بنفسج

حجاب كول: كيف اختلطت قيم الستر بقيم الاستهلاك والفُرجة؟

الأحد 07 يونيو

تذكر إحدى الفتيات المسلمات التي درست وتخرجت من إحدى الجامعات الغربية، أنها اكتشفت فلسفة الحجاب عن كثب من واقع تعاملها واندماجها في الحياة الغربية؛ وتضيف أن الحجاب أكسبها سمتًا شكليًا يدلل على هويتها، ويفرض عليها وعلى من حولها التعامل وفقاً لما تمليه هذه الهويةوتواصل الفتاة سردها وتشرح فكرتها فتقول إن الحجاب يحفظ للفتاة مساحتها الشخصية دون الحاجة للتوضيح والتفسير، فمعنى كونها محجبة؛ أن اقتراب الأجنبي منها غير محبذ ولا مستحب. المحجبة مثلا لا تصافح الرجال الغرباء، وهذا أمر معروف لدى الجميع في الغرب.

فهمت الفتاة أن الحجاب في فلسفته الأصيلة يحفظ لها مساحتها الشخصية لتشارك وتتفاعل في أي مجتمع، مهما كانت صورته أو هويته، دون أن تتماهى في هذا المجتمع أو تطغى هويته على هويتها أو أن تُطالَب بما لا ترضيه لنفسها، يعفيها الحجاب من كل هذا الحرج، وفي ذات الوقت، يوصل للمجتمع رسالة صريحة "أنا إنسان أشارككم ذات الحياة لكن لي مساحتي الخاصة التي أطلب عدم الاقتراب منها، وعليك احترام ذلك والالتزام به".

| فلسفة الحجاب في الإسلام 

إنّ الشريعة الإسلامية لم تحدد للحجاب صورة بعينها إنما جعلت في الأمر سعة، وللمرأة ذوقها واختيارها طالما التزمت بشروطه الأصيله المحافظة على أغراضه.
 
أما المشكلة في خطاب عالم الموضة اليوم أنه جعل الحجاب مجرد وشاح أنيق يغطي الشعر وحسب، وهذا ما جعل بإمكاننا الجزم بأن الرأسمالية صنعت حجابًا منزوع الهوية. مثلاً تضمّن شركة star للملابس الإسلامية هذا الخطاب في وصفها لملابسها: "عالم لا تحده حدود، حيث تتحقق الأحلام مع ارتداء الحجاب".

للخروج من حالة الفتاة الخاصة أعلاه لحالة أكثر تعميماً، فإننا نرجع لأصل الحجاب لغة وشرعاً، فالحجاب لغة يعني الستر، حَجَبَ الشيء عن الأعين: أي ستره وأخفاه وواراه، ومنع الغير من مشاهدته والوصول إليه. ومن هنا، فالغرض الأصيل للحجاب هو الستر

وحول فلسفة الحجاب الشرعية، هُنا، فحن لا نتحدث عن أحكام فقهية، وإنما نعني الأبعاد المقاصدية الشرعية للحجاب، والتي نرتئي بأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالمقاصد الكلية للشريعة، والتي تنطلق من الاستخلاف في الأرض كمقصد كليّ شمولي، وتتعداه لأهداف ترتبط بتنظيم علاقة الفرد بجسده، وعلاقته بالحيز المتاح، بحيث لا تجور حرية فرد على حرية آخر. وفي هذا السياق أيضا، فقد حرص الإسلام حرصًا حثيثًا على أن لا يطغى على جوهر الإنسان شيء لا ثراؤه ولا وضعه الاجتماعي، ولا أي مقوم آخر يمتلكه، فمعيار النظر إلى المرء هو تقواه وفعاليته في المجتمع.

يذهب دكتور فريد الأنصاري في كتابه (سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة) إلى أن: "لباس المرأة في الإسلام ليس أحكامًا شكلية فحسب، على ما يعتقده بعضهم. كلا، إن اللباس مضمون جوهري يضرب في عمق الغيب، إنه بعد وجودي يرتبط بالطبيعة الوجودية للمرأة من حيث هي إنسان". ويواصل دكتور فريد شرحه بأن الإنسان هو خليفة الله في كونه المكلف بحمل الأمانة، ومن هنا خاطب الله سبحانه المرأة بما يضمن حملها لأمانتها بصفتها "عاملًا". 

