بنفسج

كيف نصنع من أطفالنا أبطالًا مزيفين؟

الثلاثاء 15 فبراير

مارست طفلتي رياضة الجمباز منذ 3 سنوات، ويمكن الاعتراف الآن أن هذه الرياضة كادت أن تدمر علاقتي بابنتي للأبد. بدأت في عمر الثالثة ونصف العام تقريبًا، تميزت جدًا رغم صغر سنها، كانت تستمتع رغم الألم، حتى قرر المدرب أن يُلحقها بعد عدة شهور، في فريق يتجهز لإحراز أولى البطولات. وهنا بدأت اللعنة، حينما تحول الأمر لأكثر من مجرد رياضة عضلية ونمو جسدي وذهني، ولكن الضغط عصبي ومادي ونفسي لها وليّ. رؤية أطفالنا ناجحين يعتلون المراكز الأولى، ويحققون ما لم نستطع تحقيقه، هو حلم كل الآباء والأمهات؛ أن يروا أطفالهم الأفضل دائمًا، وهو حلم مشروع، ولست هنا بصدد الحكم على أحد، فجميعنا ننطلق لتحقيق هذا الحلم مدفوعين بحب أطفالنا، ولكنني أشارككم بتجربة أم كادت تسقط في فخ الهوس بالتمارين الرياضية، وفخ حصد الميداليات وخسارة أطفالكم.

| كيف نصنع من أطفالنا أبطالاً مزيفين؟

تفرد المقالات والأبحاث حول أهمية الرياضة للأطفال، وكيف تؤثر على صحتهم وأجسامهم، ولكن هل يمكن أن يتحول الأمر إلى هوس بإلحاق الطفل بعدة رياضات مختلفة من دون النظر لرغباته وقدراته وتفضيلاته كذلك؟
 
لنتفق أن الرياضة مهمة للغاية، وأن دفع الأطفال لممارستها واجب كل أب وأم، ولكن هل توقفنا لحظة لنسأل أنفسنا لماذا يمارس أطفالنا الرياضة؟ ولماذا نختار نحن لهم ما يمارسونه بالإجبار؟ 


تفرد المقالات والأبحاث حول أهمية الرياضة للأطفال، وكيف تؤثر على صحتهم وأجسامهم. ولكن هل يمكن أن يتحول الأمر إلى هوس بإلحاق الطفل بعدة رياضات مختلفة من دون النظر لرغباته وقدراته وتفضيلاته كذلك؟ ضع طفلك في ضغط عصبي وذهني وجسدي مستمر بدافع حصد الميداليات والبطولات، وسيفعل، لكنك ستحصل على بطل من ورق، لا يملك القدر الكافي من الثقة بالنفس، وربما يعاني من مشاكل نفسية لاحقًا لا حصر لها.

لنتفق أن الرياضة مهمة للغاية، وأن دفع الأطفال لممارستها واجب كل أب وأم، ولكن هل توقفنا لحظة لنسأل أنفسنا لماذا يمارس أطفالنا الرياضة؟ ولماذا نختار نحن لهم ما يمارسونه بالإجبار؟ لنتحلى بالصراحة وشجاعة الاعتراف، بعض المربين يدفعون أطفالهم دفعًا لتحقيق أحلامهم هم، يختارون لهم الرياضة التي طالما رغبوا بممارستها، يدفعوهم لحصد الجوائز والمراكز التي طالما تمنوا أن يحصلوا عليها، يكافئون الأطفال على الفوز فقط، ويعنفوهم بشدة إذا عبرّوا عن رغبتهم في التوقف أو انخفض أداءهم عن المعتاد.

كما ذكرت سابقًا يفعل الآباء والأمهات ذلك بدافع الحب والحرص على مستقبل أطفالهم، ولكن علينا أن نحترس إلى أي مدى يأخذنا هذا الحب والحرص، ومتى يجب أن نتوقف ونلتفت لنداءات الصغار ورغباتهم. شخصيًا نُصحت من الجميع بأن أبدأ لطفلتي برياضة الجمباز ورغم صحة النصيحة إلا أنه لم ينصحني أحد بالعلامات التي عليّ ملاحظتها حينما تضر هذه الرياضة طفلتي ومتى يجب أن أتوقف.

| رغبتي ورغبة طفلي

أبطال3.jpg
يقع بعض الأهالي فريسة لهوس الألعاب الرياضية ويجبرون أطفالهم على الالتحاق برياضات لا يحبونها لمجرد رغبات الأهل

