بنفسج

كيف يتمسك أطفالنا بالقضايا في زمن السيولة؟

الأربعاء 04 نوفمبر

 

"الإنسان الذي تود التربية أن تحققه فينا ليس هو الإنسان على غرار ما أودعته الطبيعة، بل هو الإنسان على غرار ما يريده المجتمع".  إميل دوركهايم

في الجزء الأول تحدثنا عن التسلط الأبوي أما في هذه الجزء سنتعرف معًا على مصطلح السيولة. القلق والمخاوف التي تتزايد في هذه المرحلة لا تقل عن المتعة واللذة التي تحيطها، فالحياة أصبحت تتسم بــ"البدايات الجديدة" [1]على حد تعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، في إشارته لهذه المرحلة القائمة على ديمومة السرعة والحركة وعدم الاستقرار واللايقين، في إطار الزمان والمكان أو "الزمكان"[2].

مصطلح "السيولة" أطلقه باومان في سلسلة مؤلفاته الثمانية[3]التي تقوم على فهم الواقع المعاصر بطريقة مركبة، بالإضافة لتحليل العديد من الظواهر التي اجتاحت العالم على المستوى الثقافي والاجتماعي، عبر استبدال مفهوم الحداثة[4] بـــ"الحداثة الصلبة" وما بعد الحداثة بــ"الحداثة السائلة"[5].

قضايا4.png

يتحدث باومان عن مصطلح "السيولة" ليصف المجتمعات في اللحظة الراهنة، فبعد أن اتخذت الحداثة أشكالًا صلبة، مع الزمن أصبح هناك سيولة وذوبان، متمثلة في حدود الدول بتدفق البشر من مكان لآخر، وسيولة الهويات بتغيرها المستمر، وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية وتجسدها في السلوك وفي المعتقدات[6]، ويرى باومان أن المجتمعات في اللحظة الراهنة، تتجه نحو الاستهلاك بمعناه العميق للمكان والقيم والأشياء والعلاقات، فأصبح هناك تحديث مستمر لكل شيء، دون وجود أي غاية من هذا التحديث، فما تتميز به طريقة الحياة الحديثة عن أنماط الحياة السابقة السائدة يكمن في التحديث الوسواسي القهري الإدمانيّ[7].

هذا "التحديث" يشمل المسلمات والمقدسات التي أصبحت في تضاؤل مستمر، مما جعل حياة الفرد المعاصر مليئة بالمخاوف وعدم اليقين والغموض. وسط غياب نقطة مرجعية يمكن الوثوق بها ابتداء من الدين أو العادات والتقاليد وغيرها[8].

قضايا5.png
كتب منوعة تتناول مصطلح السيولة منها الحب السائل والحداثة السائلة

تقوم مرحلة السيولة على فكرة "التأقيت" على حد تعبير د. هبة رؤوف عزت، فليس هناك استقرار للأفعال بشكل منتظم، إذ يلعب اللاستقرار نتيجة الحركة الدائمة والانتقال من مكان لآخر دورًا في تغذية السيولة، والتي تتسرب إلى حياة الناس في الشارع والأسرة والعمل والعلاقات. ليحدث عدم الثبات هذا دورًا في ضرب القيم والمعاني والمعتقدات والتي يحتاج تجذرها إلى شيء من الاستقرار الزماني والمكاني[9]وتضرب عزت خلال حديثها أمثالا عدة، توضح فيها كيف أن شخصية الجيل الثالث أي -أبنائنا- قد أصبحت في تآكل مستمر؛ لغياب مفهوم "الالتزام" أو بالمعنى الآخر اللاثبات المتجسدة في اختياراتهم الحياتية، ومشاعرهم ورؤيتهم للأشياء.

