بنفسج

وصفات بمقادير دقيقة: كيف لمطبخي أن يلهمني

الثلاثاء 06 يوليو

بينما تعد النساء المحترفات أطباقاً من الحلوى المركبة والأصناف الشرقية والغربية، كنت أنا أدربُ نفسي على صناعة الكيكة الإسفنجية العادية، مرة بنكهة البرتقال ومرة بنكهة الشوكولا، وقد مضى من العمر ما مضى. لم يكن لديّ قبلَ زمن كورونا الوقت ولا المزاج، من أجل إعداد "الكعكة" التقليدية، كنت أكتفي بصناعة طبق رئيس لوجبة الغداء، والباقي يمكننا تعويضه من محلات الحلويات.

العجيب في الأمر، إن إعداد الكيكة الإسفنجية ربما سيكون لسيدة محترفة أمراً سهلاً، لكنّه تطلب مني الإعداد والتجهيز، ثم التركيز كثيراً في طريقة التنفيذ والتسلسل والبُعد عن الاجتهادات الشخصية، ثم في النهاية كان لابد أن أقدمّ هذه الحلوى بالشكل الذي أرضاه أنا. بكل صراحة، وأنا أعد هذه "الكعكة" التقليدية مع صغيريّ اللذين كانا يحلمان كثيراً بالمشاركة فيها وإعدادها، كنت أتساءل: هل يمكن لهذه الكيكة التقليدية أن تسهم في فهم العالم؟ هل سيكون للكيكة الاسفنجية دور في ترتيب أولوياتي؟كيف يمكن أن تكون هذه الوصفة السخية، درسا للبشرية! إذن كيف يمكن لبعض السكر والزيت والدقيق، أن يكونوا أشياء مثالية لسياق تدريبي على أرض الواقع!

كم مرة جربتم وفشلتم، ثم أعدتم المحاولة، ثم وازنتم أموركم، وأوقدتم حرارة قلوبكم.. مدة خفق البيض، الوقت المناسب لوضع البيكنج باودر، اهتمي بالتحريك العميق لتجانس المكونات، القالب المميز، الآن أصبح لدينا كيكة لذيذة المذاق! ألم تكن تلك الطريقة، بدءًا بتحضير المكونات، وإعدادها، حتى خلطها بشكل متجانس، ثم خبزها، والاهتمام بحرارة الفرن، ثم تقديمها بشكل ملفت، هي ذاتها الطريقة، التي تمكّنك، فيما بعد، من إعداد مشروعك الخاص، أو معلوماتك التي تبحث عنها، أو مشروعك أو فكرتك أو حتى واجباً بيتياً.

هل يمكن لتلك الكيكة التي قررتُ أن أتعلمها، أن تكون ملهمة حقيقية من وحي الحياة الطبيعية، حين تقرر أن ترتب طريقة تفكيرك، أو أولوياتك، أو حتى رأيك الإنساني. الوصفة التي تحتاج كل تلك المقادير الدقيقة، وآليات التجهيز والتحضير، والانسجام والاتساق، هي ذاتها الوصفة التي نحتاجها في حياتنا اليومية، مع إمكانية أن تضيف نكهتك الخاصة، فأنت تعشق الفانيلا، أو تضيف قليلاً من البرتقال أو الجزر المبشور، إنها إذن آراؤك الشخصية، اجتهاداتك المهمة في طرح الفكرة، إنك تدافع عن مذاق الكيكة بطريقتك وبنكهتك الخاصة، تدافع عن إرثك من التعلم، وصبغتك الحالية، وإضافتك التي يجب أن تكون مهمة وثرية دائماً.

هذه الحياة الحقيقية التي ينشدها أطفالنا، التطبيق العملي والحقيقي للمفاهيم بعيداً عن التلقين والتكرار، مع الممارسة العملية، وإسقاط المعرفة في الأشياء التي يدركونها بحواسهم ويفهمونها بقلوبهم فهماً واعياً، دون الحاجة إلى التكرار والزيادة.

الخلاصة التي تقدمها الكيكة تقول: التحضير والإعداد الجيد، التنفيذ المتقن، الإخراج المبدع. على الهامش: حاولت سؤالَ صغيري في إحدى المرّات التي كان منهمكاً فيها في صنع "كعكته" المفضلة: هل اشتقت إلى المدرسة؟ وبينما كانت نظرة حازمة من عينيه الضيقتين تحدقان بي، كان يكمل خفق المكونات دون كلل أو ملل، وهنا تأكدت تماماً أن درس الكيكة الإسفنجية بالنسبة له أهم بكثير من جدول الضرب الذي لم يحفظه حتى الآن.

هذا الأمر ذكرني بما قاله الدكتور منير فاشة في كتابه/ حكايتي مع الكلمات/ حين ذكر أنه وفي الفترة المخصصة من عمره للذهاب إلى الروضة أو البستان، رفض تماماً الذهاب حتى مع التهديد، وآثر البقاء في بستان حقيقي حول منزله، البستان الذي يملأ روحه بالورد والطبيعة الحقيقية التي تمده بفهم حقيقي للحياة، ليعيش مع الدجاجات ويثقب بيضهن بدبوس ثم يشربها في الحال.

هذه الحياة الحقيقية التي ينشدها أطفالنا، التطبيق العملي والحقيقي للمفاهيم بعيداً عن التلقين والتكرار، مع الممارسة العملية، وإسقاط المعرفة في الأشياء التي يدركونها بحواسهم ويفهمونها بقلوبهم فهماً واعياً، دون الحاجة إلى التكرار والزيادة. لا بأس في المرة القادمة بطبق من المعكرونة بالصلصة، ونحن نبحث من خلاله عن مفهوم جديد من مفاهيم الحياة.