بنفسج

البكاء المر... العنف الذي أفقدني طفولتي

السبت 09 ابريل

عصام الوحش، هذا كان لقبي في المدرسة الجديدة التي أصبحت أرتادها بعد وفاة والدي. انتقلت للعيش كنف أمي وعائلتها. تطلق والداي عندما كنت في العاشرة من عمري، أي قبل سنتين من اليوم، في كل يوم شجارٌ وضرب وعنف. كان أبي يضرب أمي حين يغضب، يتشاجر في العمل ويعود كي يفرغ حنقه بيّ وبأمي، أمي التي أحبته حين كانا معًا في الجامعة، تزوجته رغم رفض عائلتها التي قاطعتها وهجرتها، ولكنها ظنت الحب يكفي.

كان ينتظر خطًأ بسيطًا، كسقوط كأس من يديها المرتجفتين، أو جلوسي على التلفاز الصامت الذي لا أكاد أسمع منه شيئًا. يأخذ حزام بنطاله ويبدأ بجلدنا حتى يقعى وينطفأ عضبه، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي كان طاقة فرجٍ لأمي، أما بالنسبة لي فكان بداية أيامي السوداء. عاد أبي من العمل مبكرًا في إثر اتصال أجرته المدرسة معه، تطلب حضوره، كنت قد تشاجرت مع ابن أحد المعلمين وأبرحته ضربًا لأنه شتم أمي، انفجرت غضبًا. ألا يكفي أبي وسوطه حتى تتطاول أنت على أمي!

ودّعتني أمي والدموع في عينيها، ابتسمت لها ابتسامةً مطمئِنة، أما بداخلي فكان يرتعد خوفًا. يتهدم كل شيءٍ فوق بعضه، ولكني تجلدت رأفة بها، آه كم أنا طفل ناضج وشقي، ولكن لا بأس، أخبرني جدّي أنه سيقدم اعتراضًا على هذا القرار المجحف علهم يستردونني.

وأخذت أضربه بلا وعي إلا أن فرّقنا المعلمون عن بعضنا بعضًا. لقد أدميت وجهه، توعدني أبي أمام المدير وعائلة الولد الآخر، وأنا لا أبالي، بل كنت غارقًا بتفكيري. وهكذا إلى أن أُوِصدت أبواب البيت خلفنا، وبدأ التعذيب والتنكيل بي، ظننتها وأمي جولةً عادية قصيرة، ثلاث دقائق أو خمس على الأكثر، ولكن الضرب يتزايد، والصفعات تأخذني يمينًا ويسارًا، وأنا سابح في الفضاء، إلى أن غادرتني المرئيات. حين استيقظت وجدتني في المشفى. وجه خالتي يحملق بي، سألتها عن أمي، أخبرتني أنها هنا، ستكون بجانبي. بقيت أيامًا في المشفى، ولكن أمي غير موجودة. بعد إلحاحٍ شديدٍ مني صحبوني إليها، كانت ممددة على السرير، يدها اليسرى ملفوفةً بالبياض، لقد كسرها ذاك الرجل.

جدي كان يتوعد ويحلف أيمانًا مغلظة بأنها لن تعود لذاك البيت. سكت جدي حين وقعت عينا أمي عليّ، ضمتني إلى صدرها وأخذت تقبلني وتشمني، ثم سألتني عن سبب فعلتي. أخبرتها أني لم أحتمل أن يشتمها شخص آخر. ولكن، هل ستعودين له؟ نظرت في وجهي وقالت: كل شيءٍ سيكون على ما يرام. جلست معها في بيت جدي معززًا مكرّمًا، أشاهد التلفاز الناطق، ألعب بالكرة، أركض وأقفز من دون أن يصرخ عليّ أحد، ولكن أيام الراحة والدعة انتهت. أقرت المحكمة طلاق أمي وحضانتي لأبي.

