بنفسج

الدين السائل: معتقدات رهن وجهات النظر!

الثلاثاء 06 أكتوبر

أول سؤال ربما يخطر في بالك هو؛ هل تأثير الدين بدأ يختفي أم تأثر الناس بالدين هو الذي بدأ يختفي؟ والمقصود بالخفوت هنا هو قلة ممارساتنا الدينية اليومية له المستمدة من القرآن والسنة. بالطبع، لا نستطيع إعطاء إحصائية شاملة عن الأمر، ولكن إن أمعنت النظر في دائرتك المحيطة، مجتمعك، والبرامج التي تعرض على الإنترنت والتلفاز، واستماعك إلى أحاديث الناس في الاجتماعات، ستذهب إلى استنتاج مفاده خفوت العامل الديني بشكل واضح.

 وقد بدأ في الانحلال التدريجي، وأحيانًا، انحلال تام متطرف في شكل الحياة اليومية، انحلال في المبادئ للحاق بركب المجتمع "المعاصر"، فبات الدين شكلًا رمزيًا، دون أن يكون هو المبدأ والأساس الذي تنتقل به ومنه إلى الواقع، مختزلاً ومختصرًا على العبادات المفروضة كالصلاة والصيام. ولا يتعدى كونه تقليدًا وعادة متبعة منذ القدم، مع فصل شديد بين الحياة والدين، ولا يتحدث عنه كونه أمرًا شخصيًا.

إن حاولنا فهم السبب وتحليله بشكل عفوي ربما سنقول هو قصر فهم حقيقي للدين، وأخذ العلم من غير أهله، وبالتالي، يحمل الأمر قليلًا من وجهة النظر، ولكننا في عصر تتوافر فيه إمكانيات البحث والمعرفة، وإعطاء تبرير كهذا للناس، وفي هذا ظلم لإمكانيات الإنسان البالغ العاقل الذي خُلق له عقل يوزن ويقدر، وفكر يتدبر.

ألغيت الكثير من المبادئ والقوانين التي كانت يومًا أساس حياة المجتمعات المسلمة ليصبح كل أمر عبارة عن وجهة نظر و"ثقافة وعُرف" مجتمعي، عوضًا عن كونه تشريعًا أو مبدأ دينيًا، إضافة إلى سرعة تغيير المجتمع والأحداث الخارجية التي طرأت، ودخولنا في عصر الحداثة.

كما أوضح زيجموند باومان في سلسلته الرائعة عن الحداثة السائلة، تقوم فكرة الكاتب التي نقلت إنسان عصر التنوير من صلابة العقلانية في مراحلها الأولى، إلى سيولة الرشد، التعايش مع الواقع، كما هو في واقعنا الحالي. وبالتالي، سيولة مفهوم الإنسان نفسه. وهو ما يشبه ممارستنا للدين في سيولته التي تحاول اللحاق بركب الحداثة المتغيرة والمتقلبة.

فألغيت الكثير من المبادئ والقوانين التي كانت يومًا أساس حياة المجتمعات المسلمة ليصبح كل أمر عبارة عن وجهة نظر و"ثقافة وعُرف" مجتمعي، عوضًا عن كونه تشريعًا أو مبدأ دينيًا، إضافة إلى سرعة تغيير المجتمع والأحداث الخارجية التي طرأت، ودخولنا في عصر الحداثة، وكثرة المغريات التي حولنا، وتماهي الناس مع المجتمعات الغربية التي خلقت اضطرابًا معياريًا حادًا، أدت إلى تغير المبادئ والمفاهيم وخفوت الدين.

ولا يمكن إنكار تأثير المحيط الذي نعيش فيه، خصوصًا من مواقع التواصل الاجتماعي مليئة بالمغريات المخادعة للإنسان، معتقدًا أنها ستعرض له بديلاً عن المفاهيم التي خرج منها، ولكنها في واقع الأمر تحوله إلى إنسان فقد بوصلته، وسلعة تُباع وتُشترى من قبل الشركات العالمية، والتي تتماشى تمامًا مع رغبات النفس والهوى، أيّ الرغبة في إظهار ما لديك، الرغبة في التقليد والرغبة في فعل "ما أريد كما يفعل المجتمع"، والرغبة في الجديد، مما أدى إلى الاستقبال المستمر للمدخلات بدون أي "فلترة"، وإعادة نظر مع التساهل في الكثير من التفاصيل غير مقبولة دينيًا واستبدالها بمبادئ "الحداثة".

البديل الجديد الذي يقدمه العالم لك اليوم، والذي أحب تسميته بالتأثير الخفي في النظام العالمي المخادع، مخادع لأنه على عكس الدين يغرك بمظهره والمزايا التي يدعي في تقديمها لك لتسقط في شبكته بدون وعي منك، أما الدين واضح بين لك القواعد والأسس منذ البداية إذا أردت الالتزام بها واتباعها.

