يعتمد الاحتلال منذ سنوات سياسة إعادة اعتقال الأسرى المحررين، لتتحول حريتهم إلى تجربة مؤقتة سرعان ما قد تُسلب منهم من جديد. وبعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ازداد هذا النهج وضوحًا وشدة، حين لم تعد صفقات التبادل ضمانًا للحرية إن كنت تحت حكم الاحتلال وقبضته الأمنية، بل محطة عابرة يتلوها تهديد دائم بالعودة إلى الأسر ومن ثم الاعتقال في كثير من الحالات. وفي قلب هذا المشهد يأتي خبر إعادة اعتقال المحررة في صفقة طوفان الأحرار 2025 اليمامة إبراهيم هرينات.
الاعتقال الأول

في الأوّل من أيلول/سبتمبر 2024، بدأت الحكاية الأولى مع الاعتقال. لم يكن حدثًا عابرًا للعائلة، بل صدمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رغم أن الاعتقال جرى دون تحقيق مباشر، إذ وُضعت اليمامة تحت الحكم الإداري، إلا أن التجربة حملت من القسوة ما جعلها والأسيرات يطلقن على السجن اسم "مدافن الأحياء".
داخل السجن، لم يكن من السهل على اليمامة أن تتكيف مع الواقع الجديد، لكنّها حاولت أن تجعل من الصبر سلاحًا في مواجهة القيد. تصف عائلتها حالها بالقول: "الحمد لله رب العالمين كانت بتحاول تتأقلم مع ظروف السجن، وحكت إلنا كيف إنهم بضغطوا عليهم حتى ينزعجوا من بعض، لكن هم كانوا أقوى من إدارة السجن، وكانوا دائمًا يتَّحدوا وما أعطوهم فرصة أبدًا إنه يفرقوهم".
تقول شقيقتها براءة هرينات في تفاصيل أشمل عن ظروف الاعتقال: "حكتلنا اليمامة إنهم كانوا يحاسبوهم حتى على المحارم، وكانوا يعطوهم الأكل من دون أي إناء، حتى مشط للشعر ما كان فيه، كانوا يستبدلوه بالشوكة وكله تهريب من غرفة لغرفة". لم تعتبر اليمامة تجربتها الأقسى أوالأصعب، فمعها في السجن كنَّ أسيراتٍ قد تركن وراءهن أطفالًا وبيوتًا، يعشن ليلًا طويلًا من البكاء والحنين, والفقد المضاعف الموج..
بعد إنهاء حكمها الإداري الأول الذي استمر مدة أربعة شهور، جدد اعتقالها. إلا أن لحظة الإفراج قد جاءت، وأمر الله حان، وحكمه مضى فوق حكم الاحتلال، وكانت فسحة رحمة ونجاة بعد شهور الاعتقال الإداري. جاء قرار الإفراج في إطار عملية تبادل الأسرى مطلع العام 2025، ليمنح العائلة راحةً بعد فترة طويلة من الترقب والتوتر والقلق.
يروي ذووها: "مددوها أسبوعين، بعدين صارت الصفقة. يعني ما كنا متوقعين أبدًا إنها تطلع بعد التمديد." لكن الخروج بحلاوته وعظيم شعوره لم يخلُ من المرارة، فقد تركت اليمامة خلفها أسيرات ما زلن يواجهن السجن، وصفته بقولها: " كان جدًا صعب أطلع وأترك خلفي 10 أسيرات في السجن." بين الاعتقال والإفراج، بقيت تجربة اليمامة الأولى مرآةً قاسية تعكس واقع الأسيرات الفلسطينيات، من القسوة الممنهجة والتضييق المتواصل، وصلابة الصبر حين تكون السلاح الوحيد في وجه السجان.
الاحتلال لا يريد علمًا ولا أحلامًا

كيف لأحلام الشباب الفلسطيني أن تكتمل في ظل ملاحقتهم المستمرة حتى في علمهم؟ منذ الفصل الجامعي الماضي كانت اليمامة تستعد لمشروع تخرجها، تمضي ساعات طويلة في التصميم والعمل الفردي، غير أنّ الاحتلال لم يمنحها فرصة لإكمال الحلم؛ ففي أيار/مايو الماضي، ومع اقتراب نهاية الفصل، اقتحم الجنود بيتها وصادروا جهاز الحاسوب الذي أنجزت عليه أغلب تفاصيل المشروع.
فذهب جهدها أدراج الرياح إذ لم تكن تحتفظ بنسخة أخرى من عملها. تعاونت الجامعة معها وأجّلت مناقشة المشروع إلى بداية الفصل الدراسي الجديد، وكان من المفترض أن تعقد جلستها مطلع أيلول/سبتمبر 2025، غير أنّ تأجيل افتتاح الفصل دفع المشرف لمنحها أسبوعًا إضافيًا. لكن يد الاحتلال سبقت الموعد مرة أخرى؛ ففي الثامن من أيلول/سبتمبر أُعيد اعتقالها، ليقف القيد بين اليمامة وبين حلمها الأكاديمي من جديد، تاركًا مشروعها معلّقًا خلف القضبان.
اعتقال جديد

