بنفسج

البطلة "امرأة": ديناميكية التغيير في الواقع والأفكار

الأحد 22 اغسطس

"رأى الناس في الحلبة ما يمكن أن أصفه بأفضل 40 دقيقة من كرة السلة الاحترافية التي لعبها أفضل فريق نسائي في التاريخ، لكن أحدًا لا يمكن أن يعرف ماذا كان وراء الأربعين دقيقة تلك، ليس فقط عام من التمرينات الشاقة و السفر المرهق فحسب، بل عقودًا، وقف فيها رجال و نساء على حد سواء يبيعون الحلوى في الشوارع لشراء الزي الرسمي ويطاردون المديديرن الرياضيين للحصول على منح دراسية، ويرفضون قبول الدرجة الثانية في لعبتهم، ويؤمنون باحترافهم وبالنساء حتى إن لم تكن هناك بطولة وطنية، ناهيك عن بطولة أولمبية كالتي نعيشها". تارا فان ديرفير، مدربة فريق السلة الوطني النسائي بالولايات المتحدة في البطولة الأولمبية عام 1996 في تصريح لها بعد أن فاز الفريق بالميدالية الذهبية.

| النساء والأولمبياد: حكاية الوصول الصعب

شارلوت.jpg
شارلوت كوبر الفائزة بأول ميدالية نسائية في مباريات التنس عام 1900

على استحياء، وفي لعبتين فقط، كانت أول مشاركة للنساء في الرياضات الأولمبية عام 1900، في التنس والجولف، وقد فازت شارلوت كوبر، وهي من أوائل لاعبات كرة المضرب الإنجليزية في ذلك العام بأول ميدالية نسائية في مباريات التنس الفردية. وحسب ورقة بحثية عن هذه المشاركة النسائية في الأولمبياد، نشرتها الباحثة جيرترود فيسر وهي باحثة في الشئون الرياضية والتغذية من جامعة كوبنهاجن، فإنه في العام 1908 بدأت نسبة مشاركة النساء في الأولمبياد تصل إلى 2%، ثم زادت قليلا لتصل إلى 8% في العام 1938، ثم 11% في العام 1960، وفي منافسات بيجين عام 2008 وصلت نسبة المشاركة النسائية إلى 42% في 26 لعبة من أصل 28 لعبة رياضية.

منذ ذلك الحين بدأت المشاركات النسائية في الألعاب الأولمبية تتزايد، ببطء، ولكن بثبات. وبالعودة قليلًا قبل هذا التاريخ أي عام 1896 كانت النساء ممنوعات من المشاركة الأولمبية لأنهن على حد قول البارون الفرنسي المؤسس للأولمبياد بيير كوبيرتين (1863-1937) "مهما كانت قوة المرأة الجسمانية الظاهرة فإنها ليست قادرة، على تحمل صدمات معينة". بين عامي 1964 و1992 استطاعت المرأة الدخول في مواجهات ضد الرجال في بعض اللعبات الفردية. في عام 1976 فازت مارغريت مردوك، البطلة الأولمبية التي عملت ممرضة سابقًا وضابطة بالجيش الأمريكي بميدالية فضية في منافسات الرماية، وكان ذلك حدثًا فريدًا وقتها.

أما في أوليمبياد برشلونة في العام 1992، فقد هزمت تشانغ شان، الصينية، في الألعاب الأولمبية فئة الرماية منافسيها الذكور، وحصلت على ميدالية ذهبية في مسابقة أخرى في فئة من فئات لعبة الرماية، محققة رقمًا قياسيًا جديدًا، ولعل ذلك ما جعل الدورة التالية للألعاب في أتنلاتنا تنقسم بين منافسات للرجال وأخرى للنساء بشكل منفصل. خلال دورة الألعاب الأولمبية عام 1972، فازت الألمانية ليسيلوت لينسنهوف، وهي فارسة ألمانية وبطلة أولمبية مخضرمة بأول ميدالية ذهبية فردية المنافسة المباشرة مع الرجال في سباق الفروسية. ومنذ ذلك الوقت، ظلت المرأة تهيمن على هذا الحدث بفوزها بالميداليات الذهبية من عام 1976 إلى عام 2012 باستثناء ألعاب عام 1984.

