بنفسج

الشقيقتان أبو شحمة.. بنور البصيرة تتمان حفظ القرآن الكريم

الأحد 11 أكتوبر

قُسمت الأرزاق، وعدل الله لا ينقص، فكان نصيب ضحى وشمس أن تولدا كفيفتان منذ أول لحظة خرجتا فيه للحياة، إلا أن الله بعث في بصريهما نورًا يهتدين فيه إلى آيات القرآن، يحفظنه ويرتلنه بقلبٍ راضٍ شاكر لله على أنعمه. نشأت الفتاتان ضحى وشمس أبو شحمة من مدينة خان يونس، على موائد القرآن الكريم، فترعرعن في كنفه، حتى أتممن حفظه من بعد توكلٍ على الله وجهد دؤوب، عن ظهر قلب، بسندٍ متصل عن رسول الله.

بدأت الشابة ضحى أبو شحمة (23 عامًا) رحلتها مع حفظ القرآن منذ التحاقها بصفوف رياض الأطفال في عمر الخامسة، وكذلك شقيقتها شمس (18 عامًا). لم يكن الطريق ميُسرًا في أولى خطوات الشقيقتان لحفظ القرآن الكريم، معاناة قضمت سنوات طويلة من حياتهما، حتى استطاع المجتمع احتواءهما، وتشجعيهما على الاستمرار، إلى أن أتمت ضحى حفظه في الصف الثامن خلال عام ونصف، وأتمته شمس في الصف التاسع.

| السند الدائم

أبو شحمة.jpg

والد الشقيقتان كان سندًا دائمًا لهما منذ أول لحظة، عكف على تحفظيهما القرآن عن طريق الترتيل والتلقين والاستماع، في ظل عدم وجود مصحف بلغة "بريل" آنذاك لديهما، إلى أن حصلتا عليه بعد سنوات، واستطاعتا الالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن في المساجد المجاورة لبيتهما.

تحديات كثيرة واجهت الشقيقتان خلال التحاقهما في حلقات التحفيظ، بعضٌ منها ترك لهما ندوبًا لا تُمحوها الأيام، وكثيرًا ما واجهنها بإرادتهن وتحفيزهن ومساندتهن لبعضهن البعض. حين قررت شمس الالتحاق بحلقات التحفيظ، كانت أتمت حفظ 5 أجزاء من القرآن مع والدها، ولم تكن تستطيع اللحاق بالمسجد إلا في الإجازات السنوية، وفي كل عام يُطلب منها إعادة حفظهن من البداية، وحين البدء في جزء جديد تعود إلى مدرستها.

شمس التي لديها موهبة في كتابة الحِكم والخواطر والمقالات، لم تجد دعمًا كافيًا من أي مؤسسة، خاصةً أنها لا تستطيع نشر أي خاطرة أو حكمة مما تكتب في أي مجلة أو صحيفة. وتطمح أن تكون في المستقبل من الشخصيات المشهورة على اليوتيوب.

بعد عام 2011 أصبح الوعي بكيفية التعامل مع ذوي الإعاقة ينتشر رويدًا رويدًا في المؤسسات والمجتمع، وكان الأمر مختلفًا للغاية وملحوظًا بشكل واضح، لتقرر ضحى بعدها الالتحاق بحلقة تحفيظِ للقرآن حتى أنهته بشكل كامل، ومن بعدها الالتحاق بحلقة لتثبيت القرآن.

شمس التي لديها موهبة في كتابة الحِكم والخواطر والمقالات، لم تجد دعمًا كافيًا من أي مؤسسة، خاصةً أنها لا تستطيع نشر أي خاطرة أو حكمة مما تكتب في أي مجلة أو صحيفة. وتطمح أن تكون في المستقبل من الشخصيات المشهورة على اليوتيوب، خاصة أنها لديها قناة وتنشر ما لديها من مواهب، وكيف تعلمت القرآن الكريم، بالإضافة إلى تدريس الأطفال ومساعدتهم في الحفظ.

| تقدم الصفوف

64.png

انضمت ضحى لدورة أحكام التلاوة المبتدئة، ولم يكن الأمر سهلًا، حاولت المعلمة ثنيها عن الاستمرار لعدم قدرتها على رؤية ما يتم تدوينه على السبورة، وكذلك الكتب، لتخبرها ضحى أنها تستطيع الاستمرار عبر تركيزها على الاستماع بشكل جيد.

حاولت المعلمة بطرق غير مباشرة أن تدفع ضحى لاتخاذ قرار ذاتي بالتوقف، إلا أنها تمتعت بالصبر والإصرار، ودعمٍ متواصل من والدتها بعدم الاستسلام، حتى تقدمت لاختبار نهاية الدورة، لتفاجئ الجميع بحصولها هي الوحيدة على تقدير "ممتاز"، لتتم بعدها دورة الأحكام العليا، والحصول على سند متصل عن رسول الله.