عادت قسوة التجربة لتطرق باب عائلة هرينات من جديد. هذه المرّة كان الاعتقال أشدّ عنفًا من سابِقه، إذ اقتحم جنود الاحتلال البيت بهمجيةٍ أكبر، كسّروا الأقفال ودخلوا في ساعات الليل من دون إنذار، ليواجه أفراد العائلة مشهدًا قاسيًا من التدفيش الضرب بأعقاب البنادق. تقول عائلتها: "ما في حدا في الدار إلا تم دفشه وضربه، وهددونا إن ما سلّمنا الأجهزة راح ينفلوا البيت كله."
لم يتوقف المشهد عند حدّ التخريب، بل سلبوا أجهزتها الشخصية وصادروا أحلامها مرة أخرى, تاركين أهلها يصارعون خوفًا مضاعفًا على حالها بعد الاعتقال الهمجي. "النفسية أسوأ من الاعتقال الأول، لأنه صرنا نعرف شو يعني مرض، شو كان شعورها، وصار الخوف أكبر عليها."، تقول براءة هرينات شقيقة الأسيرة اليمامة هرينات.
الأمر لم يقف عند حدّ الاعتقال، بل امتد إلى الصور والفيديوهات التي نشرها الاحتلال بعد أسرها، صور وُصفت بأنها محاولة لتدمير نفسيتها ونفسية العائلة، إذ عُرضت فيها كـ"إرهابية" رغم كونها طالبة جامعية تحمل في صدرها حلماً طال انتظاره. تقول عائلتها: "كان في صورة كاشف جزء من عورتها بدون حجابها، وعن جد إشي صعب علينا كعائلة، تصويرها كإنها مجرمة."
حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما تزال اليمامة محتجزة في مركز تحقيق المسكوبية، محرومة من زيارة المحامي أو العائلة، فيما وُجهت لها اتهامات تتعلق بالتحريض على مواقع التواصل الاجتماعي. العائلة التي عاشت صدمة الاعتقال الأول وفرحة صفقة الإفراج، تقف اليوم أمام امتحان جديد، لا تعرف فيه إلى أين ستقودهم هذه الجولة من السجن والتحقيق مع ابنتهم اليمامة.
إلى هنا أتممت الحوار مع براءة هرينات "شقيقة الأسيرة اليمامة هرينات"، فهي لم تتمالك أنفاسها ولم تستطع أن تحبس عبراتها عندما سألتها عن اليمامة في عائلتها.. من تكون؟ وما هي مكانتها..؟ لعلي بذلك أطلع العالم على من يحاربهم الاحتلال ويلاحقهم ويعتقلهم.. عن أن لهم أهل وأحبة يؤلمهم فراق أبنائهم وبناتهم.. عن رقة قلوبهم وعظيم عطائهم..! كيف لا وهم أنبل المعطائين في أعمارهم لدينهم وأوطانهم؟
التبادل: قلق القيد المؤجل
لم يكن اعتقال اليمامة الثاني حدثًا يخصها وحدها أو يثقل كاهل عائلتها فقط، بل كان وجعًا تجاوز حدود البيت والمحيط ليطال دائرة أوسع. فكل أسيرة محرَّرة تعرف أن حريتها في نظر الاحتلال ليست إلا تجربة مؤقتة يمكن أن تُسلب في أي لحظة؛ وهو التهديد الذي لوح به المحققون لهن يوم صفقة التبادل، ومع كل حالة اعتقال جديدة، يتضاعف القلق في قلوب أهالي المحررات اللواتي يَعِشن على حافة الخوف المستمر من طرقات الباب المفاجئة.
أما على صعيد الأسيرات أنفسهن، فقد شكّل خبر اعتقال اليمامة وقعًا مؤلمًا، إذ ارتبطت بينهن وبَينها علاقات وُلدت خلف القضبان، علاقات أقرب إلى الأخوة بميثاق غليظ نسجته التجربة المشتركة من الوجع والصبر. لذلك بدا المشهد وكأنه سحب جزءًا من أرواحهن مع كل خبرٍ يتردّد عن أسرها من جديد.
تجربة اليمامة ليست حالة فردية، بل مرآة لواقع يعيشه عشرات الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، ووجع يتكرر مع عائلاتهم في كل لحظة. وتبقى هذه القصص شاهدة أن السجن لا يكسر الإرادة، وأن الحلم يمكن أن يبقى حيًّا رغم القيود، ويقيناً بالله أن فجر الحرية آتٍ مهما طال الليل.

