بنفسج

عن حرب الاستنزاف...شهادات حيّة

الخميس 18 يونيو

"باختصار يمكن القول إن الرسالة السياسية هي منع الاحتلال لأي نشاط جدي للفصائل الفاعلة في الضفة، وهذه السياسة تعتمد على الذراع الأمني، وطالما زاد الاعتماد على العنصر النسوي فلا بد وأن يزيد الاستهداف الأمني له، والاحتلال في سياق ذلك يدرك حساسية العنصر النسوي في السياق المجتمعي وبالتالي تحويل المجتمع لضاغط على المرأة الناشطة في النهاية.         ساري عرابي                                                                                                                       

وفق سيناريوهات متعددة يمكن أن تصبح الفتاة الفلسطينية رهينة الاعتقال لدى الاحتلال الصهيوني، غير أن ما يجمع كل هذه السيناريوهات هو الممارسات اللاإنسانية التي تهدف لإشعارها بأنها ومنذ اللحظة الأولى قد أصبحت مستباحة بالكامل. وتشكل هذه الممارسات الضغوطات الأولى التي تُستثمر لاحقا في حرب الاستنزاف التي ستخوضها الأسيرة داخل أقبية التحقيق.

سجل تاريخ الحركة الأسيرة تعرض الفلسطينيات للاعتقال من مواقع متعددة وبظروف مختلفة، سنتعرض لأبرز هذه المواقع؛ بعرض شهادات حية لفلسطينيات تعرضن للاعتقال تحت ظروف مختلفة. نهدف من وراء هذه الشهادات إلى توضيح المشهد الحقيقي لاعتقال الفلسطينيات، والإجابة عن كثير من التساؤلات والمخاوف التي تعتري الناس إزاء اعتقالهن، لما لهنّ من خصوصية؛ باعتبارهن في نظر المجتمع عِرض العائلة وشرفها.

| لماذا تعتقل الفلسطينية؟

في قاموس الاحتلال لا يوجد استثناءات، لا فرق بين شاب وعجوز، إمرأة أو رجل، فكل فلسطيني هو عدو يُستباح دمه أمام بنادقهم. في هذه الحالة التي يغيب فيها الفرق بين الجنسين، فكل من ينخرط في العمل المسلح ذكرا أو أنثى هو مستهدف بالدرجة نفسها.
وفي حال تراجع قدرة التنظيمات على الاعتماد على العناصر الأساسية في العمل التنظيمي وهم الذكور عادة،وتحوّل الاعتماد على العنصر النسوي،فإنّ أولويات الاحتلال الأمنية تتجه لاستهداف العنصر النسوي.

الاعتقال في أصله ممارسة قمعية لها مدلولات سياسية، يراد لها أن تصل للوسط الفلسطيني العامل في أي نشاط نضالي ضد الاحتلال. وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي أ.ساري عرابي: "الاحتلال عادة لا يتسامح مع العمل التنظيمي في أطر التنظيمات المحظورة، ولا سيما الفاعلة منها. ويتدرج استهداف الاحتلال لمجالات العمل التنظيمي والفاعلين فيه بحسب السياقات الأمنية والضرورات الملحّة فيها، فإذا كان السائد هو العمل المسلح؛ فله تعطى الأولوية في الاستهداف الأمني، ويبقى استهداف المجالات الأخرى أقل وتيرة، ولا يوجد استثناء في هذه الحالة بين الجنسين، فكل من ينخرط في العمل المسلح ذكرا أو أنثى هو مستهدف بالدرجة نفسها.

أما في حالة ركود العمل المسلح، يتجه الاحتلال لبقية المجالات التنظيمية، وفي حال تراجع قدرة التنظيمات على الاعتماد على العناصر الأساسية في العمل التنظيمي وهم الذكور عادة، وتحوّل الاعتماد على العنصر النسوي، فإنّ أولويات الاحتلال الأمنية تتجه لاستهداف العنصر النسوي".

فتيات محتجزات في المعابر والحواجز الحدودية

 
كونك فتاة فلسطينية تعيش داخل حدود الوطن فأنت معرضة للاعتقال في أي مكان وتحت أي ظروف. بالتوازي مع الاعتقال على المعابر، فإن "إسرائيل" تعتقل الفتيات أيضاً عن الحواجز المنتشرة على امتداد الضفة الغربية. وتختلف قصص الأسيرات باختلاف ظروف اعتقالهن، ولكنهن جميعا اشتركن بقسوة التجربة وصعوبة اللحظة عند الاعتقال. 