لم تتوقف ضحى عند هذا الحد، بل تقدمت الصفوف لتعليم النساء أمور دينهم في حلقات الذكر في المختلفة داخل المساجد. فيما التحقت شمس بمخيم لحفظ القرآن في الصف السادس، وحينما استمعت لها المعلمات في مركز التحفيظ، أثنين بشكل كبير على قراءتها المميزة، لتحظى باهتمامٍ بالغ خرجت منه بحفظ القرآن كاملًا خلال عامين فقط، وتنهي الدورة المبتدئة والعليا والسند المتصل عن رسول الله، ودورة ابن كثير، والآن في مرحلة التثبيت.

| درب منير

كفيفات1.jpg

خلال تلك الفترة، تعرضت شمس لبعض المواقف، فكرت خلالها كثيرًا بالتوقف، لكن يد أمها التي كانت تسندها في كل لحظة ضيق، تُعيدها إلى طريقها من جديد، وتُنير لها دربها برضاه ودعمها المتواصلين. وتذكر شمس لـ "بنفسج" بعضًا من تلك المواقف حينما استثنتها معلمتها دون إخبارها أو إيضاح الأمر لها من دورة للأحكام التحقن فيها جميع الفتيات سواها، أبقتْ على ضيقها سرًا في صدرها ولم تبده لأحد، إلا أنه في يوم الاختبارات وأجواء الاستعداد وبقاءها الوحيدة في حلقتها، ضاق عليها الأمر كثيرًا، لم تتحمل الأمر، وغادرت المسجد، وحاصرتها جملة وحيدة "هل لأني كفيفة، سبب كافٍ لاستثنائي".

شمس أصرت أن تُثبت للجميع أن فقدان بصرها ليس عائقًا لها، لتأخذ تلك الدورة على يد معلمة أخرى أنهتها خلال شهرين وبتقدير "ممتاز".

غابت لعدة أيام عن المسجد، وتأثرت كثيرًا، وشعرت حينها بالعجز، وعلمت معلمتها بالأمر وبررت ذلك لعجز شمس عن رؤية ما يكتب على السبورة، إلا أن شمس أصرت أن تُثبت للجميع أن فقدان بصرها ليس عائقًا لها، لتأخذ تلك الدورة على يد معلمة أخرى أنهتها خلال شهرين وبتقدير "ممتاز".

تخرجت ضحى من الثانوية بتقدير "ممتاز" وأنهت الجامعة تخصص أصول دين بمعدل "جيد جدًا"، وكانت تحلم في الالتحاق بالدراسات العليا، ليحقق والدها أمنيتها رغم ظروفه المادية الصعبة، بينما تخرجت شمس من الثانوية العامة بتقدير "جيد جدًا"، والتحقت في قسم الدعوة والإعلام بالجامعة الإسلامية.

| آلة واحدة

65.png

تجمع الشقيقتان كل ملخصاتهم وأبحاثهم وتكاليفهم على آلة "بيركنز"، إلا أنها تُسبب بعض الشجارات فيما بينهما، كونها آلة واحدة، فتأخذها إحداهن، ما تسبب للأخرى مشكلة عدم التوثيق والتعرض لنسيان ما استمعت إليه في المدرسة أو الجامعة. تواجه الشقيقتان بعض المشكلات في التعليم الإلكتروني الذي تم اعتماده في المدارس والجامعات، يحاولن التغلب عليه بمساعدة بعضهما البعض، كونهن أكبر الأبناء لعائلتهن، وكثيرًا ما يُنصحان بتأجيل فصولهم الدراسية، إلا أنهما تصممان على الاستمرار، وذلك ليس سهلًا البتة، كما توضحان.

وتتمنى ضحى أن تُنهي مرحلة الماجستير، وأن تحصل على وظيفة مثلها مثل أي شخص مبصر، وأن يكون لها مكان في المجتمع، وأن تكفل نفسها، وأن ترد ولو شيئًا قليلًا من صنيع والدها اللذان ضحيا وتحملا كثيرًا من أجلهما، وقدما الدعم لهما حتى آخر لحظة. بينما تعمل شمس الآن بشكل تطوعي مقرأة للسند المتصل عن رسول الله، وواعظة، ساعية للحصول على القراءات العشر للقرآن الكريم، وإكمال دراستها، والحظي بمكانةٍ في المجتمع دون النظر إليها بنظرة شفقة أو عجز، لأن العجز هو عجز الروح والإرادة وليس عجز الجسد.

ومع انتشار فايروس كورونا، وإغلاق المساجد، وفرض الحجر المنزلي، تحاول الشقيقتان استغلال مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال عقد الدورات الدينية، عبر مجموعات "واتس آب"، ومتابعة الحفظ ومراجعة دروسهما، وإنشاء قناة خاصة بهما على "يوتيوب".