| عالمنا العربي: صناعة البطولة حكاية معجزة

نوال المتوكل.jpg
نوال المتوكل أول عداءة مغربية تفوز بميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية

كانت النسوة العربيات على موعد مع الذهب في الثاني من آب/أغسطس عام 1984 فهو العام الذي توجت فيه نوال المتوكل أول عداءة مغربية تفوز بميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية، لتصبح بعدها بعد ونصف تقريبًا وزيرة للرياضة في بلدها. لتتوالى النساء العربيات في تتويج مشاركاتهن في المنافسة، مثل حسناء بنحسي التي حصلت على فضية في سباق 800 متر في أولمبياد أثينا عام 2004، ونزهة بيدوان على برونزية في سباق 400 متر حواجز في ألمبياد سيدني عام 2000.

تذكر فيسر أيضًا أن مصر كانت من أوائل الدول العربية التي ابتعثت فتياتها لتمثيلها في الأولمبياد، ففي عام 1984 مثّلت مصر خمس فتيات في رياضات الغطس، والسباحة، والسباحة الإيقاعية، ويعود الفضل حينها للمشاركة النسائية في أولمبياد ذلك العام إلى صفية ثروت أو "صوفي ثروت" الرياضية السابقة النافذة في الاتحاد المصري للسباحة التي كونت أول فريق مصري للسباحة الإيقاعية، ويرجع لها الفضل في دخول السباحة الإيقاعية لمصر في أوائل السيتينات، كما شاركت في 20 جولة عالمية لإبراز فتيات مصر في تلك الرياضة.

هذا مع الوضع في الحسب تعاملها مع مجتمع محافظ تهمين عليه الرؤية الذكورية لحرية الحركة والرياضة النسائية. وعلى الرغم من هذا فقد ظهرت في المناخ نفسه نفيسة الغمراوي التي تعد رائدة من رائدات الرياضة العربية في مصر بعد أن لعبت دورًا كبيرًا في دعم ممارسة النساء للرياضات المختلفة، مثل؛ كرة السلة، والسباحة، وألعاب القوى، والهوكي، وذلك بعد تهميش كبير ( افتتح الأزهر أول كلية تربية رياضية عام 2018 أي منذ أربع سنوات فقط، مع العلم أن القرار الجمهوري الذي صدر بإنشاء كلية البنات الإسلامية كان عام 1961).

| مصر وبطلاتها: عودة النساء إلى الواجهة

هداية-ملاك.jpg
هداية ملاك الحاصلة على الميدالية البرونزية في أولمبياد 2021

تسعدك إلى حد الدهشة سعادة هداية ملاك وقصة كفاحها، وابتسامتها العريضة أمام الكاميرات، في يدها الميدالية البرونزية التي تُعد الثانية في تاريخها بعد  تلك التي حققتها في أولمبياد ريو دي جانييرو، وتستمع إلى قصة مليئة بالإخفاقات والإحباطات والإصابات، ثم تتجه أنظار الجمهور بالقوة إلى الميدالية الذهبية بطبيعة الحال تحملها على صدرها فريال أشرف ابنة المطرية، المنطقة الشعبية في إحدى أكثف الأحياء السكنية في القاهرة، وأكثرها احتضانًا للثقافة المؤمنة بتفوق الرجل لاعب الكرة، صاحب الأضواء المسلطة عليه إعلاميًا داخل وخارج مصر.  تغير فريال أشرف المشهد الباقي على حاله منذ عقدين إلا قليلًا، لتحصد الميدالية الذهبية في إحدى المنافسات الرياضية التي لطالما اتخذت الطابع الذكوري، وهي رياضة الكاراتيه لوزن 61 كيلو، تفوز فريال على منافستها الأذربيجانية، وتحقق لمصر الذهب في أولمبياد طوكيو بعد برونزية هداية ملاك، وفضية جيانا لطفي.