في منتصف عام 2015 كانت المواطنة (س.م.ح) عائدةً من زيارة عائلية في الضفة الغربية إلى غزة حيث تقيم مع أسرتها. لدى وصولها معبر "إيرز"، أبلغها الجندي بأنها والمسافرين برفقتها لن يتمكنوا من دخول غزة نظراً لتأخر الوقت، ثم طلب بطاقات الهوية للتدقيق، ليناديها الجندي موهماً إياها بالسماح لها بالدخول. وإذا بها تُفاجَأ بمصادرة متعلقاتها الشخصية وهاتفها النقال، ومن ثم تعرضت لتفتيش دقيق، أعقبه استجواب مكثف داخل المعبر لمدة 6 ساعات؛ مصحوباً بصراخ وشتائم في غاية القذارة من المحققين في المعبر. أمام هذا الضغط الشديد، أصرت على طلب مكالمة لإبلاغ ذويها باحتجازها.

تقول: "أصريت على أن اتصل بأهلي وأبلغهم باحتجازي، فالضابط حكالي بدك تحكي بس ثلاث كلمات، رديت على تلفوني وكان ابني على الخط، وحكيتله:"أنا مش راجعة"، تناهى صوته إلى مسمعي و هو يقول لي: "الله معك يا إمي"، وانتهت المكالمة. تم تعصيب عيونها وتقييدها- اليدين والأرجل- دون أن تعرف لماذا تم احتجازها وإلى أين يتم اقتيادها. "نقلوني على البوسطة، وكانت الكلاب قريبة مني جداً وحاسة رح تنهش لحمي بأي لحظة وما كنت شايفة اشي قدامي". ثم نُقِلتْ إلى وجهة غير معلومة.

بالتوازي مع الاعتقال على المعابر، فإن "إسرائيل" تعتقل الفتيات أيضاً عن الحواجز المنتشرة على امتداد الضفة الغربية. الشابة الفلسطينية (أ.ع.ق) كانت في طريقها من شمال الضفة إلى مدينة رام الله، في أحد أيام شتاء عام 2015، وصلت السيارة التي تقلها إلى حاجز حوارة وسط أزمة مرورية خانقة، أفراد الجيش "الإسرائيلي" يقومون بتدقيق هويات جميع ركاب السيارات التي تمر عبر الحاجز.

جرت العادة أن تًطلب هويات الذكور فقط، لكن في ذلك اليوم كان الأمر مختلفاً. تقدم جندي ومجندة باتجاه السيارة التي تقل (أ.ع.ق) التي كانت تجلس بجوار الباب، طلبوا هويتها وحدها دوناً عن بقية الركاب ودققوها حتى تبين لهما أنها الشخص المطلوب. أُنزلت الفتاة من السيارة وأمر السائق بمواصلة طريقه.

تقول: "ما كنت فاهمة ايش بيصير ولا متوقعة اإنهم بيدوروا على بنت". اقتادتها المجندة للاحتجاز في غرفة على الحاجز حيث تعرضت لتفتيش دقيق، ثم عصبت عيناها، وقيدت يداها إلى الخلف بقيد بلاستيكي. بعد ساعات من الانتظار تم نقلها بجيب عسكري من حاجز زعترة إلى معتقل حوارة. تروي فتقول: "قابلني هناك محامٍ بالصدفة كان موجوداً لزيارة معتقلين في سجن حوارة، كنت واقفة قبال المعتقل وشايفة من تحت العصبة مين حوليي، اقترب المحامي وشال العصبة عن عيوني، فأنا لما شفته وحكى معي نزلت دموعي".

يحادثها المحامي: "يختي تخافيش وتوكلي على الله، أنتِ مين؟" فتجيب: "أنا (أ.ع.ق)، أخذوني عن الحاجز قبل شوي ما بعرف ليش". اتصل المحامي بأهل الفتاة لإبلاغهم باعتقالها، وخلال حديثه مع والدتها، تتحدث الفتاة فتسمعها أمها: "توكلي على الله وما في اشي وأنا إن شاء الله بخير وأنت ادعيلي".