من هذا المنطلق، أمرت المرأة بالحجاب، وألزم الرجل بغض البصر في مجتمع أريد له استمرار الحراك والتفاعل بين أفراده دون أن تظلم فئة أو تهمش أو تخترق مساحتها على غير رغبتها، أو تنتهك خصوصية جسدها أو تنافي طبيعتها.

تفصل الدكتورة هبة رؤوف عزت في هذا التأصيل، فتقول، إن الحجاب ينتمي لنمط من العبادات ذات الأبعاد الاجتماعية؛ فكما حوى الإسلام عبادات فردية تجمع بين العبد وربه، حوى أيضاً عبادات جماعية أو ذات بعد اجتماعي؛ تضمن تفاعلا مجتمعيا لتحقيق عبادة ما، كالحج وصلاة الجمعة وصلوات الجماعة بشكل عام، وكذلك نظم الإسلام تعاملات ومعاملات أفراد مجتمعهومن ضمن هذا التنظيم، أن الإسلام قبح إطلاق النظر إلى النساء أو الرجال. من هذا المنطلق، أمرت المرأة بالحجاب، وألزم الرجل بغض البصر في مجتمع أريد له استمرار الحراك والتفاعل بين أفراده دون أن تظلم فئة أو تهمش أو تخترق مساحتها على غير رغبتها، أو تنتهك خصوصية جسدها أو تنافي طبيعتها.

ليس المقام هنا للانسياق وراء الجدليات التي تسأل استنكارا: لماذا فرض الحجاب على النساء دون الرجال، إن كان الغرض النهائي هو تحييد الجسد، وضمان فعالية المجتمع، غير أننا نؤكد أن الشارع الحكيم لم يحدد للحجاب صورة بعينها إنما جعل في الأمر سعة، وللمرأة ذوقها واختيارها طالما التزمت بشروطه الأصيله المحافظة على أغراضه، وفي هذا شكل من أشكال التكريم والتخفيف على المرأة. كما كفّ المرأة عن الانشغال بإرضاء المجتمع عن شكل جسدها، وموافقة صورة جسدها للصورة المثالية التي تحددها معايير الجمال؛ فلا يحق للمجتمع أن يحكم على المرأة أي حكم يتعلق بشكلها أو جسدها، ويقتصر الحكم على درجة تفاعلها وتأثيرها في المجتمع.

| تمايز طبقي: الموضة بغرض التمايز والغواية 

لم يكن الهوس بالموضة والأزياء شرقيًا ولا إسلاميًا بأي حال، وإنما كان منبعه غربيا أوروبيا؛ قصد في بداية الأمر التمايز الطبقي، وسعى إلى إظهار ثراء النبلاء وعرض ممتلكاتهم من الجواهر والحلي والأزياء، ثم اقتدت الطبقات الأكثر تواضعًا بالطبقة الغنية وحذت حذوها. 
 
تطورت الموضة واتسعت وأصبحت صناعة رائجة، صناعة حقيقية وضخمة يعتمد عليها الناتج القومي لبلدان كبرى؛ حيث احتلت صادرات بيوت الأزياء الباريسية الكبرى المرتبة الثانية في التجارة الخارجية منذ عام ١٩٢٠.


لم يكن الهوس بالموضة والأزياء شرقيًا ولا إسلاميًا بأي حال، وإنما كان منبعه غربيا أوروبيا؛ قصد في بداية الأمر التمايز الطبقي، وسعى إلى إظهار ثراء النبلاء وعرض ممتلكاتهم من الجواهر والحلي والأزياء، ثم اقتدت الطبقات الأكثر تواضعًا بالطبقة الغنية وحذت حذوها. ويؤكد ليبوفتسكي على هذه الفكرة فيقول: "إن الطبقات الفقيرة قلدت طريقة الطبقات الراقية، في ماذا يلبسون، وكيف يبدون بحثًا عن التقدير الاجتماعي". فمنشأ الموضة بالأساس غرضه الاستعراض الطبقي، وهي الفكرة التي يعارضها الإسلام، ويقف الحجاب في مواجهتها كحائط صد.