وتوضح كيف أن أبناءنا ينتقلون من مدرسة لأخرى ومن علاقة لثانية، وبهذا يحدث تشوّه وتآكل للقيم والمعتقدات التي تقوم في الأصل على مبدأ الديمومة، فكيف مثلا سيدركون قيمة الوفاء إن كان هناك تنقل بين العلاقات، وكيف يدركون معنى الوطن إن كان هناك انتقال من دولة لأخرى. وبهذا لم يعد هناك متسع لتشكيل الهوية على "نار هادئة" حسب وصف عزت، عدا عن ظهور أشكال التحرر من الأطر الدينية والجماعات الأولية الصغيرة[10]، والتي عادة تتلخص بعبارة تتردد على لسان الأبناء "لن أعيش في جلباب أبي"، جلباب القضايا والمسلمات التي يحاول الأبناء التفلت منها والخروج عنها بطريقة أو بأخرى.

لعل إدراك ما طرح سابقًا، يدفع الوالدين لإيجاد إطار "جديد" يستوعب التساؤلات والأطروحات المنبثقة عن الأبناء[11]، والتي تعد أمرًا ملحًا ومهمًا لا يمكن تجاوزه وتجاهله لدواعي ما، فلا يمكن مثلًا إرغام الأبناء على اعتناق أطروحات فكرية تقليدية سائدة، في ظل تغير السياق الاجتماعي والثقافي الذي برزت ملامحه مع انبثاق الحداثة السائلة.

ما يعتقده الآباء، أن القضايا التي يزرعونها في أبنائهم منذ البواكير الأولى تضع بين أيديهم الحقائق المتفلتة، وتمكنهم من اكتشاف محيطهم وإعادة تعريف نظرتهم للأشياء. وهنا نطرح سؤالا نجيب عليه في ختام محاور هذا التقرير؛ كيف يحيلنا الوعي بالحداثة السائلة إلى ربط أطفالنا بالقضايا؟ وكيف السبيل لتحقيق ذلك؟

| بالتثقيف والتجربة والتعلم

قضايا6.jpg

في عصر الحداثة السائلة، لا بد أن يكون التعلم مستمرًا (1) ومدى الحياة، كي يثمر في تكوين شخصية الطفل وذاته، وهذا لا بد أن يكون في كل وقت وحين، فالتربية وفق ما جاء على لسان حكماء الإغريق هي التعليم مدى الحياة[12].

يبدو أن ما يتعلمه أبناؤنا في زمن السيولة، يتطلب منهم إعادة النظر والبحث بصورة دائمة ومكررة، للاستفادة وتطوير ما يحتاجون إلى تعلمه، تحديدًا في المرحلة التي يشهدون فيها حركة دائبة وقفزات سريعة ومخيفة في مجالات العلم الواسعة[13]. فالسيولة تقوم على مبدأ "التدمير الخلاق" لكل ما يقع تحت يديها، لهذا يشعر الإنسان أنه يعيش في حالة من العزلة المؤقتة على حد تعبير باومان، أو مصابا بالهلع لعدم قدرته على مواجهة المتغيرات والوصول إلى مرحلة من الاستقرار[14].

ولعلّ شحذ الأبناء بمجموعة من الأدوات الإدراكية (3) خطوة هامة للحفاظ على مبدأ التعلم المستمر، وبناء العقل على مبدأ التغيير الدائم، وتزويدهم بالإمكانيات الذهنية التي تمكنهم من مواجهة احتمالات التغيير، لتجنب الصدمات التي يمكن أن تُولد على المستوى الثقافي والقيمي، وبهذا يتم خلق مناعة ذاتية لدى الأبناء ضد الذوبان في تجليات الحداثة المتوحشة[15].

وهنا يكون الاستعانة بالفلسفة (3) كمنهج تربوي، إحدى الوسائل الغنية لبناء القيم والمعتقدات والأفكار، والتحريض على التأمل والبحث والنظر، ففي حقل الفلسفة لا توجد هناك حلول سحرية، ولا مسلمات ومعتقدات يتوجب على الطفل اعتناقها والإدمان بها نتيجة خضوعه للوالدين، فالفلسفة في جوهرها نشاط إنساني يحيل الطفل إلى دائرة السؤال[16].