اعتقال من مقرات المخابرات "الإسرائيلية"

تشير روايات الفلسطينيات اللواتي استدعين لمقابلات المخابرات وتم اعتقالهن من هناك، أنهن تلقين بلاغ المخابرات للمقابلة غالباً عبر قريب من الدرجة الأولى، أو من خلال اقتحام منازلهن.
 
وبكل الأحوال فإن الصراع الحقيقي في هذا الشكل من الاعتقال يتولد لدى الأسيرة وأهلها حين يصطحبها أهلها للمقابلة ثم يعودون دونها، وهذه إحدى أساليب الاحتلال القذرة في تفكيك النسيج الاجتماعي من خلال خلق وهم عجز الأهل عن تقديم الحماية لابنتهم.

تذكر الشابة (ع.م.م) أن اتصالاً هاتفياً وردها من عمها يفيدها بأن المخابرات "الإسرائيلية" اتصلت به لاستدعائها لمقابلة في نقطة عسكرية قريبة من مكان سكنها، ومنذ لحظة إبلاغه بذلك وحتى وصولها برفقته إلى النقطة العسكرية كان ضابط المخابرات يتصل كل دقيقتين أو ثلاث به مستعجلاً وصولهما، خالقاً ضغطاً وتوتراً طوال الطريق، تبعتهما ساعة كاملة من الانتظار مع إهمال كامل لها ولعمها.

صودرت هويتهما وقدم جنود لاقتيادها وحيدة للداخل ما أدى لنشوب مشادة بين عمها والجنود حتى دخلت برفقة عمها. بعد دخولهما لساحة مفتوحة فيها مجندتان للحراسة، تقدم "كابتن" مسلح يرتدي زياً مدنياً و ليخبر (ع.م.م) و عمها بوجوب بقائها ليومين أو ثلاثة أيام لديهم حتى ينهي "الكابتن" الذي سيقابلها مهامه. وهنا احتد عمها وقال للكابتن: "مستحيل أطلع وأتركها، أنا مسؤول عنها، مستحيل أسلم بنت أخوي بإيدي". "الكابتن" يصده غير مبالٍ بحقيقة موقف الرجل ومدى حساسيته. تروي الفتاة فتقول: "قدمت مجندة فأدركت أنه اعتقال، نما بداخلي خوفٌ من المجهول تعاليت عليه للحظة وقلت لعمي: روح، بلاش نكون بواحد نصير باثنين". قيدت المجندة يدي الفتاة، ربطت العصابة على عينيها، وأخذتها في الطريق إلى المجهول.

تشير روايات الفلسطينيات اللواتي استدعين لمقابلات المخابرات وتم اعتقالهن من هناك، أنهن تلقين بلاغ المخابرات للمقابلة غالباً عبر قريب من الدرجة الأولى، أو من خلال اقتحام منازلهن. وبكل الأحوال فإن الصراع الحقيقي في هذا الشكل من الاعتقال يتولد لدى الأسيرة وأهلها حين يصطحبها أهلها للمقابلة ثم يعودون دونها، وهذه إحدى أساليب الاحتلال القذرة في تفكيك النسيج الاجتماعي من خلال خلق وهم عجز الأهل عن تقديم الحماية لابنتهم.

وهذه آلية من عدة آليات يستعملها الاحتلال خلال الاعتقالات بمراحلها المختلفة لضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني المتماسك. وهنا يذكر أن الفلسطيني جمال كرامة أعلن والتزم بعدم اصطحاب زوجته هناء مسك لمقابلة المخابرات رغم سلسلة المضايقات التي تعرض لها فمنذ أول استدعاء قال للضابط بوضوح: "بدك إيانا احملنا معاك، أما انه نيجيك على المقابلة فلا".

وعلى إثر ذلك تعرض المنزل للاقتحام ثلاث مرات وصودرت سيارته، وتعرضت الأسرة لاعتداءات وحشية وترهيب وضرب مبرح لأفرادها. وخلال الاقتحامات كان يتم تسليم استدعاءات لمقابلة المخابرات، لكن جمال لم يقبل في أي من المرات أن يتنازل ويأخذ زوجته بيده لسجانها. تروي هناء مسك تعرض المنزل لاقتحام رابع شرس جداً، تعرضت خلاله هي وزوجها وأولادها وجيران من المنطقة للضرب، ثم اعتقلت هي وزوجها ونجلها الأكبر. ورغم صعوبة الموقف لكن كرامة أراده موقفاً يهدف لخلق نموذج لم يستجب لرغبات الاحتلال، و هو خيار له ثمن باهظ دفعته الأسرة كاملة، كما أن من ذهبوا وعادوا دون سيدات من أقاربهم لم يذهبوا مختارين أو مرفهين، إنما تحت التهديد والضغط والتوتر الشديد.