تطورت الموضة واتسعت وأصبحت صناعة رائجة، صناعة حقيقية وضخمة يعتمد عليها الناتج القومي لبلدان كبرى؛ حيث احتلت صادرات بيوت الأزياء الباريسية الكبرى المرتبة الثانية في التجارة الخارجية منذ عام ١٩٢٠. ومن هنا، أصبح هناك ما يعرف ب "الديفيليهات" عروض الأزياء، والأزياء الخاصة بكل موسم، واللون المميز للموسم، وما إلى ذلك. وكانت باريس دائمًا هي المصدر والمصدِّر؛ فأصبحت باريس تملي الموضة على العالم بأكمله.

ولما كان الزمن قد دار دورته وتبادل الشرق والغرب موقعا الغالب والمغلوب؛ حيث أصبح الشرق مغلوبًا وجريحًا يرزخ تحت وطأة الاحتلال، وكما قال ابن خلدون فإن "المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب"، انتقلت إلى الشرق موضة الغرب، واتبعها الشرقيون كما هي بلا تعديل ولا تبديل، ظل الحال كذلك حتى وقت ما عرف بالصحوة الإسلامية العالمية عادت على إثرها النساء للحجاب، وعدن بالتبعية لنمط ثياب بسيط ومحتشم، إما حكن ثيابهن بأنفسهن، أو استعن بحائك يحيك لهن زياً بسيطاً بإمكانيات زهيدة.

كما ارتبطت هذه الصحوة بعودة الإسلام السياسي إلى ساحة العمل العام، وحمل الحجاب سمتًا سياسيًا بالتبعية كما جاء على لسان د. عصام العريان، أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين بمصر في ندوة مسجلة: "دخلت كلية الطب عام 1970 ولم تكن هناك سوى طالبة واحدة محجبة بالدفعة، والجماعة حين بدأت تمارس نشاطها الإسلامي والدعوي انتشر الحجاب دون إكراه، وكل ما كانوا يفعلونه هو توزيع منشورات وكتيبات مثل كتيب (إلى كل فتاة تؤمن بالله) للشيخ الداعية الإسلامي السوري محمد سعيد البوطي. ومن بعدها بدأت الجماعة تفكر في توفير طُرح تصلح للحجاب، فتعاملوا مع مصانع بعينها ومع المنطقة الحرة في بورسعيد بعد 1973 لتوفير احتياجات تكفي الفتيات الراغبات في الحجاب حينها؛ حيث إنّ أزياء المحجبات لم تكن منتشرة، وتم بيع الحجاب بسعر التكلفة، وهكذا لم يمضِ سوى 5 سنوات إلا وتحجبت ثلث زميلات الكلية مقتنعات، وهكذا بدأت الجماعة مسيرة الحكم مع تحجيب النساء".

| أسلمة الموضة وتسليع الحجاب

مع انتشار الحجاب بين عامة مسلمات الشرق، أخذت صبغته السياسية تتوارى بشكل ملحوظ. لكن المثير للاندهاش، تواري السمت الديني للحجاب كذلك، وتحوله من زي ديني يحمل هوية وتحدده شروط، إلى الشكل الأمثل للزي "المقبول اجتماعيًا". وبالتالي، يمكن العمل على عصرنته أو أن يصبح الحجاب "cool" على نحو ما.

ظهرت سلاسل تستهدف المحجبات بالأساس، كما أصبحت أقسام أزياء المحجبات ركنًا لا غنى عنه في الكثير من السلاسل التجارية العالمية. انطلق مثل هذا النوع من تركيا التي تمثل "نقطة الالتقاء بين الصحوة الإسلامية والبرجزة، فتقوم على دعوة البرجوازية الإسلامية إلى الدخول في تجارب استهلاكية في إطار من المبادئ الإسلامية". وفي البدء ألقت معايير الحجاب الصحيح، وعلى رأسها الحشمة بظلالها على السمت الغربي للملبس، لكن ما فتئ الأمر حتى انقلب وأصبح الزي غربيًا بامتياز، لكنه أضاف بضعة أمتار تستر ما يفرق بين المحجبة وغيرها من وجهة نظر صنّاع الأزياء.

