بنفسج

التوأم لارا وماندي: بهذا العمر تركضان نحو عصفور

الأربعاء 10 يونيو

بينما كانتا تسيران بمحاذاة شاطئ البحر، جذبت نبتة نادرة التوأمين "لارا وماندي سرداح"، فسارعتا لاستكشافها وتصويرها، وجلستا على الأرض للاقتراب منها، فتحلّق حولهما عددٌ من المشاة، ليعرضوا عليهما المساعدة، ظنًا منهم بأن الأختين وقعتا في مأزق، ولما تبين لهم أنهما تصوران النبتة تملكهم الاستغراب، حتى قال أحدهم: "صارلكم ساعة موطيين على الأرض عشان وردة!".

إذا كانت "الوردة" لا تستحق الاهتمام من وجهة نظر ذلك الرجل، فإنها تعني الكثير لـ"شقي التوأم"، اللتين توثقان التنوع الحيوي في قطاع غزة بالصور، ولأجل ذلك تبحثان عن كل زهرة وطير وحيوان. "لارا" و"ماندي" (42 عامًا) درستا علم الاجتماع، وتعملان في مجال دراستهما، هما ضيفتا "بنفسج" في هذا الحوار.

| بـ"المحاولة والخطأ"

كاميرا.jpeg
 

"كاميرا" رقمية تمتلكها الأسرة لتوثيق لحظاتها السعيدة، كانت سببًا في كشف موهبة الشابتين التوأمين عام 2005، إذ كانتا تلتقطان بها صورًا تحظى بإعجاب المحيطين بهما، فتنالا على إثرها التشجيع. وفي 2012 اشترتا كاميرا شبه احترافية.

"لارا" و"ماندي" تحبان الطبيعة، وتمارسان رياضة المشي على شاطئ بحر غزة؛ فتراقبان مشهد غروب الشمس خلف البحر. أما الشروق فتتابعانه من "تلة المنطار"، هذا الميل للطبيعة ظهر جليًا فيما تلتقطه عدستهما؛ فقد اتجهتا نحو تصوير المشاهد الطبيعية، وخاصة الطيور البرية والنباتات النادرة، وبذلك فهما توثقان التنوع الحيوي في القطاع.

تقول "ماندي" عن البدايات: "ذات مرة، التقطنا صورة مميزة جدا لغروب الشمس، فشجعتنا الأسرة على نشرها عبر حسابنا في موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، وحازت الصورة على إعجاب معظم الأصدقاء، ومنذ تلك اللحظة صرنا ننشر الصور عبر (فيس بوك) و(انستجرام)".

وتضيف: "شغفتنا الطبيعة، وأحببنا تصويرها، وشيئا فشيئا بدأنا بالخروج في جولات استكشافية في مختلف أنحاء القطاع، أما تعلم التصوير فكان بـ (المحاولة والخطأ)، دون الالتحاق بدورات تعليمية، ولا بالاستعانة بالإنترنت، وبعد أن صرنا ننشر الصور على مواقع التواصل، أصبح بعض المصورين يرسلون لنا ملاحظاتٍ على ما نلتقطه، ويقدمون لنا النصائح".

| كل ما يطير "عصفور"

عصفور.jpeg
 

جولات التصوير تمتد على مدار العام، ولكنها تكون مكثفة في موسمي هجرة الطيور، وفي موعد نمو بعض النباتات النادرة، وتتجهان فيها إلى مناطق تزخر بالتنوع الحيوي، منها "وادي غزة"، و"بِرك الصرف الصحي" شمالي القطاع، والأراضي الزراعية في منطقتي "الزيتون" و"الشيخ عجلين". تنطلق التوأمان للتصوير في عطلة نهاية الأسبوع (يومي الجمعة والسبت)، تصليان الفجر، ثم تقصدا المكان الذي توافقتا عليه مُسبقا، ويرافقهما أخوهما، الذي تأثر بهوايتهما فصار يقرأ عن الطيور ويهتم بمعرفة الكثير عنها.