حرب الاستنزاف النفسية

تتعمد سلطات الاحتلال تحطيم الدفاعات النفسية للأسيرة الفلسطينية ولمحيطها منذ اللحظة الأولى للاعتقال، وتحرص على إشعار الأسيرة أنّها ذاهبة نحو المجهول، تكتم عالٍ وعزل عن كل ما يجري حولها. ماذا يجري الآن؟ وما الذي ستحمله الدقائق القادمة؟
 
حذر عال تبديه الأسيرة في هذه الدقائق، وخوف يتزايد، وأفكار لا حصر لها، وفي كل ذلك عليها الانتظار لساعات طويلة قد تتعرض فيها لكلام مستخفٍ بها محطِّم لأي تماسك نفسي لديها.

كان نقل الأسيرة (أ.ع.ق) لسجن حوارة يهدف لإخضاعها لفحص طبي شامل كأحد الإجراءات الروتينية لحظة الاعتقال. وعقب ساعات الاحتجاز الطويلة؛ مقيدة اليدين ومعصوبة العينين، وفي قلق انتظار المجهول، نُقِلت إلى البوسطة التي تكون عادة مظلمةً بشكل كامل ساعات الليل، باردة، الكرسي فيها حديدي غير ملائم للجلوس عليه لأكثر من ربع ساعة، بينما تستمر رحلة البوسطة لأكثر من 12 ساعة. وعلى إثر التوتر الفكري والنفسي، والقلق من عدم القدرة على فهم ما يحصل أو ما سيحصل، جلست الفتاة في البوسطة، وأجهشت بالبكاء طوال رحلة البوسطة التي لا تعرف أين تسير بها، حتى وصولها إلى مكانٍ مجهول بالنسبة لها.

تتعمد سلطات الاحتلال تحطيم الدفاعات النفسية للأسيرة الفلسطينية ولمحيطها منذ اللحظة الأولى للاعتقال، والتي تعتبر في مجموعها سياسات مدروسة وممنهجة لإدخال الأسيرة في حرب الاستنزاف النفسي. تتمثل هذه السياسات في تعصيب الأعين وتقييد الأيدي، وإشعارها بالذهاب إلى المجهول، عدا عن قطع اتصالها بشكل كامل مع محيطها الخارجي.

تهدف ممارسات الاحتلال من تحطيم الدفاعات النفسية للأسيرة الفلسطينية إلى زعزعة الشعور بالأمن والأمان؛ الذي يأتي كثاني أهم احتياج لدى الإنسان بعد احتياج البقاء. إذ أن غياب الشعور بالأمن يدخل الإنسان في حالة مستمرة من التوتر والقلق.

وبالتوازي مع هذا الأثر اللحظي للاعتقال، تبدأ بالظهور مع مرور الوقت أعراض ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) ويعرَّف على أنه مشكلة تواجه اتزان الصحة العقلية للإنسان إثر تعرضه لحدثٍ صادمٍ في حياته، كالأحداث المهددة للحياة، أو فقدان أشخاص قريبين، أو التعرض للكوارث الطبيعية.

وتظهر أعراض الاضطراب على عدة أشكال منها؛ تكرار ذكريات مزعجة حول الحدث الصادم، وتجنب تذكر تفاصيله أو الحديث عنها، والميل إلى العزلة والابتعاد عن الناس، وتكرار أحلام مزعجة تتعلق بالحدث الصادم، وتجنب التفكير وصعوبات في التركيز؛ كما في البدء في النوم أو البقاء مستغرقاً فيه، أو البقاء في حالة من الترقب واليقظة. وتشير بعض الدراسات إلى أن 70% من مجمل الأشخاص حول العالم من المحتمل تعرضهم لصدمة ما، مرة واحدة على الأقل في حياتهم.