View this post on Instagram

Born in London, #KateMoss was scouted at an airport at the age of 14. Two years later, she appeared in her first magazine spread—called the 3rd Summer of Love, becoming an instant sensation. From there, she became a regular fixture on Vogue, walked runways for influential designers like John Galliano and Marc Jacobs, and nabbed a contract with Calvin Klein. Known as “the anti-supermodel” Moss was described as a “waif”, propelling the wave of lithe models that came after her—but there was and will only ever be one Kate Moss. Happy birthday! اكتشفت كيت موس، المولودة في لندن، في المطار. كانت حينها تبلغ من العمر 14 عاماً. بعد عامين من اكتشافها ظهرت للمرة الأولى على صفحات المجلات، فيما أطلق عليه صيف الحب الثالث. ومن هناك تكرر ظهورها على صفحات ڤوغ، كما سارت على منصات العروض لمصممين عالميين أمثال جون غاليانو ومارك جيكوبس، ثم وقعت عقداً مع كالڤن كلاين، عرفت موس بنحل جسمها وأطلق عليها لقب "the anti-supermodel” تدعم العارضات الجدد ممن تبعنها - ولكن في نهاية الأمر، #كيت_موس هي موهبة لن تتكرر. عيد ميلاد سعيد!

A post shared by Vogue Arabia (@voguearabia) on

صاحب هذه الفترة ظهور خطاب إسلامي مستجد متنصل من السياسة والإسلام السياسي. وبحسب تعبير باتريك هايني صاحب كتاب (إسلام السوق) : "يضفي طابعًا رسميًا على التدين الجديد التدين المرح والتنافسي". يقصد ظاهرة طمأنة متابعيه أن الإسلام مواكب للعصر، وهي حقيقة لا خلاف فيها، لكن باطن الخطاب كان إخضاع الإسلام لقيم النظام العالمي الجديد، وإن خالفت قيمه ومبادئه وإلا نعت بالرجعية وعدم مواكبة العصر، وكأن قيم العصر حتمية غير قابلة للتغير، والإسلام قابل لتعديل صورته وتماهي قيمه، بدأ هذا الجيل من الدعاة في إقناع شريحة عريضة من الفتيات بارتداء الحجاب، وبدأوا فيما يرونه تيسيرًا على الفتيات حتى ولو سلبت صورة الحجاب الأصيلة.

وظلت الهوية الدينية الأصيلة للحجاب تتوارى في مواجهة الزيّ العصري، فتخرج الصيحة تارة تقتضي كشف جزء من اليدين، أو الساقين، أو كشف الرقبة، وغير ذلك من الأمور الدخيلة. ناهيك عن استعراض ما يعرف "بالفاشونيستا المحجبة" لنمط ثيابها المناسب للعمل أو السباحة أو الرياضة.

تزامن ذلك مع ظهور أول مجلة نسائية تستهدف المحجبات بصورة خاصة، وتطلعهم على آخر صيحات الموسم وتقاليعه. ظهرت على أغلفة هذه المجلة المذيعات المحجبات والفنانات الشابات المعتزلات حديثًا، واللاتي قررن أن يعدن إلى الساحة بمساعدة الفتيات المحجبات في انتقاء ملابسهن وتسليط الضوء على حجاب لا يختلف في أي شيء، سوى وضع وشاح أنيق يغطي الشعر، وهذا جل ما يفرق بين زي المحجبة وغير المحجبة. ما جعل بإمكاننا الجزم بأن الرأسمالية صنعت حجابًا منزوع الهوية.

وظلت الهوية الدينية الأصيلة للحجاب تتوارى في مواجهة الزيّ العصري، فتخرج الصيحة تارة تقتضي كشف جزء من اليدين، أو الساقين، أو كشف الرقبة، وغير ذلك من الأمور الدخيلة. ناهيك عن استعراض ما يعرف "بالفاشونيستا المحجبة" لنمط ثيابها المناسب للعمل أو السباحة أو الرياضة، وأصبح حجاب المرأة يحمل رسالة تناقض غرضه الأصيل؛ فأصبح معروضًا يشير إلى صاحبته التي اقتنته من إحدى الماركات العالمية، وأصبحت هي تحمل حجابها، أو تحمل قطعة قماش ذات هوية بديلة مختلفة عن الحجاب الديني الإسلامي البسيط الزاهد الساتر... الساتر وحسب.


| المراجع والمصادر

[1]  إسلام السوق، باتريك هايني.ترجمة عومرية سلطاني.

[2] ليبوفتسكي، مملكة الموضة زوال متجدد.

[3] سيماء المرأة في الإسلام، فريد الأنصاري.

[4] فلسفة الزي الإسلامي، د. أحمد الأبيض.

[5] محاضرات دكتور هبة رؤوف عزت، المرأة في الإسلام.

[6] علمنة الجسد، د. عبد الوهاب المسيري.