بنفسج

ميراث السوء: لن تتحرر وحدك!

الثلاثاء 24 مايو

وٌلدت بعد وفاة جدتي لأمي بعدة سنوات، لم أعرف عنها في طفولتي الأولى، صُدمت حين أخبرني أهلي أني أشبهها، لا شكلًا، بل طبعًا، تشابه جعل أمي تتساءل أحيانًا أهذه ابنتي أم أمي؟ بالتأكيد كلنا صادفنا هذا النمط من التشابه غير المبرر –ظاهريًا- لا أثر لمحاكاة أو استدعاء لحكايا تناقلتها العائلة. خيط رفيع يمرر عبر الأجيال يحمل، لا ملامح الشكل وحسب، بل الطباع والصدمات وتباعاتها. الأمر لا حرج فيه طالما اقتصر على طبع محمود، تفضيلات حياتية، المشكلة حينما يكون حدة، عنف، تحسس مفرط، مبالغات في ردود الأفعال، إجمالًا كل المؤثرات السلبية على حياتنا. أول ما تحمله الجينات الموقرة.

| الصدمات العابرة للأجيال

لا أدّعي فهمي الكامل لنفسي، ولا تفسيري لما هو شخصي وما هو وراثي من انفعالات، كل ما أعلمه أني لم اختر جيناتي، لكني سأروض الجزء المتحكم بي منها –ما استطعت لذلك سبيلًا-، لن أدع صدمات أجدادي ومخاوفهم تشكل عائق لي –مهما كلف الأمر.

مبحث في علم النفس، يدرس انتقال الصدمات وتأثيراتها، ربما تظهر في الجيل الأول، أو تتخطاه للثاني، أو حتى تصل إلى الجيل السابع، صدمة العبودية التي عانى منها الأمريكيين من أصل إفريقي، مازالت تؤثر على أحفادهم –طبقًا للأبحاث العلمية-، صدمة تستدعي رد فعل عنيف حانق كلما هيجتها المؤثرات المختلفة –ويا لكثرتها- وما إيريك جارنر عنا ببعيد. العالم العربي يعاني من الصدمات الكبرى حاليًا: الحرب في سورية والعراق واليمن السعيد –سابقًا-، احتلال فلسطين، الأزمة الاقتصادية بلبنان، العبودية بموريتانيا..إلخ، كلها ستخلف آثارها المدمرة على نفسيات الجيل الحالي ونسله.

على أصدعة أخرى –أوسع تأثيرًا- كلنا نعاني من صدمات متخلفة من الأجيال السابقة، لاحظ تحسسك من أمور هينة، انفعالك من دون سبب واضح، مخاوفك غير المبررة، تجعلك تتساءل أهذا أنا حقًا؟ أم مما ورثته؟ ربما تكون صدمة في طفولتنا المبكرة أوما قبلها؛ الجنين له ذاكرة أيضًا –أحاسيس الأم وانفعالتها تؤثر على طفلها-، المهم أنها مؤثرات غير لحظية في مواقف عديدة، الأدرينالين ينقذنا أحيانًا ويورطنا أحيانًا أخرى، أن نضع الأمور في سياقها ذلك هو التحدي.


اقرأ أيضًا: إنسانة قبل أي شيء


لا أدّعي فهمي الكامل لنفسي، ولا تفسيري لما هو شخصي وما هو وراثي من انفعالات، كل ما أعلمه أني لم اختر جيناتي، لكني سأروض الجزء المتحكم بي منها –ما استطعت لذلك سبيلًا-، لن أدع صدمات أجدادي ومخاوفهم تشكل عائقًا لي –مهما كلف الأمر-. رحلة طويلة لكنها تستحق، وستؤتي ثمارها، ولو بعد حين –بإذن الله-. هذا موروث واحد من موروثات الآباء، هناك الكثير غيره، يتفاوتون في الشدة والمدى، ويتفقون في ترسبهم بداخلنا، أعظمهم أثرًا بلا منازع.

| التربية

الاختبار الأصعب لكل أب وأم، أن تُنشئ أطفالًا أسوياء –قدر الإمكان- في ظل عالم صاخب يقدس المادة، ويدعم الحريات غير المشروطة، معادلة صعبة بين الإفراط والتفريط، قليل من يجيدوها، إذا نظرنا حولنا سنجد الأهل المسيؤون عن عمد قلائل، أما الأغلب فيسيؤون عن جهل، إما رغبةً في التقويم، أو افتراضًا لملكيتهم لأبنائهم، إلى هؤلاء: "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكاً لكم". جبران

لا يتعارض الأمر مع بر الآباء، البر وليس الطاعة أي ليس لهم التدخل في اختيارات أبنائهم ولا مسكلهم، ما إن  يصلوا سن البلوغ يكونوا شهداء على أنفسهم، ليس على الأهل حينها سوى الإرشاد والدعم. أغلب الأهل لا يدركون ذلك –مع الأسف-، يظنون أن إفناء حياتهم في سبيل أبنائهم صك ملكية لهم، يمنون بالتضحيات، ويطلبون النتيجة طاعة، عايشت امرأة مسنة في طفولتي تعامل ابنها الذي ناهز الأربعين معاملة الطفل، نعم نموذج "حماده عزو" الذي أداه ببراعة يحيي الفخراني موجود، يٌدمر بوفاة الأم لا كما صورته لنا الدراما.

