بنفسج

خراريف فلسطينية: الوطن في حقيبة سفر

الثلاثاء 16 مايو

كان تعبيرًا عن رفضه لفكرة التوطين حتى لا يصبح الوطن هو المهجر ويهمل وطنه الفلسطيني الأم، في حقيبة أشبه بصندوق مربع قديم. ولكن ذات الوصف حين قرأته أخذني إلى زاوية مختلفة، ففي الغربة، أنا كمسافر يحمل وطنه في حقيبة سفر بالفعل، كناية عن التصاق الوطن بذلك الفلسطيني المهجر، كتحفة غالية، أو قطعة أنتيكة تزداد قيمتها ويرتفع ثمنها مع الأيام. قد يبدو التصوير مبالغًا فيه لدى البعض، ولكنه حقيقي بالنسبة لفلسطيني لم يولد في وطنه أو يعش فيه.

فالحياة بطبيعتها تجرنا لروتينها اليومي ووقعها الرتيب، فتمضي فترة والحقيبة الثمينة مركونة في طرف من أطراف الذاكرة، حتى يأتي حدث ما لينعشها ويحفزني على فتحها لإضافة ذكرى جديدة من عبق الوطن. قدرنا نحن الفلسطينيون أن تتدخل الجغرافيا والتاريخ في تصنيفنا بين فلسطينيي الداخل والخارج. ولأنني من الصنف الثاني تنتشي ذاكرتي في كل مرة أتعرف بها على أحد من الصنف الأول، "شق التوم الغالي" كما نقول بالعامية. فتكون أثمن اللحظات، أفتح حقيبتي لأملأها "خراريف" وخيالات وذاكرة، وأنتشي بثقلها الجديد.

مرت الساعتان سريعًا، وكنت حريصة على التركيز في كل تفصيل في كل حكاية لأحفظها في حقيبتي. حديث عن التضحيات، وذكريات المطاردين، والشهداء، وقبح الاحتلال، وحياة الناس في غزة قبل تحريرها من المستوطنات وبعد خروج الاحتلال منها. يتوجها ذكر الشيخ ياسين في كل "خرافية" كما نقول بالفلسطيني. سنوات سجن الشيخ والانتفاضة ورفقاء النضال.

ويفاجئني القدر هذه المرة بفرحة اللقاء أضعافًا حين التقيت بأم أسامة وأم أحمد، وهن بنات الشيخ الشهيد أحمد ياسين. لتحتشد في ذاكرتي بلحظة مشاعر الحنين والفضول وحكايا النضال والمقاومة، وكل المعلومات التي أعرفها، والأسئلة التي أتوق لأعرف إجاباتها. في لحظة تحولت لفضول، أريد أن أعرف الكثير، وأريد أن يسمع أولادي الصغار الذين رافقوني حديث النضال والتضحية لسيرة رجل أحبوه، حتى صغيرهم ذو الثلاث سنوات، والذي بالكاد بدأ يكون ذاكرته عن الوطن من قريب.

مرت الساعتان سريعًا، وكنت حريصة على التركيز في كل تفصيل في كل حكاية لأحفظها في حقيبتي. حديث عن التضحيات، وذكريات المطاردين، والشهداء، وقبح الاحتلال، وحياة الناس في غزة قبل تحريرها من المستوطنات وبعد خروج الاحتلال منها. يتوجها ذكر الشيخ ياسين في كل "خرافية" كما نقول بالفلسطيني. سنوات سجن الشيخ والانتفاضة ورفقاء النضال، سيرة الشيخ العطرة كرمز وطني فلسطيني مناضل.

لن أنسى كيف أخبرتنا أم أسامة عن أول مرة عرفت فيها دور والدها قائدًا، حين كانت طفلة في الابتدائية عائدة في ظهر يوم من مدرستها نحو البيت، فاستوقفتها مسيرة يهتف الناس فيها باسم الشيخ، فأسرعت الخطى نحو البيت لتنظر في عيني والدها بحثًا عن إجابة لسؤالها، فابتسم الشيخ بصمت، وكانت تلك الإجابة أبلغ من أي كلام.