يقع بعض الآباء والأمهات في فخ تحقيق أحلامهم الشخصية في أطفالهم بدافع أن يكونوا أفضل منهم، ولكن الحقيقة الصادمة أننا لا ينبغي لنا أن نقارن أنفسنا بأطفالنا ليصبحوا أفضل منّا، أطفالنا أشخاص مستقلون تمامًا عنّا، وعلينا تقبل ذلك؛ إما الآن بإرادتنا، أو حينما يمتلكون هم زمام أمورهم، ويصبح ذلك رغمًا عنّا. البعض الآخر يقع فريسة لـ هوس الألعاب الرياضية وحصد الميداليات، ينقلون نفس المشاعر لأطفالهم، لتتحول لديهم الرياضة وسيلة للتباهي الاجتماعي أو الشعور بالتحقق والأهمية وليست للصحة الجسدية للطفل.

تقول لاعبة الجمباز الأولمبية الأمريكية سيمون بيلز، والتي اعتزلت في أولمبياد طوكيو 2020 بعد تحقيقها نتائج مذهلة، وحتى قبل الانتهاء من دورة الألعاب الأولمبية: "شعرت أن عليّ أن أفعل ما هو مناسب لي ورغبت في التركيز صحتي الذهنية والنفسية، في كل بطولة كنت أشعر أن حمل العالم بأكمله ملقى على كتفي. وهذا يكفي". هكذا يشعر أطفالنا عندما نجبرهم من دون الالتفات لمتطلباتهم النفسية، ومن دون الاهتمام بما يتعرضون إليه من تعنيف لفظي ونفسي وجسدي أحيانًا في ممارسة ألعاب القوى، فيتحولون لمسوخ آلية ينفذون تعليمات المدربين من دون إظهار لمشاعرهم سواء كانت غضبًا أو خوفًا أو إرهاقًا أو رفضًا.

 يفقد الطفل تدريجيًا ثقته بنفسه ومشاعره، يشعر بأن العالم بأكمله يدفعه دفعًا ويلقي على عاتقه مسؤولية كبيرة، حتى يحصد الميدالية تلو الأخرى والأخرى. لذا فأولى العلامات التي عليك أن تنتبه لها إذا وجدت طفلك منطفئًا، ولم يعد يحب الرياضة أو موعد التمرين، يعاني من مشكلات نفسية كالعزلة والكآبة وربما الامتناع عن الطعام، يتحدث قليلاً وينفجر غاضبًا لأصغر الأسباب، يبكي ويشعر بنوبات هلع وربما يصل الأمر للتبول اللاإرادي. انتبه للعلامات التي تخبرك أن الرياضة تحولت إلى كابوس يطبق على أنفاس طفلك.

| متى تتحول الرياضة لشبح يطارد أطفالنا؟

جميع الرياضات تحتاج مجهودًا عضليًا وجسديًا، ولكن لا ينبغي أبدًا أن يتعرض طفلك للإهانة والعنف خلال ممارسة الرياضة. أنواع التشجيع التي تضمن احترام الطفل كثيرة، وهي المطلوبة، ليحب ويرغب في مداومة التمارين الرياضية.
 
ما ناسبنا ربما لا يناسب أو يُقنع أخرين، لكن ما يمكنني قوله في النهاية، لا تدع الرياضة، أي رياضة تدمر حياة طفلك وصحته النفسية وتتمحور حول الفوز أو لا.

في بعض ألعاب القوى يتعرض الأطفال للتعنيف المستمر أمام مسمع ومرأى الأهالي، بدافع أن الطفل يجب أن يتحمل الألم، وأن الالتفات لبكائه وشكواه يُعد تدليلاً، وهكذا لن يستمر في ممارسة أي لعبة أخرى لأن جميع الرياضات تحتاج مجهود بشكل أو بآخر، هكذا يعلل المربيين والمدربين ضغطهم على الطفل للاستمرار في ممارسة الرياضة، ولكن، لا ينبغي أن يتألم الطفل ويتأثر نفسيًا نتيجة ممارسة الرياضة.

بالطبع، جميع الرياضات تحتاج مجهود عضلي وجسدي، ولكن لا ينبغي أبدًا أن يتعرض طفلك للإهانة والعنف خلال ممارسة الرياضة. أنواع التشجيع التي تضمن احترام الطفل كثيرة، وهي المطلوبة، ليحب ويرغب في مداومة التمارين الرياضية.
بالعودة إلى تجربتي مع طفلتي، فقد تحولت حياتي في عدة أشهر معها لجحيم حينما تحول حبها للتمرين إلى ضغط من أجل الفوز في بطولة، بكاء مستمر، أعراض نوبات هلع تصيبها بمجرد اقتراب موعد التمارين، كوابيس مسائية وحالة نفسية سيئة جدًا، نتجنب بعضنا البعض في المنزل ويتعالى صوت صراخنا بلا سبب.


