بنفسج

الأبوة المفرطة: هليكوبتر تدور فوق رؤوس الأبناء

الأحد 20 مارس

نشعر بالخوف، وتتملكنا الهواجس عن كيفية خوض تجارب الحياة بكل قسوتها وصعوبتها؛ كيف سيتعامل طفلي مع عالمه الخاص، حتى في ملعب كرة بعيدًا عني بخطوات؛ أول يوم في المدرسة أو للحضانة؛ أول يوم للنوم وحده، أول رحلة. ويستمر القلق حتى الكبر، باختلاف شكله ومشاعره المسيطرة؛ قلق وخوف من خوضهم للحياة وحدهم في عالم أكبر منهم، أو خوف عليهم من التجارب عمومًا، مهما زاد عمرهم وكبروا.

من الطبيعي أن نفكر في تفاصيل حياة الأبناء، ومن الطبيعي أن ينتابنا بعض من القلق والخوف، ولكن سرعان ما يتحكم العقل، وتساعدنا التجربة، ونتعلّم كيف نتعامل مع تلك المشاعر، فنساعدهم في الحياة، كي يتعلموا كيف يخوضون تجاربهم وحدهم، لكن في كثير من الأحيان تسيطر تلك الهواجس على كثير من الآباء والأمهات، فتتحول التربية لعملية صعبة مليئة بالقلق والخوف المبالغ فيه في كل تفصيلة من تفاصيل اليوم الحاضر والمستقبل، في أزمة تُسمى بالأبوة المفرطة، أو الوالدية المفرطة، والتي لا تقل خطرًا عن الإهمال الأبوي للأبناء.

| ما هي الأبوة المفرطة؟ 

آباء 1.jpg
مصطلح الآباء الهليكوبتر  يشبه الآباء بالطائرات المروحية التي تدور حول الرؤوس وتراقبها طوال الوقت

هو مصطلح تعارف عليه في البداية للتعريف عن الآباء والأمهات الذين يقومون بالرعاية والاهتمام الزائدين عن الحاجة لأطفالهم، ويتدخلون في أدق التفاصيل حتى مع كبر عمر أطفالهم ودخولهم في مرحلة المراهقة، مما يؤثر عكسيًا في تكوين الأطفال النفسي والاجتماعي، ويُطلق أيضًا عليهم (الآباء الهليكوبتر). ومصطلح الآباء الهليكوبتر صاغه العالمان فوستر كلاين وجيم فاي، وهو مصطلح يشبه الآباء بالطائرات المروحية التي تدور حول الرؤوس وتراقبها طوال الوقت، واشتهر مصطلح الهليكوبتر بعدما تحدث عنه الكاتب هايم جينو فى كتابه بين الوالدين والمراهق، على لسان أحد المراهقين قائلًا: (أمي تدور فوق رأسي كالمروحية).

كثير من الآباء والأمهات يعتقدون أن وجودهم في كل تفاصيل أطفالهم هو الأفضل لهم، وأنهم مسؤولون عن كل خطوة يخطوها هذا الطفل والذي، بعد أعوام، لن يعود طفلًا، لكنه يظل طفلًا في عيونهم، مما يحد من قدرات أبنائهم، ويجعلهم قليلي الثقة بقدراتهم على الفعل، وعلى خوض التجارب والأزمات، ويعزز فيهم الاعتمادية وخوفهم من الفشل.


اقرأ أيضًا: التسلط الأبوي: عن خضوع الأبناء لمعتقدات الآباء


هم يصنعون دائمًا دوائر الأمان لأطفالهم، لا الأمان النفسي المطلوب، والواجب على كل الآباء، وإنما الأمان الدائم من أبسط المخاطر، حتى وإن وقع طفلهم وهو يجري في الحديقة، أو تُجرح يديه جرحًا خفيفًا. يحاولون أن يكون أطفالهم سعداء دائمًا، مما يفقدهم مهارات كثيرة من مهارات التعلم الحياتية، فالطفل السعيد دائمًا لا يتعلم كيف يواجه إحباطاته؛ كيف سيلاقي الحياة بعد ذلك، كيف يتلقى الرفض وكيف يواجه فشله.

