بنفسج

من الجزائر.. هنا فلسطين

الأربعاء 19 يوليو

في زمن ما، قد يكون أمسًا قريبًا؛ يخبرنا جدّي المتلهف لقصّ تفاصيل الحج عن رحلة الحج التي قام بها قبل ثلاث سنوات؛ أي قبل فاصل محوريّ يحيلنا إلى حياة طبيعيّة لم تكن مجرياتها تنحصر بين مطرقة الوباء وسنديان الموت، يقصّها كأنّما يروي شوقه بالحديث عن محبوبه، تلك البقعة الطاهرةُ مهوى الأفئدة، ومُستراح الزائرين، وقبلة الملبيين: لبيك اللهم لبيك.

جدّي لم يتجرّد من فلسطينيته في البقاع المقدّسة، بل وجد من الحج فرصة العمر التي لم تمنح له من قبل. سيرى بعينيه أخيرًا إخوته الفلسطينيين الذين لم يرهم من قبل إلّا بقلبه كأنما يستذكر ما قاله فاروق جويدة: "فماذا أقول وقد صرت بعضي... أراك بقلبي جميع البشر". وكان كلما رأى فلسطينيًا أو عرفه من خلال كوفيته الخالدة التي تؤكّد على هويةٍ عمرها أكبر من عمر الاحتلال بآلاف السنوات، قال بصوتٍ جهوريّ واضح: "ظالمةً أو مظلومة"، فيرفع الآخر إصبعه ويكرّر مؤكدًا: "ظالمةً أو مظلومة". بين الكلمات، تجليات! تجليات الحب الثوريّ الخالد الذي جمع فلسطين والجزائر، أوردها هنا بمسحةٍ تاريخيّة وحدثٍ واقع.

| يا سعدو لي حجّ وقدّس

الجزائر2.png

ولكنّ جدي وهو يركّب لنا قطع فسيفساء الحجّ، كان يبدي دومًا تحسّره على قطعة ناقصة؛ لقد كان يتمنى أن يسلك خطى أجداده المغاربة الذين اعتادوا على أن ييمموا وجوههم شطر المسجد الحرام، ويختموا رحلتهم الطويلة بصلاةٍ في المسجد الأقصى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ"، إذ ظلّ الأمر على هذه الحال طوال فترة حكم الأمويين للأندلس والمغرب العربيّ، وخلال فترات متقطعة من حكم الموحدين والفاطميين.

لقد تمنى جدّي بأن يصحّ فيه المثل الذي لطالما ردّده أسلافه في الجزائر: "يا سعدو لي حجّ وقدّس"، وتمنّى أيضًا أن يردّد بصوت أسلافه المغاربة "حججتُ وقدّست". جدّي لم يكن الوحيد في مطلبه هذا، الملايين يشاركونه المبتغى ويأملون، ولكنّه في تصوّري الذهنيّ الرّجل الذي أتمثّل به حكاية حبّ ثوريّ خالد جمع بين الجزائر وفلسطين.

| حارة المغاربة

حارة المغاربة.jpg
حارة المغاربة

تقع الحارة في جنوب شرق مدينة القدس، وقد تعرضت للتدمير من طرف الاحتلال سنة 1967 نظرًا لموقعها الاستراتيجيّ بجانب حائط البراق أو "المبكى" كما يسمونه، ولم يبقَ سوى الباب الخارجيّ الذي يحمل الاسم ذاته. وتوحي الكلمة بأنّها كانت حيًّا يسكنه المغاربة من سكان بلدان المغرب العربيّ.

الحقيقةُ أنّ توافد هؤلاء من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، لم تكن زيارة المسجد الأقصى ولا طلب العلم السّبب الوحيد له: في المعارك المستمرة التي كانت بين الإفرنجة والمسلمين والمعروفة بالحروب الصليبية، شارك الكثير من المغاربة في الدفاع عن الأقصى بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبيّ الذي طلب من الخليفة الموحديّ يعقوب المنصور أن يمدّه بأسطول بحريّ ليساند في تحرير بيت المقدس.

انتصر المسلمون في معركة حطّين سنة 1187 م، وجعل صلاح الدين تلك المنطقة وقفًا على المغاربة، قائلًا: "أسكنتُ هناك من يثبُتون في البرّ، ويبطشون في البحر، وخير من يؤتمنون على المسجد الأقصى، وعلى هذه المدينة". المغاربة الذين لم يعتقدوا وهم يغادرون بلدانهم أنّهم سيمضون بقية حياتهم بجوار المسجد الأقصى، أصبحت لهم حارة هناك، مخلّدة باسمهم إلى يوم النصر الأكبر: يوم تُحرّر القدس مرةً أخرى وأخيرة ويزورها أحفادهم من بعدهم.

| في حطين: كان سيدي بومدين

سيدي ابو مدين.jpg
سيدي أبو مدين

في المعركة ذاتها، وبين المغاربة أنفسهم، كان سيدي بومدين؛ هو أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاريّ، "معلم المعلمين" كما لقبه ابن عربيّ، الفقيه والشاعر ومؤسّس مذهب التصوف في المغرب العربيّ. ولد في إشبيلية، وقضى فترة طويلة من حياته في مدينة بجاية الجزائرية إبان حكم الموحدين. سيدي بومدين كان من المشاركين في معركة حطين، وخلال ذلك فقد ذراعه، فدفنها في تراب المدينة إضافة إلى قطع أرض كانت تخصّه، والتي جعلها وقفًا للمحتاجين المغاربة هناك.