ودّعتني أمي والدموع في عينيها، ابتسمت لها ابتسامةً مطمئِنة، أما بداخلي فكان يرتعد خوفًا. يتهدم كل شيءٍ فوق بعضه، ولكني تجلدت رأفة بها، آه كم أنا طفل ناضج وشقي، ولكن لا بأس، أخبرني جدّي أنه سيقدم اعتراضًا على هذا القرار المجحف علهم يستردونني. كان أبي ينتظر على ناصية الشارع، حين رآني احتضنني وفرّت دمعة من عينيه أبت إلا الانحدار. شيء بقلبي اختلج؛ هل رقّ قلبي له بعدما فرّقني عن أمي، أمي التي نالتها صنوف العذاب.

ترجّلنا السيارة مبتعدين وأنا صامت، فيتحدث هو يسألني عن أحوالي وعن أمي. يعدني بأننا سوف نسترجعها، ونعود كي نصبح عائلةً مجددًا، ومتى كنت لنا عائلة! أقول في نفسي، يربت على ظهري بيده الضخمة، شعرت بأن ضلوعي ستخرج من صدري. وقفت أمام الباب وتجمدت قدماي... لا تقلق، ستعود أمك قريبًا، يقول هو... توجهت نحو غرفتي لا أنوي على شيء. كل شيء مبعثر كما في ذاك اليوم العصيب، كتبي متناثرة على الأرض، بقع من الدم المتصلبة على الأرضية، شعيراتٌ سوداء طويلة يبدو أنها اقتِلعت من جذورها عنوة. حملتها عن الأرض وأخذت أمدها بأصابعي، ثم وضعتها في علبةٍ صغيرة بجانب سريري.

انتشلني صوت أبي من هذه الذكرى المريرة، طلب مني أن أعدّ له كأسًا من الشاي، أخبرته أني لا أعرف، أمي كانت تمنعني من اللعب بالنار أو المطبخ، يصرخ: لقد دللتك أمك كثيرًا، لا يحتاج لخبرة كبيرة، تصنع هكذا وهكذا. أعددت له كأسًا من الشاي، كان أسود ومرًا؛ فبصقه على الأرض ونهرني. في الصباح توجه إلى عمله، حين استيقظت وجدت عملةً معدنية جانب رأسي لا تكاد تكفي لشراء قطعة خبز. الثلاجة خاوية، لا بأس، المهم ألا يعتدي عليّ بالضرب.

يستقبلني أبي بالباب صابًا علي سيلًا من الشتائم، يقول: سأذهب لبيت جدك اللئيم الذي فرّق أمك عنا، لقد ملأت الثلاجة بصنوف الطعام، تناول شيئًا ولا تخرج إلى الشارع وإلا عوقبت. أفعل ما أمرني حرفيًا، ليس تنفيذًا لرغبته، ولكن رضوخًا لأمي التي أوصتني بألا أخالفه في ما يقول.

وصلت المدرسة متأخرًا، مغبرًا من كثرة الركض والجري، لا أفقه شيئًا مما تقوله المعلمة، تباغتني بسؤالٍ فلا أعرف الإجابة، يسخر مني بقية الأولاد، ويكشر ذاك المشاغب الذي ضربته عن أنيابه راسمًا ابتسامةً ملؤها الشماتة والسخرية، أحقد عليه وأتمنى لو أضربه حتى الموت. أعود إلى البيت مشيًا على الأقدام، أحثّ الخطى وأتسلى بزجاجة أمامي، أجعلها كرةً، إلى أن أصل. يستقبلني أبي بالباب صابًا علي سيلًا من الشتائم، يقول: سأذهب لبيت جدك اللئيم الذي فرّق أمك عنا، لقد ملأت الثلاجة بصنوف الطعام، تناول شيئًا ولا تخرج إلى الشارع وإلا عوقبت.

