بنفسج

عن الفهم الأعوج للضلع الأعوج

الأحد 07 يونيو

عن الضّلع الأعوج، عن تلك العورة المتوارثة عبر العُصور والأديان، وعن الفهم الأعوج الذي طال ماهيتها البسيطة، بين ما خُلقت من أجله والمكانة التي تقوْلبت فيها؛ لتغدو مسألةً شائكة يصعب الفصل فيها، وتكون محلّ جدالٍ وميزانًا للتّفاضل بين الأديان من حيثُ السّماحة، المعاصرة، التفهّم والحضاريّة. وما هذا إلاّ قولُ حقٍّ أُريد به باطلٌ، يُضْرَب به الحقّ بتشويه أحد معالمه، فيختلطُ الأمر على أصحابه فيُهاجموه ليُبطلوا السّياق المغلوط الذي جِيءَ به، فإذا بهم يهاجِمون حتّى الحقّ الكامن في القول ذاته.

وعلى نحوه كانت فكرة "تحرير المرأة" التي باتت فكرة ممجوجةً من أهل الشّرع، فهجروها لأنّها سرَت على ألسنة أهل الباطل ونسوا في خضم الصّراع القائم أنّها مقصدٌ أصليٌّ حين كانت تحريرًا من براثن الجاهليّة وأفكارها، لا خارج إطار الشّرع، وذلك خطأ منهم فادحٌ. ولعلّ حاجتنا اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى دفع دولاب المفاهيم بعيدًا عن باطلٍ تلبّس به، وردّها لفظًا ومعنى إلى أصلها في منظومة الحقّ والعدل. فمثلاً، حين نطرح فكرة الاختلاف الفكريّ بين الرّجل والمرأة تجد الغالبيّة تذهب إلى أنّ الاختلاف اختلافٌ في تركيبة العقل.

ولربّما يأخذون حجّتهم من قول الحبيب -عليه أفضل الصّلاة والسّلام- : (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)؛ فيتوقّفون عند هذا ويكتفون به حجّة ودليلاً. ولكن للحديثِ تكملة بيّن فيها النبيّ -عليه الصّلاة والسلام- مكامن النقص التي قصدها، فقيل: (قُلْنَ : وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا).

فنقصان عقلها ضعفُ حِفظها ونسيانها، فكانت شهادتها تُجبَر بشهادة امرأة أخرى، كما قال سبحانه: "وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى". وبالتالي، ليس نقصًا فطريًّا عامًّا في مستوى الذكاء والفهم والاستيعاب وغيره، فهذا الاحتمال مستبعدٌ بالاستقراء والملاحظة والتاريخ العريض الذي يشهد لنا بعكس ذلك، وإنّما هو نقصٌ عارض مؤقّت نتيجة للتغيّرات الطبيعية في حالة الحيض أو الحمل أو غير ذلك من عوارض النساء.

| اختلاف التكليف

عن الضّلع الأعوج، عن تلك العورة المتوارثة عبر العُصور والأديان، وعن الفهم الأعوج الذي طال ماهيتها البسيطة، بين ما خُلقت من أجله والمكانة التي تقوْلبت فيها؛ لتغدو مسألةً شائكة يصعب الفصل فيها، وتكون محلّ جدالٍ وميزانًا للتّفاضل بين الأديان من حيثُ السّماحة، المعاصرة، التفهّم والحضاريّة. 
 
فالأصل أن ينظر كلٌّ منّا للكون كجوهرٍ ولماهيته كإنسانٍ قبل أيّ شيءٍ، وإلى أهميّة تمايز المساحات منطقًا وتشريعًا وتطبيقًا في إدارة الحياة من قِبَل الذكر والأنثى على حدّ سواء؛ فبعضُ جوانبها تحتاجُ تراحمًا وبعضها الآخر يحتاجُ تزاحمًا ومنها ما يحتاجُ تنافسًا.

