بنفسج

وحش بقدم واحدة: حديث في الحرب والحياة

الأربعاء 02 يونيو

أنظر إلى وجه ابني كامل الخائف والصامت طيلة الوقت، وأتذكر كيف كانت عراكاتنا لا تنتهي قبل مجئ الحرب، كيف كان صوته قد بدأ يخشن ويعلو، يحكي عن بطولاته مع أولاد صفه ويمشي فاردا عضلاته، ثم يقف بجانبي ويقول لي : "عدّي صرت طولك". في حرب 2008 كنت لا أزال في السنة الثالثة من الجامعة، وفي الحرب الثانية كنت زوجة وأما لطفل، وفي الحرب الثالثة كنت أما لطفلين، ومن وقتها قررت ألا أنجب مزيدًا من الأطفال، كي نستطع الهرب في المرة الرابعة، إن أتيح لنا الهرب.

أنظر إلى سيقان يارا الرفيعتين، يقول أبوها: "فخذتها أصغر من دبوس الجاجة"! نضحك ثم أتذكر كيف تحتمل هذه السيقان برودة الخوف! يارا تغيرت كثيرًا، صارت ترسم الحرب والصواريخ، وتضع قلوبًا على البيوت المدمرة، وتقول للصغار في العمارة وهي في حالة هيجان: لا تخافوا؛ هم على باطل ونحن على حق. وتقول لي أيضًا: أنا الآن في الكابوس الثالث، حين نصل للكابوس الخامس سوف تنتهي الحرب.

كيف لهذا الوجه الحلو أن يأكله وحش الحرب بلا رحمة؟ يأتي وحش الحرب كل ليلة، يضرب الأرض بقدم واحدة فتتكسر الشوارع تحت قدمه، وتغوص للأسفل، فيسيل الشوك والدمع في الطرقات والمنازل، وحش الحرب ضخم جًدا، يقف في منتصف المدينة ليقارن طوله بطول برج جديد سيهدمه في الغد، يأخذ لقطة سيلفي معه ثم يغادر، مخلفّا قطعا من زجاج القلوب المتناثرة.

نزحت منذ بداية الحرب إلى شقتي سيدتان، واحدة نامت مع أولادها في المطبخ، والأخرى في غرفة الضيوف، الأولى امرأة عادية، فطرية، تحب الحياة، والثانية متفلسفة، تُخضع كل شيء للتأويل، وحين يأتي الليل، تبدأ الاثنتان بالعِراك، وتشتبك الأيادي، فأضطر للتدخل، وأعطي كل واحدة منهما وعدًا بأن أركلهما خارج المنزل ريثما تنتهي الحرب، ثم ألعن اليوم الذي فتحت لهم فيه باب عقلي، تلم كل واحدة منهما أغراضها، وأولادها، ثم يعودوا جميعًا إلى عقلي، ينامون كلهم، وأنام أنا بعدهم.

في لحظة اختبائي مع الجميع لمحت عيناي بقعة صفراء على البلاط، ارتبكت كثيرًا، ماذا سيقول أهل الحي عني، هل سأموت وفي بيتي بقعة صفراء؟ تسللت من بين الجموع المختبئة وذهبت لإحضار ممسحة وقشاطة كبيرة، تقول أمي دائمًا أن النظافة تريحنا وتقوي جهازنا المناعي، بدأت أفكر، متى راوغتني هذه البقعة الصفراء؟

اختبأنا قبل يومين خلف كنبتنا الكبيرة، نسميها بلغة أهل البيت " الفوتيه الأحمر" ، والفوتيه Footie كلمة فرنسية معناها كنبة، المهم أن هذه الفوتيه كبيرة جدًا درجة أننا يمكن أن نخبئ خلفه كل أهل المدينة. كلنا اختبأنا خلفه حين أرادوا أن يُسقطوا برجًا قريبًا منّا، جاء الجيران جميعهم واختبأوا خلفه، رأيت سيدة من آخر الشارع تجري كي تلتحق بشرف الاختفاء خلف هذه الفوتية المصفحة.

وفي لحظة اختبائي مع الجميع لمحت عيناي بقعة صفراء على البلاط، ارتبكت كثيرًا، ماذا سيقول أهل الحي عني، هل سأموت وفي بيتي بقعة صفراء؟ تسللت من بين الجموع المختبئة وذهبت لإحضار ممسحة وقشاطة كبيرة، تقول أمي دائمًا أن النظافة تريحنا وتقوي جهازنا المناعي، بدأت أفكر، متى راوغتني هذه البقعة الصفراء؟ هل هي بقايا عصير؟ أم شوربة عدس؟ أم هو بول القطط؟

وصلت و صرت أنادي في الجموع: هييه ابتعدوا قليلاً أريد أن أشطف البقعة الصفراء، بالتأكيد كان زوجي ينظر لي وهو يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعنا جميعًا. لا تزال زينة رمضان معلقة على الجدارن والشبابيك، ولا زال مفرش الطعام بألوانه المصرية الجميلة متمددًا على طاولة المطبخ مكتوب عليه "رمضان كريم". على سيرة المطبخ، صرت أبحث في علب البقوليات عما يكفي من المونة، في ظل إغلاق الكثير من المحلات، ومغامرة الخروج للشراء، التي يتخللها مليون اتصال، وربما يبقى الخط مفتوحًا حتى العودة، العودة التي هلكتنا اسمًا  وفعلًا.

المهم، أن يبقى هناك عدس مجروش وعدس عادي، وبرغل ومكرونة، وعلب من الفول، هناك بطاطس وبصل وربع رأس من الملفوف الأحمر، مؤهلات رائعة لصنع الكشري المصري اللذيذ، لديّ طنجرة بنية اسمها " طنجرة الحرب" طنجرة بذراع واحدة، في كل يوم أضع فيها صنفًا من الطعام، لا نحتاج لأكثر من طنجرة واحدة في الحرب، أو مقلى واحد فقط لعمل شكشوكة، الطعام في الحرب هو تحصيل حاصل، المهم أن يبقى الخبز موجودًا وكيس "الحجات"، والقهوة، وطعام ينفع للقطط الخائفة.

أتفقد رأسي طيلة الوقت، رأسي يعج بالسيناريوهات المختلفة، تتحول الدنيا كلها لكتابة، كل شيء يتحول لسيناريو، كل صورة تتحول لقصة، كل جماد يتحول لحكاية، أجري هائمة على وجهي، فقط أحاول الإمساك بالأفكار الهاربة التي تأتيني حين يغمض جفني المتعب، أو حين أغرق في إعداد طبق، أو حين أصلي، أو حين أقرر الابتعاد عن كل الأخبار. تأتي الفكرة متسللة، تنخزني، وأهرش في عقلي، ويبدأ الوسواس من جديد، أشعر بالضعف أمام الكتابة، أركع على ركبتي، أتوسل إليها، ثم تسحبني كعازف المزمار، إلى الكيبورد وتفتح لي صفحة جديدة، وتقول لي رغم كل شيء : اكتبي.