الطفلة التي كانت تذهب إلى مدربها مع 60 طفلًا إلى نادي المطرية الرياضي المتواضع في مقابل 40 جنيهًا للطفل يقول عنها مدربها "إنها لم تكن عادية أبدًا".  تأتي إلى الدروس ببدلة الكاراتيه وتركض مسرعة بعد انتهاء الدرس للحاق بتمرينها، الدعم الأكبر في كل هذا 15 جنيهًا إضافية من الأم للمزيد من التمرينات، وإصرارها مع أمي على استكمال الرحلة. تصل فريال بعد الذهبية إلى مصر، الاستقبال الرسمي متوقع لكن الاستقبال الشعبي هو التفصيلة الأهم في الدرس الكبير لديناميكية تغيير الأفكار عن المجتمعات بدءًا من قواعدها، وحتى قممها.

الأولاد الصغار يسألون الكابتن حسني مدرب فريال عما إذا كان يمكنه مقابلة الكابتن أو لا تحتل فريال "المرأة" الصدارة أخيرًا في مشهد لطالما كان الرجل فيه صاحب الرصيد الأول والأخير بامتياز، حين تريد أن تعرف بطلًا رياضيًا محبوبًا، تمشي في الشوارع الجانبية والأسواق الشعبية، تابع حركة الناس هتافاتهم الصور واللوحات المعلقة بمجهود ومصروف العاديين للاحتفاء بإمرأة عادية مثلهم استطاعت أن تنتزع وجودها انتزاعًا من العالم، في فيديو استقبالها حيث تقطن أسرتها تجد كل ذلك.

| "صورة القدوة": كيف يختار الناس البطل؟

أولمبياد.jpg
من افتتاح حف الأولمبياد في طوكيو

يوجهنا عالم النفس الكندي ألبرت بندورا أن التعلم بالتقليد أو بأنموذج القدوة لا يتعلم من خلاله الفرد فقط معلومات أو سلوكيات محددة معزولة، بل أنماطًا سلوكية معقدة، بمعنى أن وجود القدوة الناجح في مجال ما، يشكل الجوهر الأساسي في التنشئة الاجتماعية من خلال الاسترشاد بسلوك القدوة الذي أدى إلى نجاحه في النهاية، و تشير دراسة بندورا إلى أن الناس انتقائيون في اختيار النماذج الإنسانية التي تصبح فيما بعد قدوات تمثلهم، وتؤثر فيما بعد على المفهوم الذاتي للفرد وخططه في الحياة.

وتشير العديد من الدراسات التي حاولت قياس الطريقة التي يتغير بها الرأي العام وخاصة في اختيار قدوته، أو من يمثله، إلى صعوبة تحديد ديناميكيات هذا التغير ومدى دقته، إلا أن كثيرًا منها اتفق على أن التعرض الجماعي للكثير من الأفكار والمناقشات، والصور، والأحداث، وما يتبع ذلك من تبادل للمشاعر والانطباعات يجعل الوعي الجمعي في حركة مستمرة، وتجعله يتفق في مساحات، ويختلف في أخرى، دون الوصول إلى الإجماع الكامل.

تذكر الدراسة أن الأولاد الذكور اختاروا أبطالهم بحسب قوتهم الجسدية وتفوقهم العقلي، بينما اختارات البنات بطلاتهن أو قدواتهن بحسب مظهرن وسولكهن الاجتماعي الإيجابي، ولعل هنا تكمن الإجابة عن السؤال الجوهري، وهو أن المرأة كبطلة رياضية قد جمعت بين الإجماع الشعبي الداخلي، والتفوق الخاضع لمقاييس اللعبة خارج الحدود الوطنية.

في واحدة من النتائج التي حاولت البحث في فكرة كيفية اختيار "الأطفال" تحديدًا للبطل، ودراسة قامت بها دكتورة كلاوديا بيسكوب الباحثتان في الشئون الرياضية و التغذية في جامعة كوبنهاجن ، وشاركت بها جيترود فيسرعن فكرة القدوة في الألعاب ارياضية بين البنات و الأولاد في السن المبكرة أيضًا، توصل القائمون على الدراسة إلى أن الأولاد والبنات اختاروا نماذجهم المفضلة من "المشاهير"، أو الأبطال من الميديا (الممثلين، المطربين، الرياضيين نساءً أو رجالًا).