وإن تساءلت يومًا ما عن البديل عند فقدان الشخص لمبادئه الدينية والإيمانية، ومن أجل ماذا؟ أعتقد أن الجواب سيكون كما بينت، فالدين لا يُنتقى ولا يُختزل، إنه شريعة وقانون ومبدأ نتبعه في كل منحى من مناحي تفاصيل الحياة، يمثل مؤسسة إنسانية حضارية، وهوية يعبر عن كينونتك وهويتك، وبدونها ستكون أشبه بالطفل الضائع في الصحراء لا تعلم أين تتجه! وهذه أمور ربما نقلل من قيمتها أثناء تحليلنا للأسباب، ولكن لها الأثر الأعمق في كيان المجتمعات.

لنأخذ الحجاب على سبيل المثال لا الحصر، وقد مر بمراحل عدة مع تغير وضع المجتمع الثقافي والسياسي، ودخول أفكار ومعتقدات جديدة، وبعد ظهور مناداة بالحرية النسوية وظلم المرأة، أصبح الحديث عن الحجاب أمرًا خاصًا وغير قابل للكلام عنه أو حتى النصح به للبعض "لأنها حرة يمكنها أن تفعل ما يحلو لها"، وإذ بنا ندخل في مستنقع الحرية المطلقة. وهنا، تستوقفني مواقف عدة من الحجاب والممارسات الدينية، وأُذهل أحيانًا لكمية التماشي مع الثقافة العامة والاتباع الأعمى للرغبات والأهواء، متغاضين عن مبدأ أن الدين الإسلامي دين مجتمعي، وليس دينًا فرديًا، فكل أمر يستجد وينتشر ويمارس، يصبح واجبًا الحديث عنه والنصح به.

أرى أن نقطة التحول الحقيقة هي في ممارستنا الصحيحة للدين في جانبه الفكري والتعبدي، وجعله نطاقًا رحبًا وواسعًا، والنظر إلى النفس، وإعادة النظر في المبادئ بسؤال أنفسنا، هل هي مبادئ مجتمعية، أم مستمدة من الدين، ثم إعادة النظر من خلال البحث والتمحيص من أهل الفكر والعلم.

وهذا التغير الشديد والمتسارع اليوم ولّد لنا مشكلة أخرى، إذ أصبح الإنسان المسلم الملتزم اليوم المعارض للكثير من التصرفات والممارسات، محترمًا لرغبات الآخرين، ينأى عن نفسه، هو في نظر الكثير إنسان رجعي ليس له القدرة على الاندماج مع مجتمعه، ويجب تقديم تنازلات في مبادئه لمواكبة التطور، وإلا نُعت بالرجعية وعدم مواكبة العصر، وكما يقول في كتابه باتريك هايني في إسلام السوق "وكأن قيم العصر حتمية غير قابلة للتغيير، والإسلام قابل للتعديل صورته وتماهي قيمة".

وما الحل إذًا؟ أرى أن نقطة التحول الحقيقة هي في ممارستنا الصحيحة للدين في جانبه الفكري والتعبدي، وجعله نطاقًا رحبًا وواسعًا، والنظر إلى النفس، وإعادة النظر في المبادئ بسؤال أنفسنا، هل هي مبادئ مجتمعية، أم مستمدة من الدين، ثم إعادة النظر من خلال البحث والتمحيص من أهل الفكر والعلم، إضافة إلى فهم الفرد غايته الوجودية في الكون لأنها في ستساعد الكثير من التقلبات الإيمانية اليوم. والأهم، تربية الأولاد تربية صحيحة، إذ يقع على عاتق الآباء والأمهات مسؤولية كبيرة أكثر من ذي قبل، في الحفاظ على أولادهم من عدم الانجراف مع القطيع.

 وأخيرًا، يجب أن نعلم أن الدين يحمل من المسؤوليات والالتزامات الكثير ولكنه رحلة، رحلة شاقة وجميلة ومكافآته ستكون بإذن الله أجمل، فهو أشبه بصندوق "البزل"! كوننا مسلمين، يعني أننا قبلنا بكافة ما يحتويه هذا الصندوق، وترك قطعة ناقصة لن تكتمل الصورة بأي حال من الأحوال، إذ يتشابه الأساس في تركيب اللعبة لتكتمل، ولكن المحتوى داخل الصندوق يختلف باختلاف الناس المستخدمة له، كذلك الدين، ألوان وأشكال مختلفة، ليس شيئًا صارمًا يصعب تنفيذه، فالله الخالق أعلم بعبده وطبيعته الإنسانية الضعيفة. نحن في مرحلة حرجة جدًا، ورحلة شاقة وطويلة أمامنا، ولا أجد أبلغ وأحكم من آيات الله في قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ). وهذا الجهاد الحقيقي اليوم!