يقولون للعالم: “رغم الخراب، سنحاول أن نعيش.” تلك التفاصيل الصغيرة كانت هي التي تمنحنا القدرة على التنفس.

كم تمنيت أن أستيقظ يومًا بلا حقيبة جاهزة عند الباب، بلا خوف من أن يُطلب منا الرحيل من جديد. واليوم، حين ينظر المرء إلى غزة بعد أن بدأ أهلها يستعيدون أنفاس الحياة، يخشى أن يتكرر المشهد ذاته: أن تُجتث الحياة من جديد، وأن يُفرض عليهم الشعور القاسي الذي ذقناه نحن من قبل.

النزوح ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر. إنه اقتلاع من الجذور، وموت يتكرر في كل مرة، وامتحان للروح والذاكرة. النزوح يعني أن تمشي بعيدًا عن كل ما تحب، حاملاً حقيبة صغيرة وظلًا من حياتك السابقة، بينما يطفئ القصف كل ما تبقى من أحلامك.

لكننا لسنا مجرد أرقام في نشرات الأخبار. نحن أناس لنا حياتنا، وأحلامنا، ووجوهنا، نحب ونتعلم ونحلم بالعيش بأمان كما تفعلون أنتم. نحلم أن نستيقظ يومًا على صباح عادي بلا أصوات قصف، أن نذهب لمدارسنا وجامعاتنا، أن نكتب مستقبلنا بأيدينا، لا أن يُكتب لنا بالنزوح والدمار. الحرب سرقت منا الكثير، لكنها لم تستطع أن تسرق حقنا في أن نحلم.