وأذكر في هذا الباب قصّة، فيما يُروى عن عبدِ اللَّهِ بنِ بُريدةَ عن أبيهِ قالَ: "جاءت فتاةٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ فقالت: إنَّ أبي زوَّجني ابنَ أخيهِ ليرفعَ بي خسيستَه، قالَ: فجعلَ الأمرَ إليها. فقالت: قد أجزتُ ما صنعَ، ولَكنِّي أردتُ أن أُعلِمَ النِّساءَ أن ليسَ إلى الآباءِ من الأمرِ شيء.

فالنقصان قد يتجاوز الأمور الفطريّة التي جُبل عليها البشر والتي كما ذكرت سابقًا أمور عارضة غير قارّة، لا تضعُ من شأن المرأة؛ لأنّها جزءٌ لا يتجزّأ من بشريّتها وكينونتها لتمارس دورًا من أدوارها في هذه الحياة، ليتعدّاها إلى شعور النّفوس بالنّقص يعتريها ويتغلغل فيها؛ فيؤثّر على سلوكها ونظرتها للأمور والأحداث وعلاقتها بالنّاس، وكذا على مطالبها، فتسعى لرفع خسيستها بطلب نسب أو شهرة أو صحبة أو علاقات. وما يرفعها ذلك قدر أنملة؛ لأن النقص في النفوس والشعور بالدونيّة لا يعوّضه تحصيل منصبٍ أو جاهٍ أو قوة، وهو ما يجعل النفوس تنفرُ منه ما دام ملازمًا لصاحبه لا يُفارقه، فمن يجبره ومن يكمّله؟

إنّ هؤلاء الذين يأخذون بهذا القول (أي: اختلاف تركيبة العقل بين الذكر والأنثى)، لا يريدون استيعاب أنّ اختلاف الأفهام بين الرّجل والمرأة ليس لأنّ للرّجال عقلاً وللنّساء عقلاً، بل اختلافها راجعٌ لاختلافٍ في النشأة والعلم والبيئة والطّبع بين الرجال والنّساء، وبين الرّجال كما بين النّساء، والمنهجُ حاكمٌ في الفقه والعلم.

فالإنسانيّة التي تجمع الذّكر والأنثى هي حجر الأساس في الرّشد، لا خلاف ذلك؛ فهي مفتاحُ الوعي، ليُدرك كل منهما كينونته وماهيته كإنسانٍ أوّلاً قبل جنسه؛ ذكرًا كان أم أنثى، ثمّ يأتي التفاوت في هذه الصّفة من حيث الرجولة والمروءة، ومن حيث النّبل والحياء وغيرها، فهي درجات يتفاضل فيها الناس فيما بينهم.

ولعلّ هذا الاختلاف في التكوين، وما يطرأ على المرأة من تغيرات طبيعية تؤدّي إلى تغيرات نفسية ومزاجيّة، يدخل ضمن الاعوجاج الذي ذكره رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في قوله: (استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلع أعلاه، فإنْ ذَهبتَ تُقِيمه كَسَرْتَه، وإنْ تركْتَه لم يزلْ أعوج، فاستوصُوا بالنِّساء خيرًا)، فدعا إلى الإحسان إليهنَّ.

ولعلّ من أعظم الاختلافات والخبرات التي تتفاوتُ فيها الأنثى على الذّكر أو العكس، مردّه إلى اختلافٍ في التكوين، كخبرة الأنثى مع دورات الرّحم واحتوائه للجنين وشهور الحمل، وانتفاضة الولادة، وديمومة الرابطة رغم انفكاك الرّباط، والرضاعة والرعاية، والاقتران. فالأمومة جوهر وسلوك لا يفقهه الرّجل، وقد لا تلد المرأة لكنها تظلُّ أما في حُنوِها ومشاعر الرّحمة التي تنشرها.

