غزة، تلك المدينة الصغيرة المحاصرة من البحر والجو والأرض، كانت يومًا ما تُلقَّب بعروس الساحل لجمالها. حين تتحدث عن بحرها، فأنت تتحدث عن جنة على الأرض؛ كل موجة ترتفع فيه هي أمنية لطفل من أطفالها.
سماؤها صافية كقلوب أهلها، وكانت تعج بأشجار الزيتون والبرتقال. رائحة الخبز الطازج في الصباح تجعلك ملهوفًا لتذوقه، ويعلو صوت ضحكات أطفالها كل صباح. في غزة، الأم تعتني بأولادها بحنان، والأب يخرج منذ الصباح الباكر ليؤمّن لهم الطعام. أزقتها صغيرة، لكنها تتسع بصدور أهلها الرحبة. أما هواؤها النقي، فكلما استنشقته شعرت وكأنك في أرض مليئة بالأشجار من صفائه… هكذا كانت في الماضي.
هل نحن بشر، أم مجرد أرقام تُقتل؟ يولد الطفل في غزة على صوت الطائرة الملعونة (الزنانة)، بدلًا من أن يسمع صوت أذان أبيه الشهيد. يكبر في حضن غريب بعدما فقد أمه التي رحلت، وغاب دفء حضنها الحنون.
لكن جاء اليوم الذي صار فيه حلم الطفل مجرد أمنية. الهواء امتلأ بالدخان ورائحة الردم، وزال نقاؤه. السماء غطاها دخان كثيف وأحلام الناس التي تبعثرت. انتُزعت الضحكات وحلّ البكاء، اقتُلعت الأشجار وأصبحت قبورًا، اختفت الرحمة وحلّ الظلم. سكن العالم، صمتت آذانه، وأغمضت عيونه. مات الأطفال واندثرت أحلامهم.
الأب لا يزال يخرج كل صباح ليؤمّن لقمة طعام لأطفاله الجوعى، والناس يذهبون إلى مناطق الذل ليعودوا بالقليل. الطائرات تُسقط الموت على أرواح الأبرياء، والبحر يكاد يفيض من قهره، والسماء تكاد تسقط مما رأته من ظلم. طائرات ترمي الذل وأخرى ترمي القتل، ليُقبض على أرواح الناس. مات الكثير، وظُلم الكثير، وجاع الكثير… ولا أحد قال: “غزة تموت”.
اقرأ أيضًا: مدينتي التي لم أعرف غيرها.. كانت فأصبحت
السؤال هنا: هل نحن بشر، أم مجرد أرقام تُقتل؟ يولد الطفل في غزة على صوت الطائرة الملعونة (الزنانة)، بدلًا من أن يسمع صوت أذان أبيه الشهيد. يكبر في حضن غريب بعدما فقد أمه التي رحلت، وغاب دفء حضنها الحنون.
غزة، تلك البقعة الصغيرة، لا تستحق كل هذا. إنها تريد حقوقها، لكنها لا تجد من يمنحها إياها. تُباد وتُقتل، لكنها صامدة كما عهدناها. حربنا مع الاحتلال منذ عام 1947، فلنتذكر هذا. غزة اليوم جرح مفتوح، مدينة أنهكها الحصار والحرب، حتى صار الركام ملامحها. كانت تنبض بالحياة، فأصبحت شاهدة على الألم والصمود في آن واحد.