اقرأ أيضًا: الاعتراف بالمشاعر.. نحو طفل ذكي "عاطفياً"


حتى انتبهت أن الرياضة سلبتنا سلامنا النفسي تمامًا، والاستمرار فيها بهذا الشكل لن يثمر سوى عن طفلة غاضبة مقهورة وأم متسلطة تجري في ماراثون البطولات من دون توقف. ولم؟! لأجل ماذا يخسر المرء طفله؟ لأجل ميدالية معدنية؟ حين توقفنا عن تمرين الجمباز تحسنت نفسية طفلتي كثيرًا، التحقت بعدها برياضة السباحة والتي رغم صعوبتها، تفوقت وبرعت بها، لعبت رياضة التنس وذهبت دروس الباليه، تركتها تختار بمفردها، تجرب هذا وذاك وتستقر على ما يناسبها وتستمتع به. تذكرت أنه لا ينبغي للرياضة أن تؤلمنا أو تقهرنا وإلا كيف تفيدنا وتنمي عقولنا. بالطبع ما ناسبنا ربما لا يناسب أو يُقنع أخرين، لكن ما يمكنني قوله في النهاية، لا تدع الرياضة، أي رياضة تدمر حياة طفلك وصحته النفسية وتتمحور حول الفوز أو لا.

| مفهوم البطولة

أطفال99.jpg
يفرح الطفل حين يلعب رياضة يحبها بكامل إرداته من دون ضغط من العائلة ومن المهم أن نعلمه أن البطولة الحقيقية ليست في نيل الميداليات

ذات يوم سألتني طفلتي ماذا يعني أن يكون المرء "بطلاً" في لعبة ما، وهل لأنها لم تحصد ميدالية في اللعبة التي تمارسها فهي ليست بطلة؟ أجبتها بأن البطولة الحقيقية ليست في حصد الميداليات أو الألقاب، البطولة الحقيقية هي تلك المحاولات اليومية التي نفعلها في شيء نحبه لنتقنه أكثر، فنصير أفضل من أنفسنا في كل مرة. البطولة الحقيقية هي كيف نستخدم ما تعلمناه جيدًا، كيف نساعد به غيرنا وكيف نصبح أبطالاً على طريقتنا الخاصة. أما الميدلية واللقب فهما مكافأة رمزية لكل ذلك، لا يعني عدم الحصول عليها أو السعي إليها أننا لسنا أبطال. جميعنا أبطال كلٌ بطريقته الخاصة.

يومًا ما ستحدد طفلتي بُوصلتها تجاه ما تحب وترغب في أن تبرع به سواء كان رياضة أو فنًا، ستجدنا دائمًا بجوارها ندعمها بكل ما نملك من وقت وجهد ومال، إذا أرادت أن تحصد الميدليات يومًا لتعلم أنها ليست غاية، وإذا لم تحصل على واحدة لتطمئن أنها فعلت ما بوسعها، وأن الهزيمة والفوز أمر نسبي تمامًا. يومًا ما ستكبر طفلتي سوية نفسيًا بما يكفي لتبدع وتنجح فيما تحب من دون هوس ومن دون أن تحمل عبء العالم فوق كتفيها لتصير بطلة حياتها واختياراتها بقلب من ذهب.

إذا أردت لهم أن ينضجوا أقوياء أسوياء نفسيًا، كل ما عليّ أن أوفر لهم الأمان والدعم قدر استطاعتي، ثم أتركهم للتجربة والتعلم والحلم ليصيروا أبطالًا حقيقيين فيما يحبون.

أذكر نفسي دائمًا في رحلتي مع أطفالي حين تغلبني أحلامي، أنني إذا ضغطت عليهم يفقدون توازنهم، وإذا دفعتهم للركض هنا وهناك طوال الوقت، سينتهي بهم الحال من دون الوصول لأي مكان. وإذا وضعتهم في دائرة ضوئي، لن يستطيعوا رؤية نوّرهم الخاص، أما إذا فرضت عليهم أفكاري وأحلامي الخاصة فيما يجب أن يكونوا عليه، سيصبحون لا شيء! بينما، إذا أردت لهم أن ينضجوا أقوياء أسوياء نفسيًا، كل ما عليّ أن أوفر لهم الأمان والدعم قدر استطاعتي، ثم أتركهم للتجربة والتعلم والحلم ليصيروا أبطالًا حقيقيين في ما يحبون.