ولعلّ هذا الاختلاف في التكوين، وما يطرأ على المرأة من تغيرات طبيعية تؤدّي إلى تغيرات نفسية ومزاجيّة، يدخل ضمن الاعوجاج الذي ذكره رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في قوله: (استوصُوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلع أعلاه، فإنْ ذَهبتَ تُقِيمه كَسَرْتَه، وإنْ تركْتَه لم يزلْ أعوج، فاستوصُوا بالنِّساء خيرًا)، فدعا إلى الإحسان إليهنَّ، والصبر على عِوج أخلاقهنَّ. ومثلها مثل الأضلع التي في القفص الصدري عوجاء، كمالها في اعوجاجها، ولو كانت مستقيمة لكانت مزعجةً.

وهذا الاختلاف الفطريّ يوجب التعارف بين الناس شعوبًا وقبائل، ومن قبلها الذكر والأنثى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". وما ينبني على هذا التعارف من علاقات يحكمها التكافؤ الأصليّ، واختلافُ الأدوار بين الناس كلٌّ لما وجد من أجله.

ويحصل أن توجب الظروف أحيانًا -كغياب الزوج أو الأب لسفرٍ أو وفاةٍ أو غيرها-دوران التّكليف؛ فتجدُ المرأة نفسها في لحظة ما الأمّ والأب لأطفالها، لكنّها تقوم بالدّور على أكمل وجهٍ وتحملُ الأمانة رغم ثقلها، فالأصل فيها هنا القدرة، لكنّ اختلافَ التكليف ما هو إلاّ لحكمة إلهيّة لا نفقهُها، لكنّنا نؤمنُ بها ونخضع لها. ولنا أيضًا في الحجّ مثلاً في دروسٍ بالغة لإنسانيّة جامعة، لا يفرّق فيه أيٌّ منهما -ذكرًا كان أم أنثى- عن الآخر في شيءِ؛ فلا للنساء منسك وحدهنّ وللرجال طوافٌ وحدهم، وكلّهم في عرفة واقفون لا يتأخر منهم أحدٌ.

إنّ هذا ما هو إلاّ مثالٌ واقعٌ، وتأملات بسيطة، في ظلّ غربتنا عن الجوهر والباطن، عن ذواتنا، وعن أصل المفاهيم لغةً ومعنى، جوهرًا لا صورةً. وأذكر عبارة للدكتورة هبة رءوف عزّت؛ نَسَبت فيها اكتسابنا للمفاهيم المغلوطة إلى اعوجاج اللغة وسوء الفهم، فقالت: "... ولأنّ تصحيح المفاهيم يحتاج استقامة اللغة واللسان، وفهم الكتاب والبيان، والنظر في ما آتانا الرسول وما نهى عنه؛ فإنّ تضييع اللغة وتشويه اللفظ القرآني حتى تستغربه الأذن وتشمئزّ منه النفس مرحلة، فإن تمّ ذلك مع اللغة والتنزيل سقطت مكانة النبوة، وسهل بخس رسالتها، وقصرها على بشريتها، وحبسها في لحظتها التاريخية، ونفي عالميتها زمانًا ومكانًا، فيغدو ويبدو الإسلام غريبًا".

فالأصل أن ينظر كلٌّ منّا للكون كجوهرٍ ولماهيته كإنسانٍ قبل أيّ شيءٍ، وإلى أهميّة تمايز المساحات منطقًا وتشريعًا وتطبيقًا في إدارة الحياة من قِبَل الذكر والأنثى على حدّ سواء؛ فبعضُ جوانبها تحتاجُ تراحمًا وبعضها الآخر يحتاجُ تزاحمًا ومنها ما يحتاجُ تنافسًا، فتكون بذلك الدقّة في الفهم، والحكمة في الإدارة، بعيدًا عن فَهمنا الأعوج، وفِعلنا الأعرج، وتزييف الوعي، ونحسبُ أنّنا نُحسن صنعًا.