إنفو القضايا.jpg

يبين عالم الاجتماع وطفة في كتابه هل يتفلسف الأطفال[17]، أنه من غير الديمقراطية لا توجد هناك فلسفة، وبهذا -بتعبير أدقّ- تصبح الفلسفة أداة حرية وتحرير، فهي تعطي مساحة كبيرة للتساؤل بحيث تتراجع أمامها أدوات التسلط التربوي، والخروج من عباءة الإكراهات الفكرية ورفض أدواتها، إلى نهج جديد يدفع الأبناء إلى التفكير بذواتهم من دون الخضوع لنماذج فكرية محددة[18]. هذا الأمر يدفع الأجيال إلى بناء العقل على مبدأ الاختلاف (4) ورفض التماثل والتطابق، وهو المبدأ الذي يقام عليه العقل الحر، مما يجعله أكثر قدرة على النقد والإبداع والانطلاق وقبول الآخر، وقبول الأفكار المضادة دون تعصب أو صدود أو انكفاء[19].

بالتثقيف والتجربة والتعلم(5) يتاح للأبناء الارتباط بالقضايا التي تعبر عن ذواتهم، وهذا ما أكده الفيلسوف جان جاك روسو، في دعوته للتربية الحرة(6)، والتي تتيح للطفل أن ينمو نفسيًا وعقليًا نموًا أصيلًا، بعيدًا عن تدخلات الراشدين وعبثهم، وبهذا يدعو روسو أن ندع الطفل منفردًا في صدامه مع الحياة بتجاربها ومفارقاتها، فوظيفة المربي لا تكاد تتجاوز حدود الإشراف عن بعد، وهو ليس مطالبًا بالتدخل إلا حين تقتضي الضرورة[20]. ونختم بقوله"الطبيعة لا تحتاج إلى تربية، والغريزة خيرة طالما تعمل وحدها، وتصبح مشبوهة عندما تتدخل المؤسسات الإنسانية، وينبغي علينا أن ننظمها لا أن نقضي عليها، وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها"[21].

 


المراجع:

[1] مقدمة المترجمين، الأخلاق في عصر الحداثة، زيجمونت بومان

[2] المرجع السابق

[3]السائل الحداثة السائلة، الحياة السائلة، الحب السائل، الأخلاق السائلة، الأزمنة السائلة، الخوف السائل، المراقبة السائلة، الشر

[4] بدأت شرارتها في عصر التنوير، في القرن الثامن عشر، حيث تمخض عنه مفاهيم كبرى مثل المجتمع والدولة الحديثة والثقافة، وكان من سماتها ثبات وووضوح الحدود والمعالم، كانت ترتبط في كثيرٍ من الأحيان بالهوية والوحدة والسلطة واليقين، لذا أطلق عليها بأنها صلبة.

[5] مقدمة المترجمين، الأخلاق في عصر الحداثة، مرجع سابق

[6] مقدمة المترجمين، الأخلاق في عصر الحداثة، مرجع سابق

[7] ميدان الجزيرة "مجموعة السوائل".. طريقك إلى نظرية "باومان" في علم الاجتماع

[8] تقديم د. هبة رؤوف عزت، الحياة السائلة، زيجمونت بومان

[9]د.هبة رؤوف عزت - الحداثة السائلة

[10]  مرجع سابق

 

[11]الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، مرجع سابق

[12] الحياة السائلة، مرجع سابق

[13] مقابلة مع الطبيب عبد الرحمن عقاب

[14] الحياة السائلة، مرجع سابق

[15] التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي، مرجع سابق

[16] هل يتفلسف الأطفال، أ.دعلي أسعد وطفة

[17] المرجع السابق

[18] المرجع السابق

[19] التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي، مرجع سابق

[20] جان جاك روسو: فيلسوف الحرية والأب الروحي للتربية الحديثة

[21] المرجع السابق