عند الوصول للمكان، تحمل "ماندي" المنظار لترصد الطيور، وعندما تجد ما يستحق التصوير، تعطي الإشارة لنصفها الآخر، التي تقول عنها: "عين (لارا) ناقدة أكثر، لذا التصوير مهمتها. أما أنا فأنظر نحو السماء بالمنظار، وأرشدها لمكان الطير وتفاصيله التي لا تراها بعدسة الكاميرا، وبذلك نحصل على صورة مميزة، نقدمها لمتابعينا كما هي، دون تمريرها على أي برنامج لتعديل الصور، فمن وجهة نظرنا جمال الصورة يكمن في طبيعتها".

حتى الرحلات العائلية، لا تخلو من ممارسة الهواية، إذ تسترق "ماندي" و"لارا" وقتًا للتصوير في محيط المكان، خاصة أن المنظار والكاميرا لا يفارقانهما أينما ذهبتا. أما في مواسم هجرة الطيور ونمو النباتات البرية، فإن عطلة نهاية الأسبوع لا تكفي، وتضطر التوأمان للحصول على إجازة من العمل لبضعة أيام لممارسة الهواية.

تلك الجولات فتحت بابًا أمام التوأمين، إذ كوّنتا علاقات كثيرة، حتى صار البعض يتواصل معهما ليخبرهما بوجود طير أو حيوان غريب في منطقة ما ويدعوهما لتصويره، ومنهم من يعرض عليهما مرافقتهما في الجولة لتسهيل المهمة. ومن التفاصيل الأخرى التي تخبرنا بها "ماندي"، أنها وأختها كثيرًا ما تسمعان من الآخرين عبارة: "بهذا العمر وبتركضو خلف عصفور؟!"، تبتسمان وتلتمسان العذر للقائل، فهما أيضا كانتا تنظران لكل ما يطير على أنه "عصفور" قبل أن تتعمقا في عالم الطيور الواسع.

في كثير من الأحيان، تلتقط الأختان صورًا لطيور ونباتات لا تعرفانها، فتستعينا بالمختصين، وعن ذلك تقول "ماندي": "وجدنا تعاونا كبيرًا من المختصين، فهم يخبروننا باسم الطير أو النبات الذي صورناه، ويزودوننا بالمعلومات الخاصة به"، مضيفة: "معظم المختصين في الضفة الغربية، أما القطاع فيعاني من شحّ الخبراء في التنوع الحيوي".

وتتابع في حديثها عن التنوع الحيوي بالقطاع: "نحن بحاجة إلى جهة راعية لهذا المجال، لتحافظ على التنوع، وتوقف الصيد الجائر". وتشير إلى أنهما تناقشان صيادي الطيور في رحلاتهما أحيانا، في محاولة لثنيهم عن الصيد الجائر للطيور المهاجرة، لكنهما لا تجدان أذنا صاغية، ويكون الرد عليهما دوما: "هذا رزقنا".

| تأملٌ ومتعة

لارا وماندي مرداح.jpg
 

من يرى هذا الاهتمام، يظن أن التوأمين تمتلكان "حديقة حيوانات" في بيتهما، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، فهما ترفضان رفضًا تاما فكرة تربية الحيوانات في البيوت، لأنهما تؤمنان أن الله خلق الحيوانات والطيور حرّة، فلا داعي لحبسها في أقفاص. لكنهما تهتمان بشدة بالقطط والطيور التي تتحرك في محيط البيوت، فتنثران الخبز المفتت للطيور صباحا، وتقدمان طعامهما للقطط، ثم تستمتعان بمشاهدة القطة الأم وهي توزع الطعام على صغارها. 

ومما قد يفكر به من يسمع بهواية "لارا" و"ماندي"، حجم المتعة التي تشعران بها لكونهما تتحركان بين تفاصيل الطبيعة، عن ذلك تقول ماندي: "وجودنا باستمرار في أماكن طبيعية يأخذنا نحو التأمل في خلق الله تعالى، وللتأمل آثار روحانية وإيمانية جميلة، بالإضافة إلى ذلك فهوايتنا تمنحنا راحة نفسية، وتشغلنا بالبحث عن كل جديدٍ يتعلق بها". سؤال يفرض نفسه، هل تلقى صور "لارا" إعجابا مطلقًا من "ماندي"، أم يختلف رأيهما أحيانا؟، تجيب "ماندي": "قلّما نختلف، وإن حصل، نستعين بطرفٍ محايد، فنسأل الأهل عن رأيهم".