عبء التخلص من هفوات التربية ومصائبها؛ يقع على الشخص نفسه –مع الأسف-، من تمام النضج ألا تنتظر ممن أساؤوا أن يحسنوا، ربما إساءة مقصودة أو بدافع حب الامتلاك، التمس العذر فقد اٌتيح لك ما لم يُتح لهم، وكلنا جناة وضحايا في الآن ذاته. الأمر لا يتوقف هنا، مثلما تربي كل أسرة أطفالها يربينا المجتمع ككل –شئنا أم أبينا؛ نحن في مواجهة.

| العادات والتقاليد

موروثات فلتت من الحجز الجيني وانتقلت بالممارسات، قيود ما أنزل الله بها من سلطان، للفرح طقوس، للعزاء طقوس، للنجاح طقوس، للفشل طقوس، تتفنن كل منطقة في تعقيد طقوسها الخاصة لا لشيء إلا للتتباهى بأصالتها، طقوس تكون المادة محورها الأول –عادةً-، تطبيق مثالي لمبادئ الرأسمالية.

على سبيل المثال في منطقة كرداسة الريفية الفقيرة بالقاهرة، يُفرض على العريس ذبح جمل قبيل زفافه؛ ليأكل أهل القرية، مثال صارخ آخر في الدلجمون إحدى قرى وسط الدلتا توجد وظيفة كاتب قائمة، مهمته الوحيدة كتابة منقولات العروس، لا بد للقائمة أن تشتمل على بنود ثابتة لا تتغير، وإلا وجب على أهل العروس استيفائها، لا يهم الاختلاف بين الناس، الاحتياجات لنا وتلبيتها بشروط المجتمع. تساؤلي الآن: هل سيظل تمسك المجتمع المصري بالعادات والتقاليد –السلبية- قائم في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة؟ أم سيستمع لصوت العقل؟ أما أكثر ما يؤرقني شخصيًا هي التصورات المسبقة.

| تصورات عن الذات والآخرين
التصورات قد تكون نتيجة تجارب سابقة أيضًا، تتصور إمكانية تكرارها رغم أن المحيط اختلف، قضيت أول عشر سنوات من حياتي ألعب، وحينما اتصفت بالاستهتار قضيت ما بقي من عمري أكفر عنها، اللعب ليس ذنبًا، والاستهتار رهين الموقف لا الشخصية، والحياة مراحل.

أنت ذكي غبي لطيف مثابر كسول... الحقيقة أنهم يصفون الفعل لا الشخص، أنت كل هذا وأكثر، ربما كان لك نمط محدد واضح مثل أني شخصية نمطية لا تهوى الاجتماعيات، لكن هذا لا ينفي اتصافي بالعشوائية –أحيانًا- أو انطلاقي في مجالس ألفتها، التصورات تحصرك إما كي تثبتها –إن كانت إيجابية-، أو تنفيها –إن كانت سلبية-، وإذا كنت مثلي ستسعى لإثبات السلبي منها –بين الحين والأخر- دلالة على ضربك بآراء الآخرين عرض الحائط.

التصورات قد تكون نتيجة تجارب سابقة أيضًا، تتصور إمكانية تكرارها رغم أن المحيط اختلف، قضيت أول عشر سنوات من حياتي ألعب، وحينما اتصفت بالاستهتار قضيت ما بقي من عمري أكفر عنها، اللعب ليس ذنبًا، والاستهتار رهين الموقف لا الشخصية، والحياة مراحل ومن حاولت الإثبات لهم خرجوا من حياتي منذ أمد بعيد، لا معنى لما فعلته ولا مبرر لكوني رهين مواقف وأشخاص. يقول ابن رشد "إن الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان".  البرهان، لا الموروثات، لا التصورات، لا الأماني، والحكمة يلزمها التحرر والتحرر يلزمه البحث والتفكير. وتذكر أنك إن تحررت لن تتحرر وحدك، ستحرر سبعة أجيال قبلك من وزر ميراثهم، وسبعة بعدك من موروثات مشوهة.