مرض أبو مدين خلال مروره بمدينة تلمسان الجزائرية، فوافته المنية هناك، وأقيم له ضريحٌ لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا. سيدي بومدين الذي دفن في الجزائر، وهناك قطعة منه مدفونة إلى اليوم في الأرض المقدّسة: لم يغطّها التراب كما ظنّنا، لقد نسجت بركتها وبركة صاحبها الوليّ الصالح خيوط المحبّة بين الأرضين.

| يا ظريف الطول بنسختها الفلسطينية والجزائرية

لشيخ العربي.jpg
الشيخ العربيّ بن صاري

هي أغنية فلسطينية ثورية، أغنية خالدة لابدّ لها من حضورٍ في المناسبات كلها وفي لحظات الفرح والحزن، هي المردّدة بصوت صادح: عبثًا تحاول، لا فناء لثائر: "يا ظريف الطول وقف تاقلك، رايح على الغربة وفلسطين أحسنلك". وقد جاء في الروايات بأنّ ظريف الطول شابّ فلسطينيّ لا يُدرك اسمه، فلقب بذلك نسبةً لطوله، وكان يعمل عند نجار في إحدى القرى الفلسطينية، وكان خلوقًا، عفيفًا إلى الدرجة التي لا ينظر فيها في أيّ امرأة، وكانت كلّ نسوة القرية تبتغينه.

وعقب إحدى هجمات العصابات الصهيونية على القرية، خرج ظريف الطول مجاهدًا ولم يرجع بعدها أبدًا. يقسم كلّ من عرفه بأنّه رآه، تارةً في حيفا وتارةً في الحرب العربية الإسرائيلية في مصر، وتارةً في لبنان ليصبح ظريف الطول رمزًا للفلسطينيّ المقاوم. الشيخ العربيّ بن صاري الفنان التلمسانيّ الذي عرف بأغانيه المندرجة ضمن الطابع الغرناطيّ، والذي كان أحد المدارس الأندلسية في مدينة تلمسان والأولى على مستوى شمال إفريقيا بعد سقوط الأندلس، كان قد زار مع فرقته القاهرة بمصر سنة 1932 في إطار المؤتمر الدولي للموسيقى العربية.

 وهناك تعرّف على أغنية يا ظريف الطول فاقتطع جزْءًا منها وأكمل كتابة الباقي ولحنها وفق ما يناسب الطابع الغرناطيّ: "يا ظريف الطول واجي ناقلك، رايحة فالغربة وبلادك أحسنلك". ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، وأغنية يا ظريف الطول ضمن أشهر الأغاني التراثية الجزائرية. فيصحّ حينها مع امتزاج هذه الثقافة أن يقال في حضرة الأغنية: عرس جزائريّ، بنكهة فلسطينية.

| ويؤثرون على أنفسهم

الجزائر.jpg

حدث ذلك في مخيم الدهيشة في بيت لحم، سنوات اندلاع الثورة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي؛ إذ قام الفلسطينيون بجمع التبرعات من أجل الثورة الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسيّ. تلك الثورة التي قال عنها الأسير مروان البرغوثيّ بانّها ألهمت القياديين والمجاهدين في فلسطين أيّما إلهام. لقد كان الفلسطينيون في حالةٍ من الفقر والأوضاع الصعبة في المخيّم، ورغم ذلك لم ينسوا إخوانهم في الجزائر، وكانوا ممّن يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ولعلّ ما ساهم في ذلك هو "تشارك المصير" إذا صحّ القول: الشعوب الثائرة ضدّ الاحتلال يحب بعضها بعضًا لأنّ الاحتلال له ملّة واحدة مهما تبدلّت المسميات.

وقد أفتى قبلها في ثلاثينيات القرن الماضي، رائد النهضة الإصلاحية في الجزائر عبد الحميد بن باديس بضرورة نصرة القضية الفلسطينية، وكانت بعض الأسلحة تهرب للفصائل الجهادية الفلسطينية آنذاك، كما أنشئت حملات توعية وتعبئة من طرف جمعية العلماء المسلمين، وحزب الشعب في الجزائر بهدف جمع التبرعات إبان الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936: كلّ هذا التآزر والتلاحم وكلا الشعبين في مواقف لا يُحسدُ عليها، من اضطهاد وسرقةٍ للأرض ومحاولاتٍ لطمس الهوية؛ فأيّ حب أكثر من هذا؟

