قبل أن أبدأ بالحديث عن تحليلات للإجابات الممكنة التي يسوقها الأهل عن سبب ابتعادهم وأطفالهم عن كتب الأطفال وأنشطة القراءة الخاصة بالطفل، سأتحدث عن ما قد يفوتهم وأبناءهم في هذه العزلة الاختيارية. من البديهي أن نتوقع فوائد مثل التسلية وتعزيز اللغة السليمة والمساعدة في التربية حتى ولو كانت الكتب غير تربوية في ظاهرها. ثم إن أدب الطفل في العالم العربي بات يستهلك جهودًا أكبر بكثير من السابق، ويشهد تطورات ملموسة سواء من حيث الكتابة، أو الرسم، أو الإخراج، أو الطباعة، أو توفر الجهات الداعمة والدارسة.
لا يشبه أدب الطفل اليوم ما تربى عليه جيلنا، حتى أن القصص التي تعودنا عليها لا يمكن أن تُقرأ اليوم من دون أن نرتبك ثم نخفق، ونحن نحاول أن نبرر لأطفالنا العنف والدموية والخنوع الذي تحتويه بين طياتها. بالنسبة لي، لا أظن أنه يصلح تقديمها من دون إحداث تعديلات جوهرية على محتواها. جربوا أن تقرأوا وجهات النظر والتحليلات التي تستطيعون الوصول إليها لقصة واحدة، لكاتب مميز مثل "شون تان"، ستجدونها مختلفة عن بعضها البعض، هل تعرفون على ماذا يدل ذلك؟ يدل على أننا نستقبل ما نقرأ حسب خبراتنا وتجاربنا، وأن قراءة نص ما هي ملجأ في ظرف ما، وهذا الملجأ قد يتسع لنلجأ إليه في ظروف كثيرة.
| كيف تجذب طفلك نحو القراءة؟
هل فكرتم بمن سيحتوي أطفالكم عندما لا يكون بإمكانكم ذلك؟ للقراءة فعل احتواء يشبه ذلك الذي يقدمه شخص حريص عزيز ذي خبرة، إذا كانت مختارة بعناية، فلماذا نُأخر لحظة اكتشافهم لهذا الملجأ؟ أنا مثلكم، أم تعاني من تعرض أطفالها لمحتوى سيء على يوتيوب وتيك توك وغيرها من المنصات والتطبيقات، إضافة للألعاب الالكترونية، خاصة وأن معظم صناع المحتوى هم من أصحاب الثقافة المتدنية والرسائل التافهة، ومع ظروف الدراسة عن بعد ومتطلبات متابعة الدروس، بات من الصعب فصل الأطفال عن الأجهزة الذكية. لكن هل نسلّم بذلك ونتركهم؟
لن أطلب منكم ما لا أستطيع فعله بنفسي، لا تستبدلوا وقت الأجهزة الذكية كله بالقراءة التقليدية، ولكن دسوا في وقتهم شيئًا للتعلق بهذا العالم، شدّوهم باللين إلى سرير يجلسون عليه حولكم واقرأوا لهم. لا تطيلوا القراءة إذا كانوا سريعي الملل، زيدوا الجرعة القرائية تدريجيًا، إذا كانت الرسومات في الكتاب هي ما يجذبهم دعوهم يتمعنونها قدر حاجتهم. اختاروا مواضيع تهمهم، خذوهم في خروجة معنونة الهدف "نخرج اليوم لنشتري كتاب" وحددوا الأوقات الأمثل للاستمتاع بالكتاب. اقرأوه معهم في البدايات حتى لو كانوا يستطيعون القراءة بأنفسهم، تذكروا أنتم تدسون خبرة ليحبوا العودة لها فيما بعد.
بعض الآراء تقول إن اهتمامات الأطفال أنفسهم تتسارع نحو أشياء بعيدة عن القراءة ولا يمكن أن نقنعهم بأهميتها، أعتبر هذا مهرب مريح من المسؤولية للبعض، كيف وصلتم إلى هذا الجواب؟ هل لجأتم لاستشارة الخبراء؟ هل تضعون كتبًا جذابة على الأرفف أمامهم، هل تتعمدون القراءة بصوت جهري بحضورهم؟ هل تمتنعون عن الإجابة عن بعض الأسئلة لحثهم على البحث والقراءة عنها على الإنترنت؟ هل تهدونهم في مناسبات معينة كتبًا تشبه تلك المناسبات؟ هل جربتم إرفاق نشاط حماسي بالقراءة؟
سأخبركم عن خبرتي مع طفلي الأكبر؛ كنت أقرأ له كل ليلة، حتى أن كثيرًا من القصص كانت أكبر من عمره، وهنا أعتقد أنني أخفقت في الاختيارات وتسرعت بتعريضه للروايات الكلاسيكية العالمية قبل أن نمر على كتب الطفولة المبكرة. لكن طفلي لم يكن يعطيني إشارات تظهر عدم اندماجه كنت أجده متيقظًا دائمًا وكان يتذكر ماذا حصل مع الشخصيات وأين توقفنا في المرة الماضية، كان يستمع لأنه يستمع لذلك الصوت الذي يحب أن يحدثه أكبر وقت ممكن، وهذه نقطة قوة تسجل للأمهات والآباء الجادين في تعويد أبنائهم على القراءة.