فكثيرًا ما تجد شابًا في الجامعة لا يستطيع أن يتخذ قرارًا في أمور دراسته، أو علاقاته، من دون أن يرجع إلى أمه أو أبيه، لا للاستشارة، ولكن للقرار الحقيقي الذي لم يتعلم كيف يتخذه، وأحيانًا، ترى فتاة تزوجت، ولكنها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة من دون أن يرتب لها أحدهم تلك الخطوات، وغالبًا ما تكون الأم دائمًا هي عقلها الذي تفكر به، في علاقة فطام لم يكتمل من عمر الثانية إلى ما بعد العشرين؛ فهي تشعر بنفس مشاعر الطفل الصغير الذي لا يستطيع الانفكاك عن أمه أبدًا. أو أن تذهب إلى مدرسة ابنها المراهق لتسأل: لماذا أعطته المعلمة تلك الدرجات! بدلًا من أن تعلم الشاب الذي يخطو أولى خطواتها في حياة الكبار؛ كيف يتعامل مع مشاكله، فهي تحل كل المشكلات بدلًا عنه.

| هناك علامات واضحة لآباء الهليكوبتر

| حماية مثالية

تصنع لطفلك عالمًا بلا أخطار، تحميه من أبسط الأشياء، تخشى أن تذهب به للعب حتى لا يُخدش أو يقترب من باب المطبخ، لأنه ربما أن يقترب من سكين، فيُجرح، أو أن يجري، فربما يقع.

| الحزم المبالغ فيه

تتدخل في كل تفاصيل يوم أطفالك، تجبرهم على ارتداء ما تراه أنت مناسبًا، تجبرهم على ممارسة هواية كنت تريد ممارستها في صغرك لا ما يريدونه هم. تغرق في التفاصيل التي تراها أنت مناسبة، ليكونوا نسخة أفضل عنك، ولا تحاول سؤالهم الأبسط من هذا: ماذا تريدون؟

| تخوض معاركهم بدلًا عنهم

هذه العلامة هي الأكثر بروزًا؛ فكثير من الآباء يفعلون هذا الفعل بشكل متكرر حتى وإن لم تظهر عليهم أي علامة أخرى.  يتشاجرون في الملعب مع طفل لأنه تشاجر مع طفلهم. يحاولون أن يحلوا كل مشكلة بدلًا من أطفالهم، وبدلًا من تعليمهم كيفية مواجهة مشاكلهم بشكل تدريجي وبسيط، وعلى قدر أعمارهم. وإذا حاولنا حل كل مشكله بدلًا عن أبنائنا لن يتعلموا أبدًا الاعتماد على أنفسهم.

| الانتقاد المبالغ فيه

هناك دائمًا شيء ناقص في ما يفعله أطفالك؛ تنتقده في أبسط الأشياء؛ الرسمة التي لم يكتمل فيها لون معين، أي اختيار يختاره الطفل يكون تحت الميكرسكوب أولًا؛ طريقة أكله أو شربه أو اختياراته اليومية. تلك الانتقادات التي تبدو بسيطة هي أول أسباب ينطقها الكبار حين يتحدثون عن فقد الثقة بأنفسهم أو عدم شعورهم بأهمية ذواتهم، إنهم في طفولتهم كانوا يُنتقدون بشكل دائم من قبل أهلهم. وتلك الطريق لا تصنع أبدًا طفلًا أفضل.

أبوة مفرطة.jpg
دع طفلك يخوض تجاربه، لا تكن كظله ولا تتبعه بطائرة الهيليكوبتر

| توقعات مبالغ فيها

لا تقبل الأقل منهم، لا تقبل سوى المثالية والكمال؛ الأول على صفه، فإذا كان الثاني تشعر بالهزيمة؛ الأول في المسابقات والبطولات، وإذا فشل في تجربته تلك، تشعره بفشله فقط لكونه الثاني أو الثالث. هذا الإفراط في التوقع من طفلك يجعلهم يشعرون بالقلق، ويخافون من الفشل من التجارب، ويعتقدون أنهم لا بد ألا يفشلوا أبدًا.

| الغرق في تفاصيلهم الدراسية

تنغمس يوميًا في كل تفصيله مرتبطة بدراستهم؛ تسأل عن كل شيء، وعن كل حركة لهم حتى بعد أن وصلوا إلى مراهقة. لا تعطهم الفرصة أبدًا ليعبروا عن مشاكلهم، ويخوضوا رحلة الحل مع مدرسيهم وزملائهم، مما يجعلهم اعتماديين. تراقب طفلك باستمرار، خصوصًا في عصر التكنولوجيا؛ فالآباء يراقبون أبناءهم باستمرار؛ كاميرات في غرف نومهم، تطبيقات وساعات على هواتفهم المحمولة.

