بنفسج

استنزاف المرأة: جري مستمر خلف السراب

الخميس 18 اغسطس

يتلقى الإنسان عبر منافذ حواسه، من المدخلات الكثيرة، ما يعي منه وما لا يفعل: إعلانات استهلاكية سمعية بصرية، أحاديث جانبية في الشارع والحافلة، نقاش بين الأهل، آراء زملاء الدراسة والعمل، التقارير الإعلامية وأخبار الحركات العالمية... والمرأة ليست بمستثناة من كل ذلك، بل إن الكل يتحدث عن المرأة، إلا المرأة!

لطالما كان الحديث عن المرأة جدليًا، تتناوله الأيديولوجيات بما يوافقها، والاقتصاديات بما يخدم العقلية الاستهلاكية الرأسمالية، والأعراف بما يرضي جذورها، والمناهجُ التعليمية تنشئ الفتاة نسيجًا من كل ذلك، فتتخبط من دون وقوف لتُعطَى أو تُعطِي نفسها خيار اختيار قيمها العليا، وترتيب أولوياتها وفقها، إذ تسير مُقولبة حيثما يممت شطرها.

فهي إن أرادوا الترميز  والتعبير عن كسر  القيود، أصبحت  ثورة -، وهي إن أرادوا الترميز للخطأ، كانت ممثله الأول، وهي إن أرادوا معيار الجمال كانت هي – أو لعله الجمال الذي صار معيارًا للمرأة -، وهي إن أرادوا التعبير عن الظلم كانت تلك المسكينة القائمة بأعمال منزلها- وفقًا للمعايير الرأسمالية المادية-، وهي إن أرادوا معادة الرجل، كانت ذلك الكائن الذي لا وجود له  إلا إن وضعت في مصاف مقارنة لا تجعل لها مكانًا ولا تجعل لها كيانًا إلا أن تستمر بمقارنتها بشقيقها الرجل مهملة كينونتها الأصيلة الأنثوية. وقس على ذلك أحكامًا كثيرة لا براءة لأي أنثى من أن تُحاكم إليها..

| تشييء المرأة : السعي لإنجاز زائف

الم الصورة الذي سُيطِر به على حواس الإنسان استُغلّ فيه جسد المرأة، فنُقلت من كونها عارضة للسلعة إلى كونها سلعة في ذاتها، فجمال الخاتم بجمال اليد، وراحة الطيران بقوام المضيفة وابتسامتها.
 
في خضم هذا التشويش، يُفتقَد المفهوم الفطري للجمال، وتُحصر معاييره حصرًا في قيم مادية، تربط الحسن ربطًا بالشهوة الجسدية والربح الاقتصادي، في سيولة يغيّرها أرباب المنتجات، ومختصو التسويق بما تمليه نتائج الحملات التسويقيّة.وحال المرأة؟ تقف مشدوهة في سباق لا نهائي نحو إنجاز وهمي لتحقيق الجمال.

عالم الصورة الذي سُيطِر به على حواس الإنسان استُغلّ فيه جسد المرأة، فنُقلت من كونها عارضة للسلعة إلى كونها سلعة في ذاتها، فجمال الخاتم بجمال اليد، وراحة الطيران بقوام المضيفة وابتسامتها، وفعالية مواد التجميل في انتقاء وجه العارضة بداية، بل وإن المشروب الذي تسعد به المرأة حبيبها هو المشروب المختار. ثم إن الواحدة منا بعد ذلك تبقى محتارة: ألها جسد كهذا المرغوب؟ وأسنان كأسنان صاحبة معجون الأسنان ذاك؟ وهل موادها التجميلية التي اشترتها بالفعالية الكافية لتجعل منها سيدة الحُسن والبهاء؟ أيّ سقف هو الذي نرضي به حبّنا المفطورين عليه للجمال؟

في خضم هذا التشويش، يُفتقَد المفهوم الفطري للجمال، وتُحصر معاييره حصرًا في قيم مادية، تربط الحسن ربطًا بالشهوة الجسدية والربح الاقتصادي، في سيولة يغيّرها أرباب المنتجات، ومختصو التسويق بما تمليه نتائج الحملات التسويقيّة. وحال المرأة؟ تقف مشدوهة في سباق لا نهائي نحو إنجاز وهمي لتحقيق الجمال، وقليلًا ما يحصل أن تتوقف لتسأل نفسها عن ماهية هذا الذي تسعى إليه.


اقرأ أيضًا: قفص العذارى: تأملات في واقع النساء


يعرّف المجتمع بكونه أفرادًا من مكوناتهم الجامعةِ ثقافة واحدة، والأعراف حسب ذلك تتغير، فقد تتربّى الفتاة منذ الصغر على مقارنتها بأشقائها الذكور، فيتكوّن في ذهنها علاقة تنافسية مع هؤلاء على أن الأصل أن لكل من الجنسين مكانه ومكانته، متكاملان لا متضادان، ثم هي تكبر، فلا تعطى حقوقها التي شرعها خالقها في تعبيرها عن رأيها، وقبولها ورفضها في ما يتعلق بها من قرارات مصيرية. فهي إن صارت زوجة بهدي المجتمع لا بهدي ربها، وكذلك إن صارت عاملة أو أمًا أو طالبة، فإن مردها دومًا حكمٌ إلى عرفٍ كثير، منه جائر في علاقات نمطية أُنشئت عليها، فهي لا تدري مصلحتها فيها من عدمها. والمرأة أثناء ذلك في سعي حثيث إلى إرضاء لأفراد وإسكات لأفواه.  وما الإنجاز؟ كل شيء إلا أن تقف لتفهم نفسها وشخصيتها وخصائصها ودين ربها.

| النسوية: تجييش المرأة ضد الرجل

" إذا كانت النسوية حررت المرأة فعلًا، فلماذا كل هذا الضغط والقلق الذي أحس به وأعيشه كل يوم"، تقول النسوية ليندا كيلسي.

