بنفسج

حين رحل أسامة.. أنطقهم الله ليجبروا كسرنا

الخميس 17 يونيو

وضعت الحرب أوزارها، وبلغ الألم موضعه في كل موطنٍ وقلب وبيت، غزة التي بالكاد تُرى على الخريطة، رسمت خريطة لنفسها من جديد، وخطفت أنظار العالم إليها، تُغيث الملهوف، وتتصدى لكل طغيان ومتجبر. وفي لحظة انتصار للمقاومة، وتضحيةٍ فريدة، وجهدٍ دؤوب، لم يتوقف فيه الإعداد والتجهيز والتأمين، ارتفع "أسامة" إلى السماء، بعد أن نضجت ثمرة عمله، وحان وقت قطافها والعودة إلى بارئها، بعد سنواتٍ طويلة أنعم الله فيها بتواجده بالقرب ممن أحبوه، وممن اختارته شريكًا لها، وأنيسًا لأيامها، وحضنًا دافئًا لفلذات أكبادها، وطيفًا باسماً لكل من عرفه، ويد للعون لكل من حوله، دون تذمرٍ أو ملل.

فجأة، توقف الزمن لبرهة، توقف عند اللحظة التي سمعنا فيها أن "أسامة" زوج شقيقتي قد استشهد، كيف ولماذا ومتى؟ كل الأسئلة في هذا الكون تزاحمت في أذهاننا، وبتنا أسرى أي خبر يعود ليمنحنا الأمل في أن الخبر قد ضلّ طريقه إلينا، لكن وقع القدر ووجب التسليم. تلك اللحظة جاءت تمامًا، في وقتٍ كنا نلتقط فيه أنفاسنا بعد حربٍ كنا على يقين فيها أنّ جميعنا كنا على لائحة الموت، لكن نجاة مؤقتة قد كتبها الله لنا، فحمدنا الله على أقدارنا المكتوبة والمؤجلة، وسألنا الله التدبير والرضا، فلا يوجد من بيننا فاقدين ولا مفقودين.

تدابير الله اختارت الطيب أسامة من بين الكثيرين، حلّ خبر الرحيل، وانفطر القلب ألمًا وحزنًا، بكيتُ وكأنها المرة الأولى التي أبكي فيها، هرعت لقلب أختي ورفيقة عمري، كُل المواقف اصطفت أمامي، آخر لقاء، وآخر هدية، وآخر كلمة، وآخر ابتسامة، وآخر لمة عائلة، نظرت إليها وهي تردد بدموعٍ ألهبت عيناها وقلوبنا معها، "قلبي بوجعني يا إمي"، "الله يسهّل عليك يا حبيبي"، "الله يرضى عنك، راضية عنك والله".

كيف للقلب أن يحمل كل هذا الوجع، كيف للروح أن تعود من جديد، يا الله في أقل من الثانية، قد تتبدل كل أحوالك وحياتك ومسار عمرك، لحظة يشيخ معها القلب عشرات السنين، وتتوقف فيها الحياة عند اللحظة التي أُشيع فيها خبر الرحيل، لحظة لا شيء يعود كما قبلها، لحظة فارقة يتغير فيها كل شيء، كل شيء. وفي ظل شعورٍ لا يمكن وصفه، وألم كبير نعايشه، وتفاصيل كثيرة عالقة في أذهاننا، وأفكار تختلط في عقولنا، يهبنا الله رسائل من عنده، يُطبطب فيها على أرواحنا، ليجبرنا الله في أطفالنا.

حين تطرق لسمع صغيرتي أن أحد أصدقاء "أسامة" قد رأى في منامه أن الرسول الحبيب محمد قد استقبله فيمن عنده، لتخبرني في وقتٍ كنت أحتاجه جدًا، تقاطعني بلهجة الخوف عليّ "ماما مالك سرحانة، إنت حزينة كتير عشان عمو أسامة راح"، أجبتها: "نعم يا صغيرتي"، لترد عليّ بجبر من الله: "ماما عمو أسامة خلص عمره، ووصل عند الرسول بالسلامة، هذا شيء بفرّح مش بحزن"!

يا الله كم كانت هذه العبارات في موضعها، ردتني إلى نفسي وحقيقة الحياة مرة أخرى، أيقظت في قلبي أن الحياة ممر قصير، والنجاة الوحيدة هي الوصول إلى الله ورسوله بسلام، وأن هذه الحياة ما هي إلا معركة كُتب فيها علينا جهاد أنفسنا قبل عدونا، وأن الأعمار مهما طالت هي قصيرة جداً، وأن للإنسان ما سعى.

ومن بين كل الوجوه التي يمتلأ فيها المكان، يستأذن ابن شقيقتي "عمرو" الذي لم يتم عمره 12 عامًا، ليرى وجه أمه، يقبلها ويحتضنها "أنتِ بخير ماما"، "ماما تزعليش هيني موجود معك، إذا بابا راح أنا لسة معك". ذاك الصغير يعلم أنه السند من بعد الله لوالدته، لشقيقاته الصغريات "لين" و"مريم"، يُسارع لنداء أمه، يُحاورها بلسانٍ شابٍ قد عاش في الحياة كثيرًا.

لم تكن هذه الكلمات الوحيدة التي وجدت طريقها إلى قلبي، فقد أحاطتنا رسائل اللطيف الحنان كثيرًا، ففي زحمة المعزّين سأل ابن شهيدٍ لم تدركه الحياة أن يحفظ وجه والده سوى من بضع صور، ليحفظه في قلبه ويحفظ أنه من المصطفين. ابن الأعوام القليلة، سأل والدته على مسمعنا جميعًا "ماما ليش بتبكوا" "مش أبوهم راح عالجنة زي بابا" "أحسن مكان بالدنيا"، كان سؤالًا بسيطًا جرى على لسانه، وكان بمثابة بلسمٍ يخفف علّة القلوب المكلومة.

ومن بين كل الوجوه التي يمتلئ فيها المكان، يستأذن ابن شقيقتي "عمرو" الذي لم يتم عمره 12 عامًا، ليرى وجه أمه، يقبلها ويحتضنها "أنتِ بخير ماما"، "ماما تزعليش هيني موجود معك، إذا بابا راح أنا لسه معك". ذاك الصغير يعلم أنه السند من بعد الله لوالدته، لشقيقاته الصغريات "لين" و"مريم"، يُسارع لنداء أمه، يُحاورها بلسان شابٍ قد عاش في الحياة كثيرًا، وفي كل مرة يملأ اليقين بالقلب، أن الله سيعوضنا في أبنائنا وسيجبرون كسر قلوبنا دائمًا.

ما أعظم لطف الله حين يجريه على مشاعر الأطفال وألسنتهم، على حبهم النقي وخوفهم وحرصهم الدائم على من يحبونهم، تلك تجليات رحمة الله في عباده، ورسائله الحنونة في أصعب الظروف والأوقات، فغزة التي جبرت ضعف الأمة وقوّت عزيمتها وتوسدت أمر الدفاع عن مقدساتها، يجبرها الله دائمًا في أطفالها وأحاديثهم الكبيرة.