رغم فائدة تلك الأجهزة، إلا أن المراقبة الدائمة تفقدك مهارة أن تعلم طفلك كيف يراقب ذاته، وكيف يختار اختيارات تخصه؛ كيف يرتب وينظم أوقاته، كيف يتعامل مع أخطائه وفشله، كيف يعبر عن نفسه بحرية؛  فالمراقبة الدائمة في كل تفصيلة في حياتهم لا تُأمنهم دائمًا.

| لا حدود لديكم

لا تؤمن بالمساحات الشخصية؛ فحياة طفلك تعتبرها جزءًا من مليكتك الخاصة، تريد أن يفعل كل ما تريده أنت لا ما يريده هو، في تحكم مستمر في كل الأمور. الطفل الذي لا يعرف مساحته الخاصة يكون عرضة للأذى في العالم الخارجي، نموه الاجتماعي مضطرب، يشعر بالقلق من كثرة ما فرض عليه من أداء أشياء لا يريدها بالإجبار لمجرد أن رؤية الوالدين حينها كانت أنه لا بد من فعل ذلك.

| لكن السؤال الآن ماذا نفعل لو شعرنا أننا نتصف بأحد تلك الصفات؟

دعهم يحلون مشاكلهم وحدهم: حين تعلمهم المسؤولية وتتواصل معهم بكفاءة تقدم لهم وسائل تساعدهم على حل مشاكلهم بشكل حقيقي، فأنت علمته كيف يتواصل مع الناس كيف يتحمل نتائج أخطائه .
 
كن داعمًا: داعم لهم فى قرارتهم بوجودك وبجودة هذا الوجود بدعمهم معنويا، هذا أهم التركيز فى مهامهم اليومية ونشاطهم بدلًا عنهم.

| المسؤولية

على حسب عمر الطفل نعطيهم مسئوليات تناسبهم، ابتداءً من وضع ألعابه في صندوق الألعاب المخصصة، والمساعدات المنزلية البسيطة، ثم المضي في حمل مسؤولياتها، والتي تكبر بكبر أعمارهم. هذا يجعلهم يتعلمون الاعتماد على أنفسهم، وكيفية حل مشكلاتهم والتعبير عن احتياجاتهم بسهولة.

| التواصل الفعال

الوالدان هما المساحة الآمنة لأطفالهم، واحة الراحة التي لا بدّ أن يجدوا فيها راحتهم وآمنهم. هذا يجعل تواصلكم تواصلًا حقيقيًا وفعالًا، يعطيهم مساحة من مشاركة حياتهم معكم والتعبير عن ذواتهم بحرية ودون خوف، فيكون ظهوركم في مشاكلهم وحياتهم ظهورًا مهمًا في لحظات يحتاجون للمساعدة والدعم بشكل حقيقي وليس اعتمادي.

| استمع إليهم

أهم ما يمكن أن نقدمه لأطفالنا هو أن نستمع إليهم، نجعلهم يتحدثون ويعبرون عن ما يريدون. ما ينساه الآباء عمومًا، والهليكوبتر خصوصًا، أن عليهم أن ينصتوا لأبنائهم، ويتعرفون على احتياجاتهم منهم لا أن يتحدثون فقط .

| دعهم يحلون مشاكلهم وحدهم

حين تعلمهم المسؤولية وتتواصل معهم بكفاءة، تقدم لهم وسائل تساعدهم على حل مشاكلهم بشكل حقيقي، فأنت علمته كيف يتواصل مع الناس، كيف يتحمل نتائج أخطائه، حينها يكون قادر على إدارة مشاكله على قدر عمره ومشكلته.

| كن داعمًا

كن داعمًا لهم في قرارتهم بوجودك وبجودة هذا الوجود بدعمهم معنويًا. هذا أهم من الغرق والتركيز في مهماتهم اليومية ونشاطهم بدلًا عنهم. دعمك المعنوي هو ما يجعلهم يشعرون بالاستقلال والانطلاق في حياتهم بصورة أفضل.  نحن لا نصنع تماثيل في فاترينات العرض، نحن نصنع إنسانًا يكبر ليكون عضوًا فاعلًا في مجتمعه. ينبغي أن يتعلم كيف يدير حياته من أبسط الأشياء لأكثرها تعقيدًا. نسهل لأبنائنا الحياة ونيسرها لهم بالمهارات والتعلم، لا برسم خطط لهم وتفاصيل، كثيرًا ما تكون غير مناسبة لهم ولا لقدراتهم. نعلمهم كيف يتعاملون مع تلك الحياة، وهذا هو جوهر التربية!