 وتذكر الدراسة أن الأولاد الذكور اختاروا أبطالهم بحسب قوتهم الجسدية وتفوقهم العقلي، بينما اختارات البنات بطلاتهن أو قدواتهن بحسب مظهرن وسولكهن الاجتماعي الإيجابي، ولعل هنا تكمن الإجابة عن السؤال الجوهري، وهو أن المرأة كبطلة رياضية قد جمعت بين الإجماع الشعبي الداخلي، والتفوق الخاضع لمقاييس اللعبة خارج الحدود الوطنية، مما يعني أننا بصدد تغيير حتى أشد الأنماط الشعبية التقليدية رسوخًا في مجتمعاتنا العربية مع مراعاة تراكم الجهد، والنجاح في تسليط الضوء على البطلات الرياضيات العربيات.

كرة-قدم-بنات9.jpg
فريق كرة القدم نسائي

على المستوى العربي، وخاصة في فلسطين، فقد مرت الرياضات النسئاية الجماعية بطفرات برغم ظروف الاحتلال، وبمغالب للنظرة الذكورية العربية السائدة في المجتمعات العربية لمثل هذه الرياضات. على سبيل المثال أوردت دراسة عن الرياضة النسوية في قطاع غزة من العام 1953 حتى العام 2008، أن معظم الأنشطة الرياضية في الفترة بين 1994 وحتى 2008 مرت بحالة من المد و الجذر تم تأسيس فريق كرة الطائرة في النادي الأهلي الفلسطيني ،وفريق كرة السلة في في نادي غزة الرياضي وفي بداية الألفية الثالثة تم تشكيل فريق كرة قدم نسوي من قبل اتحاد كرة القدم ،ومثل فلسطين في بطولة العرب الأولى لكرة القدم النسوية، لكنه توقف تحديدا في العام 2006 بسبب ظروف القطاع وقتها.

أما ألعاب القوى فقد كان لها النصيب الأكبر من الاستمرار حيث يوجد في غزة أشهر العداءات الفلسطينيات وهن الأختان سناء ووسام بخيت. شارك المنتدى النسوي ،منذ تأسيسه، في عدة بطولات عربية في الأردن ومصر والإمارات. أما في الأردن انتزعت المرأة تواجدها في مجتمع عشائري محافظ ،من خلال إنجازات كبيرة، جعلت الأردن تستضيف محافل رياضية نسوية كان أهمها كأس العالم للسيدات تحت سن 17 سنة عام 2016 بمشاركة 16 منتخبًا ،كما أن الأردن في هذا القطاع تحديدًا وهو كرة القدم – قد قطع شوطًا كبيراً حيث تستعد عمان لاستضافة بطولة الأندية الآسيوية للسيدات التي ستقام في تشرين/أكتوبر القادم. ومن أبرز الأسماء الأردنية في أولمبياد طوكيو كانت جوليانا الصادق في لعبة التايكوندو التي تتمتع برصيد يحوي 22 ميدالية، وقد تعادلت أمام منافستها البرازيلية في طوكيو.

يجدر القول أن الرياضة النسوية العربية بشكل عام، تكافح من أجل الحصول على مكانتها في ظل غياب لنفس الدعم المادي والاهتمام الإعلامي الذي تحظى به نفس الرياضات الرجالية. لكن ما يغير المعادلة دومًا وصول الميداليات إلى أعناقهن بعد تحقيق الفوز المنتظر، وإعلاء العلم و النشيد الوطني في مشهد التأهل الأخير. ولعل هذا المشهد هو الترس الأخير،في الديناميكية الطويلة لانتزاع المكانة التي تبدأ بالكفاح الحقيقي في ظل دعم شبه غائب،وتنتهي بانتزاع المكانة وتحقيق فوز مستحق.