أفعل ما أمرني حرفيًا، ليس تنفيذًا لرغبته، ولكن رضوخًا لأمي التي أوصتني بألا أخالفه في ما يقول، وألا أجادله حتى لو شتمها وذكرها بالسوء. حين عاد كنت نائمًا، ولكني استيقظت على صوت زجاجٍ يتكسر في المطبخ، إحدى نوبات الغضب تنتابه الآن. ماذا أفعل؟ ماذا لو سحبني من سريري وبدأ بجلدي. لا، لن يفعلها، لقد كنت نائمًا وسأتظاهر بالنوم إلى أن يقعى ويهدأ، يبدو أن جدي أعطاه الرد المناسب. ساعة مرت وهو يتشاجر مع نفسه أو مع خيال جدي وأمي، ولكني أريد الحمام، لا أعلم ماذا يحصل لي. لقد ذهبت مسبقًا، أنا خائف، ولكني أخاف بالأكثر من أن يكتشف استيقاظي.


اقرأ أيضًا: وأخيرًا سأعيش ربيع الأمهات


بقيت متنبهًا إلى أن بللت سريري، بكيت لأول مرةٍ من تسعة شهور، حبست دموعي ولكنها انفجرت اليوم، بكيت سرًا وخشيت من الانتحاب فيسمعني. فتح الباب بقوة لدرجة أني شعرت بأن المقبض خُلِع من مكانه. اقترب مني ثم جلس جانب السرير، ظهره أعطاه لي، وأخذ يبكي، يبكي وينشج كالأطفال، ثم وقف وتأملني طويلًا وغادر. في الصباح، حين استيقظت، لم أجده ولكني وجدت ورقةً نقديةً هذه المرة، جلست في سريري أفكر بما حصل أمس، أيُ شخصٍ هو، هل أخبر أمي بما حصل، لا أعلم!

عزفت عن الفكرة وأخبرتها أن كل شيء سار بشكل طبيعي، نظرت في عيني مشككة، كيف لا وهو زوجها الذي عاشت معه عمرًا طويلًا. أصبحت في الثانية عشر من عمري، مرت سنتان على انفصال أمي عن المنزل، أصبحت هزيلًا شاحب اللون، أجمع مصروفي الذي يعطيني إياه أبي والذي تدسه لي أمي بالخفاء في حصالة.

حين دلفت من بوابة المدرسة الكبيرة الزرقاء، رأيت أمي تركض نحوي، عيناها منتفختان من كثرة البكاء والسهر، تقبلني وتبكي وتتفحص جسدي، وتسألني إن أصابني مكروه. تفرستُ في وجهها، هل أخبرها، لربما ستعود وتسامح أبي، وهو سيصبح أفضل، لن يعنفنا، لقد شعر بقيمتها وبغيابها، ولربما سيعود لضربها مجددًا، قد تموت، سمعت جدي يقول: لن أدعه يقتلك، ستموتين تحت يديه يومًا أنت وهذا الصغير.

عزفت عن الفكرة وأخبرتها أن كل شيء سار بشكل طبيعي، نظرت في عيني مشككة، كيف لا وهو زوجها الذي عاشت معه عمرًا طويلًا. أصبحت في الثانية عشر من عمري، مرت سنتان على انفصال أمي عن المنزل، أصبحت هزيلًا شاحب اللون، أجمع مصروفي الذي يعطيني إياه أبي والذي تدسه لي أمي بالخفاء في حصالة؛ لكي أهرب به، ما زال أمامي وقت طويل كي أستطيع الاختيار بين والديّ، كم هو غبي ذاك القاضي، ألم يرَ الإجابة في عيني، كيف يهفو قلبي لأمي ولقلبها الذي يحلم بالاجتماع.


اقرأ أيضًا: مسك: أين حبيبتيكِ؟


في المساء، وكعادتي، دلفت لسريري مسرعًا، حين سمعت صوت هدير محرك سيارة أبي، لقد عاد، ولكنه لم يتوجه لغرفته أو للمطبخ، بل دخل غرفتي واقتحم سريري وتمدد بجانبي، يداعب خصلات شعري المبللة بالعرق، يطالع صور زواجه من أمي. صورنا حين كنت طفلًا صغيرًا، أذكر أنه كان يصطحبنا للمصور كي يلتقط لنا الصور. أجلس في حضن أمي، ويضع هو يده على كتفها بقوة ويبتسم من تحت شاربه الكث، بينما تنظر لي أمي ونبتسم معًا، وكأنه كومبارس أو إضافة غير مهمةٍ في الصورة، هكذا كنت أشعر.