| شبح التكنولوجيا
إذا اختيرت الكتب بعناية وبطريقة الموازنة بين ما يناسب الفئة العمرية لطفلكم وبين ما يتمتع به من قدرات ومهارات، فإن الكتاب لا يحتاج إلّا أن تتاح الفرصة لقراءته. أستكملُ لكم الحديث عن ابني الذي سرقه عالم التكنولوجيا، وأصبح يهتم كثيرًا مثل أغلب الأطفال بالألعاب الإلكترونية العنيفة والمراجعات عليها، وكيف تحل المشاكل التي تواجه اللاعب، وكيف يجعل الأجهزة التي يستخدمها أسرع، وكيف تصبح جودة الصورة فيها أفضل، ومشاكل قد تتطلب منه عمل صيانة أو تعديلات برمجية بالرجوع إلى توجيهات من خبراء على المنصات المختلفة. تجذبه الصورة والسرعة والصوت وما يتفق عليه أبناء هذا الجيل من اليافعين باعتباره مميزًا. فكيف أصبحت أواجه هذه التجربة التي لم أكن أعددت لها نفسي بشكل جيد، ولا أظن حتى الآن أنني أجد وصفة يكفي اتباعها للخروج بأفضل المخرجات.
أتعمد أن أعقد اجتماعًا على كتاب لأقرأه لأخواته الأصغر سنًا بحضوره، فيبدي إعجابه بفن الرسم والإخراج ونوعية الورق والطباعة في الكتاب، وينتقد السذاجة كما يدعي وعدم تقديم الكتاب لحل كامل، لكنني أعرف أنها إشارة اهتمام ولا أضغط عليه ليعترف، يكفيني أن تظل هذه المواقف في ذاكرته وذاكرة أخواته.
في هذه المرحلة تجدونني أعاقبه بالحرمان من الأجهزة أحيانًا، ثم أدعي أنني غافلة أحيانًا أخرى. أشرح سبب عدم إعجابي ببعض المحتوى، أتأكد أنه أصبح يرفض السماجة والابتذال، أشاهد معه بعض صانعي المحتوى الذين أجد أني أستطيع هضم ما يقدموه. أنتقد بشكل لاذع من لا يعجبني منهم، أنا أستخدم معه شخصيتي الطبيعية، وأمرر له بعض الرسائل، وأتأكد أن ثوابتنا العربية والدينية تشكل له مرجعًا وأتعلم منه الكثير.
وبين هذا وذاك أتعمد أن أعقد اجتماعًا على كتاب لأقرأه لأخواته الأصغر سنًا بحضوره، فيبدي إعجابه بفن الرسم والإخراج ونوعية الورق والطباعة في الكتاب، وينتقد السذاجة، كما يدعي، وعدم تقديم الكتاب لحل كامل، لكنني أعرف أنها إشارة اهتمام ولا أضغط عليه ليعترف، يكفيني أن تظل هذه المواقف في ذاكرته وذاكرة أخواته، وأجد أنها واحدة من بارقات الأمل، أنه وبعد أن تهدأ التغييرات الهرمونية ومراحل التمرد المحمود سيحب أن يقرأ. يحب هو أن يشاركني فيرشيني أحيانًا بأن يخبرني بأنه أشتاق لأن نقرأ معًا قبل النوم.
كثير من الأصوات تقول إن الوضع المادي هو واحد من أكبر المعيقات، وأن الوقت والجهد المبذول في سبيل الحصول على قصة أو المشاركة في نشاط قصة هما أيضًا من أهم العواقب. هنا أود التنويه أن اقتناء الكتب لا يعني أن تشتري كل يوم كتاب، يمكنك أن تشتري كتابًا واحدًا كل شهر وتقومون بقراءة الكتاب مرارًا، وتعلم أطفالك أن يحافظوا عليه ليستفيد إخوانهم الأصغر منه ويمكن تبادل الكتب مع عائلات أخرى، كتاب واحد جيد كل شهر يعني استمرارية في القراءة والاطلاع وفرصة جديدة للتعرض لآراء وخبرات جديدة، وذائقة فنية أكثر غنى بالتعرض للرسومات في كتاب الطفل، وقدرة نقدية أرفع، وصلات أوثق مع أطفالنا.
لا يُقدر بثمن ما يقدمه كتاب جيد، ستدفعون ثمنًا أعلى في البقالة عندما يرغبون بشراء الشيبس والحلوى، لكن الكتاب في المقابل سينقذهم عندما لا يكون حولهم من يمد لهم يده عند الحاجة. وكذلك هو الجهد والوقت المبذول؛ تخيلوا الوقت الذي يضيع في الجدال والصراع لأنكم لا تتشاركون معهم بعض المبادئ والآراء. تخيلوا المشاكل التي سيفتعلونها ليلفتوا انتباهكم إلى وجودهم. تخيلوا مدى الجهد والطرح الإنساني الذي يضعه صناع أدب الطفل في كتاب ويفوتكم استغلاله في سبيل توفير طريق طويل من الشد والنزاع. فهل ما زال هذا العالم لا يغري بالاقتراب؟