ولن أنسى كيف اضطرت أم أسامة لمزاحمة جموع كبيرة من الناس في ساحة اليرموك في غزة لتصل إلى والدها وتقبل رأسه ويديه بعد خروجه من سجن الاحتلال الصهيوني الذي زاد على العشر سنوات. اضطرت لمزاحمة كل من قاسمها حب والدها وإجلاله. ولن أنسى نبرة الحنين في صوتها وهي تقص لي كيف كانت هي وأخواتها البنات يتناوبن على السهر مع الشيخ في اجتماعاته وسهراته التي كانت تطول للعمل والجهاد، حتى يقمن بحقه في الرعاية قبل نومه أو راحته.

ولم تنس أن تخبرني أم أسامة عن اليوم الذي استشهد فيه عماد عقل، فقد كان مطاردًا عندهم في بيت والدها، فتصادف يوم استشهاده مع اليوم الذي اتصلت فيه أم نضال فرحات، رحمها الله، لتعزمه على أكلة مفتول من يديها الطيبتين، فكان لعماد نصيب في المفتول وفي الشهادة ذلك اليوم.

وعلى ذكر الشهيد عماد عقل، أخبرتني كيف تنكر بعباءتها وخمارها حتى يستطيع الذهاب إلى الضفة الغربية متخفيًا عن عيون المحتل. أما استشهاد الشيخ فلم تجبني بشيء حين سألتها عنه إلا بابتسامة حزينة: " يعني شو بدي أقول"، كانت إجابتها مع صمت ألجمني عن الاسترسال في فضولي، فوقع الحدث على قلبها أصعب من أن تصفه. جلسة أم أسامة وأم أحمد لم تخل من روح دعابة كانت سيدة الحديث، فحياة عائلة الشيخ وعائلات بناته المزدحمة بالأحداث والمخاوف والمطاردات هي حياتهم اليومية الطبيعية. أحمد هو الشهيد ابن أم أحمد وسُمي على اسم جده الشهيد، وابن عمه أسمته والدته "أحمد ياسين" اسم مركب ليبقى اسم الشيخ حاضرًا بينهم.

تذكرني ابتسامتهم بتوازن الحياة والموت في إيقاع أرواحهم. أغلقت حقيبة سفري وأنا فرحة بما امتلأت به. ولكنها باتت أثقل بثقل الأمانة تجاه الوطن الفلسطيني علينا في الخارج. وعلى قولة ابنتي التي شاطرتني حمل الذاكرة الثمينة "انبسطت كتير يا ماما… يا هيك الزيارات يا بلا".

لم أغفل عن سؤال أم أسامة عن والدتها، فصمتت قليلًا، ثم رثت أمها بنظرة عميقة، ولم تزد على قول "الله يرحمها"، ليدرك السامع أن الزمن توقف في قلب أم أسامة بوفاة والدتها المجاهدة وتضحيتها وصبرها إلى جانب رفيق العمر أحمد ياسين. أتذكرون الصورة الشهيرة للشيخ وحوله صبية يضحكون وقد تحلقوا حوله، وانتشر معها التعليق الشهير من فترة على مواقع التواصل الاجتماعي "الأولاد كبروا يا شيخ". أخبرتني أم أسامة أن الصورة التقطت قبل استشهاد الشيخ بليلة واحدة في صلاة العشاء في الجامع الرئيسي في مخيم الشاطئ في غزة، وأن الصبية الذين في الصورة هي تعرفهم، وأن كلًا منهم أصبح في خدمة وطنه، كل من مكانه وعلى ثغره.

وبينما أنا ألملم حقيبتي بعد أن ملأتها بمزيد من ذاكرة وطني، بعد أن غادرنا بيت أم أسامة وأم أحمد. وقد أوشكت على إقفالها، بادرني ولدي ذو العشر سنوات بقوله: "بنات الشيخ بيشبهوه يا ماما، نفس الابتسامة اللي كانت دايما على وجهه". فأضفت ذلك التفصيل المهم وحفظت في الذاكرة ابتسامتهما، فهي لا تشبه والدهما فحسب، بل تمثل ابتسامة كل غزاوي بالخصوص وفلسطيني من داخل الأرض، نصفنا الآخر، بالعموم.

تذكرني ابتسامتهم بتوازن الحياة والموت في إيقاع أرواحهم. أغلقت حقيبة سفري وأنا فرحة بما امتلأت به. ولكنها باتت أثقل بثقل الأمانة تجاه الوطن الفلسطيني علينا في الخارج. وعلى قولة ابنتي التي شاطرتني حمل الذاكرة الثمينة "انبسطت كتير يا ماما… يا هيك الزيارات يا بلا".