تجمد الدم في عروقي وتوقفت الدنيا، هل أبكي أم أضحك! بقيت هكذا أخاف أن تكون إشاعة متداولة أطلقتها الألسنة الرخوة، ولكنها كانت حقيقة، حقيقة لدرجة الوجوم، بقيت صامتًا، لا أتحدث سوى بالقليل، أرتاد المدرسة الجديدة الخاصة بأبناء الأغنياء، ألحقني بها جدي، كنت غريبًا تمامًا.

في الصباح حين استيقظت، وجدت عشر ورقاتٍ نقدية بجانب سريري، يبدو أنه نسيها، لن آخذ منها شيئًا، لربما يضربني حين يعود حتى أني استكملت المبلغ الذي يوصلني للمدينة الأخرى، يكفيني حتى أجد عملًا أعتاش منه. وبينما كنت أستعد للمدرسة، سمعت صوت المفتاح بالباب، يبدو أنه عاد. لقد تذكر أوراقه النقدية، لكنها كانت أمي، أمي وجدي. تحتضنني أمي وتلفني بذراعيها وتبكي، لم عدتِ يا أمي، أسألها! هيا غادري بسرعة قبل أن يأتي، تقول بصوت متحشرج مختنق: والدك غادرنا، غادر الدنيا أمس بحادث غير مرئي.

تجمد الدم في عروقي وتوقفت الدنيا، هل أبكي أم أضحك! بقيت هكذا أخاف أن تكون إشاعة متداولة أطلقتها الألسنة الرخوة، ولكنها كانت حقيقة، حقيقة لدرجة الوجوم، بقيت صامتًا، لا أتحدث سوى بالقليل، أرتاد المدرسة الجديدة الخاصة بأبناء الأغنياء، ألحقني بها جدي، كنت غريبًا تمامًا، ليس عن الناس أو البيئة الجديدة، بل عن نفسي، متغرب أنا وهزيل، وصامت إلى أن تنمر علي طفلٌ سمين أحمق: ستغذيك أمك فلا تقلق، سمعت أن والدك كان فقيرًا ومريضًا.

هنا تحركت كل أعضائي، استنفرت يداي وقدماي، وتلقيت الأوامر، تلقائيًا. وجدتني أضرب وأشتم وأركل، أفعل كما يفعل أبي تمامًا، بل أسحله من شعره الطويل رغم حجمه وحجمي، خرجت مني قوةٌ لا أملك لها تفسيرًا. في مكتب المدير وجدت أمي جالسةً على الكرسي، بقيت واقفًا بجانبها، الشرر يتطاير من عيني، أريد الهجوم على السمين مجددًا كي أذبحه، أذبحه وأقدمه قربانًا لروح أبي! _ لم فعلت هذا يا صغيري؟ - لأنه وحش، تقول أم السمين.

أنظر لوقع الكلمة على أمي، فتنفعل بهدوء كعادتها، فيفرّق المدير ما بيننا وتخرج المرأة وخلفها السمين يبكي ويمسح دموعه. انتابني الضحك حينها، أخذت أضحك بصوتٍ عال، ثم انفجرت الدموع من محجريها، أبكي وأضحك بشكل هستيري، قفزت أمي من كرسيها والمدير خلفها، ما الذي حصل لك؟! تهزني أمي بشدة.

_ أمي، قبل سنة من الآن، في إحدى المرات التي حاول فيها أبي استرجاعك، جلس يبكي وينتحب بعدما رفضته وجدي، قبلني وشمني، ولعب بخصلات شعري، لم يضربني بعدها أبدًا، أعطاني النقود واشترى لي الألعاب والملابس، أنا آسف يا أمي، لقد خنت أبي، لربما لو أخبرتك، لكان الآن على قيد الحياة، لم يكن ليموت يا أمي، لقد كان مريضًا يحتاجنا، و لكني خفت أن يقتلك في إحدى نوبات غضبه. كنت خائفًا، أنا آسف. وهنا، خرج المدير وأغلق الباب خلفه، وانهرنا نحن بالبكاء.