 

في الوقت الذي تستمر فيه النسوية بنحت معالمها الأيديولجية، والانتقال من إخراج المرأة من الاضطهاد الفعلي التي تعاني منه، إلى مواكبة المعايير الحداثية وما بعدها، فإن معيارية الإنجاز الليبيرالي الذي حملته النسوية في طياتها تُذيب الكيان الأنثوي في قالب "ضد الرجل".

" إذا كانت النسوية حررت المرأة فعلًا، فلماذا كل هذا الضغط والقلق الذي أحس به وأعيشه كل يوم"، تقول النسوية ليندا كيلسي. في الوقت الذي تستمر فيه النسوية بنحت معالمها الأيديولجية، والانتقال من إخراج المرأة من الاضطهاد الفعلي التي تعاني منه، إلى مواكبة المعايير الحداثية وما بعدها، فإن معيارية الإنجاز الليبيرالي الذي حملته النسوية في طياتها تُذيب الكيان الأنثوي في قالب "ضد الرجل".

وقد مسّ ذلك المجتمعاتِ العربية، واضعًا المرأة في خندق ضيق من التقدير: بين العمل والدراسة والحياة الشخصية، فالاكتفاء الذاتي والرضا عما تقوم به لا يكفي وحده، فإن الأم ربةَ البيت خرجت من منطقة الراحة إلى منطقة التشكيك في مدى أهمية ما تقوم به، بل إن تلك الراضية بمحلها المقدرة لذاتها تعددت الآراء فيها، فهي تارة تلك القوية المؤثرة المربية، وأخرى تلك المسكينة التي لا تملك منصب عمل بالمعايير الاقتصادية، فهي لا تؤتى مقابلًا ماديًا. فأحاطت النسوية برؤية المرأة نفسها كمدخلات متجددة بتجدد الأيام، لا يستقر بها سقف إنجاز، ولا يُفصل في دورها بين محرك العجلة الرأسمالية وخصائص الشخصية الأنثوية.

| استنزاف المرأة: لنكف عن الجري وراء السراب

inbound3079040768356049202.webp
المرأة وسط كل هذا التشويش الحاصل تحاول التوفيق بين كل شيء في حياتها تسابق الزمن والعمر والصحة

وسط كل الأطراف التي تضع لنفسها رؤىً معينة لما ينبغي أن تكون عليه المرأة، تحاول هذه الأخيرة التوفيق بين كل ذلك، في سباق مع الزمن، مع العمر، مع الصحة الجسدية والنفسية، مع حق ربها وحق نفسها وحق غيرها، بين ما تستشعر قيمته وما يستشعر غيرها قيمته.

  والسعي للإحاطة بكل هذه الأدوار متزامنة: طالبة أو عاملة وابنة وأختًا وزوجة وأمًا، مهتمة بجمالها غير محدد المعايير، بصحتها، ثقافتها، استقلالها، وأسرتها، أنسها بنفسها مقابل أنسها بغيرها. فيه ضرب من الاستنزاف الطاقي لأي مخلوق بشري، لا يُرى أثره على الواحدة منا حتى يعلن الجسد استغاثته والروح حاجتها، وغالبًا نكون عند محطة يصعب عندها التوقف لاتخاذ قرار مناسب بالاستمرار أو التراجع، بالترك أو التحلي.

تنظر الأنثى إلى نفسها فتعلم أنها تعطيها حقها، لأنها تعلم ما حقها الذي فطرها خالقها عليه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، تصدق نفسها حين القوة وحين الضعف، وتحسن إذ ذاك اتخاذ القرار وإن وقف في وجه كثير من الأيديولوجيات الحداثية وما بعد الحداثية.

أول ما يتعلمه المرء إذا أقبل على التخطيط أن يكتشف ذاته، فيعلم خصائصها ونقاط قوتها وضعفها، والتحديات والفرص المتاحة لها، وكذلك المرأة أمام هذا المد الحُكميّ: متى عرفت نفسها وكينونتها المتميزة بخصوصياتها الجسدية والنفسية والجمالية والروحية، استطاعت أن تختار مسارها على بصيرة، تتوقف عند المدخلات التي تتعرض لها لتفلترها وفق قيمها العليا: قد تكون الصحة مثلًا، أو الدين، أو العطاء، أو التكوين المستمر. فلا تسمح لهذه المدخلات بالمرور إلى بوابة اللاوعي لتحكم قراراتها اللاحقة بما لا يمثلها.

فالحركةُ الواعية أبلغ في التأثير والحضور من المدفوعة بالمدخلات اللاواعية، وأشد تمكينًا للوجود الحقيقي (تأثيرًا وتأثرًا) من الوجود المنصهر (غياب حلقة التأثير والتأثر)، وأَقَر للقلب والرضا عن الإنجاز. تنظر الأنثى إلى نفسها فتعلم أنها تعطيها حقها، لأنها تعلم ما حقها الذي فطرها خالقها عليه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، تصدق نفسها حين القوة وحين الضعف، وتحسن إذ ذاك اتخاذ القرار وإن وقف في وجه كثير من الأيديولوجيات الحداثية وما بعد الحداثية، أو تلك الموغلة في الظلم العرفي، تحسن تصويب الخطأ، وتوجيه نفسها إلى إنجاز لا يقيسه الدولار، ولا مقدار المساحيق.