الجميل أنّ هذه النقاط المشتركة، كانت في الحب كما كانت في الكره؛ الجزائريون كالفلسطينيين يكنّون كرهًا كبيرًا اتجاه دولة الاحتلال والذي لم يُعرف كنهه بشهادة الأعداء؛ إذ يقول الخبير الإسرائيليّ عاموس هارئيل: "الجزائريّون من أكثر الشعوب كرهًا لإسرائيل، وهم مستعدون للتحالف مع الشّيطان في وجهنا"، ويضيف بأنّ هذه كراهية لم يستطع أن يفهم سببها أو يزيلها منذ عقود، فالرّجل الجزائريّ الذي يبدو ظاهريًّا متنورًا ومحبًّا للسّلم هو في الحقيقة أكثر تعصّبا من حاخامات اليهود، كما قال.

| من الجزائر: هنا فلسطين

بعد نيل الجزائر لاستقلالها سنة 1962، تمّ فتح أول مكتب فلسطيني لحركة فتح سنة 1964 وتلتها سنوات كثيرة من تمازج الدماء بين الشعبين في الحروب العربية الإسرائيلية. وفي 1988، زار محمود درويش للمرة الأولى الجزائر قادمًا من بيروت بجواز سفر جزائريّ، زارها وهو العاشق لفلسطين، والعاشق لها، مردّدًا:

"ليتني بائع خبزٍ في الجزائر لأغني مع ثائر". وعلى أرضها، كُتب إعلان قيام الدولة الفلسطينية بعد اتفاق ياسر عرفات، جورج حبش ونايف حواتمة على ذلك، وأعلن عن قيام الدولة الفلسطينية؛ فتداخل الصوت الفلسطينيّ مع صاحبه الجزائريّ: من الجزائر، هنا فلسطين!

القلم إلى جانب السّلاح وسيلة كفاح، والشعر نبعٌ منه. وقد كان للقضيتين حضورٌ في قلم بعضهما البعض: فلسطين في شعر الجزائر، والجزائر في شعر فلسطين. هل أورد لكم زهرة من بستانين كل ذلك؟ من محراب درويش، نسمع صلاة الكلمات وهي تتغنى بثورة الجزائر قائلةً:

أنا في ترابك يا جزائر

عَفرتُ.. مرّغتُ المشاعر

أنا قبلما أعطيتني نور الحياة.. ولدتُ ثائر

فيردّ عليها صاحب الإلياذة قائلًا:

فلسطين يا مهبط الأنبياء ويا قبلـة العـرب الثانـيــه

ويا حجة الله فـي أرضــه ويا هبة الأزل الساميـــة

ويا قدُسًا باعه آدم كما بـاع جنتــه العاليـــــه

وبين هذا وذاك، حروف من تمازجٍ فكريّ، وتشارك في المصير، وهيبةٌ في الحضور.

| في الملاعب

مباراة.jpg

"زيادة" هي مباراة كرة القدم الودية التي جرت بين الجزائر وفلسطين، سنة 2016، حيث نجح الفريق الفلسطيني في إحراز هدف الفوز، لكنّ التشجيع والفرح كان جزائريًّا بحتًا، هل يعقل أن يشجّع المرء فريقًا غير منتخبه الوطنيّ؟ "لهذه الدرجة؟" يتساءل أحدهم، "بل وأكثر من ذلك أجيب". ومن جميل ما حدث، هو أنّ المعلق الجزائريّ وعندما ضاعت إحدى فرص تسجيل الهدف للمنتخب الفلسطينيّ، قال بكلّ عفوية: تبًّا. كأنما يريد بذلك أن يؤكد بأنّ فلسطين، لا تُهزم في الأراضي الجزائرية.

فلسطين بدورها، كانت حاضرة خلال مباريات كأس أمم إفريقيا قبل عامين، والذي انتهى بفوز المنتخب الجزائريّ. لم يبق بيتٌ فلسطينيّ إلّا وكان المشجّع له والمترقّب لفوزه. واجتمع حشد هائل في ميدان ياسر عرفات برام الله، لمشاهدة المباراة بين الجزائر والسينيغال، مع ارتدائهم لقمصان مكتوب فيها عبارات الأخوة الفلسطينية الجزائرية، وحملهم للأعلام الجزائرية في كل مكان. ثمّ أعقبت ذلك فرحةٌ عارمة، لو لم أشاهدها بنفسي عبر القنوات الإخبارية، لما صدقت!

في استفتاءٍ قمت به على صفحتي على الفيس بوك لمجموعة من الأصدقاء الفلسطينيين والجزائريين، عن سبب الحب المتبادل بين الشعبين، تنوعت الإجابات بين تشارك الدّين، والمصير. ومما لفتني كذلك، وصف الكثير من الأصدقاء من كلا البلدين بأنّ هذا الحب فطريّ، لم يجدوا له إلى الآن سببًا واضحًا. أقول كما قالوا، هو من عند الله وأمره بين الكاف والنون، أمّا الأسبابُ فـ: "عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52)" طه.