| غصنٌ أم طير؟

مرداح1.jpg

وتسعى "لارا" و"ماندي" لإصدار دليل خاص بالطيور والنباتات التي وثقّتاهما في القطاع، وتتمنيان أن تشاركا في معارض دولية، وأن تقتنيا كاميرا أفضل مما هو بحوزتهما حاليًا. وبحسب حديثهما، فقد وثّقتا، في القطاع، ما يزيد عن 90 طائر، منها المقيم أو ومنها الزائر، وكذلك أكثر من مائة نبتة برية، ثلاثة منها نادرة، وأكثر الصور أهمية بالنسبة لهما، صورة طائر "السبد الأوروبي".

وتخبرنا "لارا" بكيفية ملاحظتها وتوأمها لطير "السبد الأوربي" المهاجر: "كنا في بيارة زيتون، فأبدت (ماندي) تعجبها من شكل غصنٍ رأته يبدو كما لو كان طيرا، ولما اقتربنا منه، تبيَّن لنا أنه طير بالفعل، فصورناه دون أن نعرف تصنيفه، وعندما أرسلنا الصورة للمختصين، أخبرونا باسمه، وبأنه يجيد التخفي على أغصان الزيتون".

وعن أهمية توثيق التنوع الحيوي في القطاع، تبين: "هذا التوثيق بمثابة تسليط للضوء على جانب مشرق للقطاع، وهو أنه زاخر بالتنوع الحيوي، ولأن خروج صورة جميلة من القطاع يؤثر فيمن هم خارجه، وكذلك فإن صورنا تعرفهم على حقيقة الحياة هنا، كوننا إناث، فكثير من المتابعين يستغربوا عندما يرونا نتحرك بحرية ونمارس هوايتنا، لأن القطاع في نظرهم منطقة لا علاقة لها بالحياة، والنساء فيها مسلوبات الحرية". "خليتونا نشوف غزة جميلة"، هذا التعليق يكاد يكون أكثر ما يكرره متابعو التوأمين عبر مواقع التواصل، بحسب "لارا".

| "يخليكم لبعض"

 
التوافق بين التوائم حالة طبيعية، لكن "لارا" و"ماندي" بينهما تطابق يكاد يكون بنسبة 100% وتمتلك التوأمان جهاز هاتف محمول واحد، وتتواصلا مع العالم عبر ذات الحساب في "فيس بوك".
 
وبالطبع، لا تختلف ملابسهما وهما تؤكدان في كل حين أنهما "روح واحدة في جسدين". وأكثر ما تحبان سماعه من الآخرين دعاء: "ربنا يخليكم لبعض".
 

التوافق بين التوائم حالة طبيعية، لكن "لارا" و"ماندي" بينهما تطابق يكاد يكون بنسبة 100%، فكان لا بد أن نسألهما عن بعض تفاصيل حياتهما، وأن نستمع لشيء من ذكرياتهما، وهو ما حدّثتنا عنه "لارا". "لغة ورقية عربة أولى".. هذا الخطأ ليس مطبعيًا في موقعنا، إنما هو نص ما كتبته التوأمان على ورقة الاختبار النهائي في اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي، فقد وقعتا في الخطأ نفسه رغم أن كل منهما كانت في لجنة منفصلة، وكان هذا الافتراق الأول في حياتهما.

حتى في ساعات النوم، لا ينقطع تواصلهما، فكثيرًا ما تريا الحلم ذاته، أو تفتحا حواراتٍ في منامات أحلامهما. وتمتلك التوأمان جهاز هاتف محمول واحد، وتتواصلا مع العالم عبر ذات الحساب في "فيس بوك". وبالطبع، لا تختلف ملابسهما، فكيف تقبلان بالفرق وهما تؤكدان في كل حين أنهما "روح واحدة في جسدين". وأكثر ما تحبان سماعه من الآخرين دعاء: "ربنا يخليكم لبعض".