بنفسج

علمني أبي.. من سيرة شيخي رياض الكفاوين

السبت 28 مايو

بدايةً، كأي فردٍ من أيّ عائلة، لم أكن أشعرُ أنّ ما أتلقّاه من والدَيّ شيءٌ مميز أو مختلف عن باقِي البشر، حتى كبرتُ وابتعدتُ عنهم وبدأتُ أخوض معترك الحياة لوحدي. صُدمتُ من كميّة المعلومات العَقَديّة التي تلقيتُها منهما، وخاصةً من والِدي رحمهُ الله. النَزاهةُ والتعفّف، والعَطفُ على الفقيرِ والصّغير، مخافةُ اللهِ واستشعارُ مراقبتِه تعالى.

صلاةُ السنّة والإسباغُ في الوضوء، الطهارة؛ وهو أوسع بابٍ أدخلنا منه أبي قولًا وفعلًا. والكثير الكثير من الأمور والمواضيع التي تلقيناها مجانًا من دون مقابل، بحكم أننا وُلِدنا أبناءَ شيخٍ جليل، درسَ الشريعة الإسلاميةَ -حُبًا لا مُجبرًا- في الجامعة الأردنية، وتخرّج على أيدي مجموعة من العلماء الأجلاّء.

| القيمة الأولى "الطهارة"

لا زلتُ أذكر تلك الهيئةَ، وذلك الجسد الذي قاوم لآخر لحظة حتى يقوم بأداءِ الوضوء للصلاة على أكمل وجه! "والله يا بنتي الحمد لله أحسن بس مش قادر أطوّل بالوضوء وآخذ راحتي"، كانت هذه آخر مكالمة لي معه قبل أن يدخل المشفى وتزدادَ حالتَهُ سوءًا!

كان أبي المفتشَ الرسميّ على أطفالنا وأطفال من يزورنا، رغمَ حِرصنا الشديد على نظافة وطهارة المكان، إلا أنه كان دائم السؤال والاستنفار عند دخول أحد الاطفال إلى بيت الخلاء، بحيث يطلب متابعته ومراقبته وإتمام عملية الدخول والخروج من دون أي قطرة نجاسة قد تلحق بمكان خارج بيت الخلاء.

أعتقد جازمة بأن من عرفَ أبي -الشيخ رياض الكفاوين إمام سابقًا-، تذكرَ حتمًا درسَ الفقهِ الذي كان يُقدمه بعد صلاة العصْر، وكانت مواضيعُ الطهارة تأخذ حصةً وفيرة من هذا الدرس. وكأنك يا أبي حرِصت على إيصالِ جُزئيةٍ غفلَ عن قيمتها كثيرٌ من الناس! الطهارةُ هي أساسُ الدينِ الإسلاميّ، والحِرصُ عليها هو قلبُ الإيمان.

لا زلتُ أذكر تلك الهيئةَ، وذلك الجسد الذي قاوم لآخر لحظة حتى يقوم بأداءِ الوضوء للصلاة على أكمل وجه! "والله يا بنتي الحمد لله أحسن بس مش قادر أطوّل بالوضوء وآخذ راحتي"، كانت هذه آخر مكالمة لي معه قبل أن يدخل المشفى وتزدادَ حالتَهُ سوءًا في المشفى، ذكرَ لي أخي أنه كان منزعجًا جدًا لعدم قدرته على القيام بالوضوء بنفسه، حتى أنه التقط له مقطعًا وهو يتوضأ من دون وعي في آخر أيامه.

| البنات خط أحمر  ️

‎أذكر جيدًا ذلك اليوم، في تلك الغرفة أمام مكتب السكرتيرة تحديدًا. "هلأ عرفت من وين جايبة قوّة هالشخصية وهالراس!". هذا ما قالته لي نائبُ مديرة مدرستي، كنت وقتها في الثانوية.  قالت تلك الجملة بحنقٍ عليّ، وباحترامٍ وإجلالٍ لأبي الشيخ.   بالمناسبة! إن كنتم تتساءلون عن سبب وجودي ووالدي في ذلك الموقف فالجواب كالتالي؛ أبي نصيرٌ لبناته! دونما سبب أو سردٍ ممل لتلك القصة.

| في البيت سِتُّ بنات

‎أبي لا يعاقب بالضرب! أبي لا يضرب البنات تحديدًا، بل وينصرهن في الجدالات الحادة مع الإخوة الذكور. وكانت أحب اللحظات عندي، حين تنتصر إحدانا في معركتها داخل أو خارج البيت ويلقبها أبي بـ"بنت أبوها"! يا الله كم أعشق تلك الجملة وكم لها وقع قوي في قلبي.

‎في إحدى الجلسات العائلية ذكر أبي مرةً قصة السيدة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، عندما طلبت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يتولى أمور تجارتها، واسترسل بالحديث حتى وصل إلى مقطع طَلَبِها منه، عليه الصلاة والسلام، الزواج بها وهي تكبره سنًا وسبق لها الزواج مرتين قبله، وختم أبي حديثة بجملته المشهورة - حرّة ابنه حرّة-. 

| من هي الحرّة يا أبي؟ 

‎الحرّة هي الأنثى الطموحة التي تسعى لتحقيق كل أمنياتها في هذه الحياة، غيرَ آبهةٍ بقيود المجتمع الظالمة، ويرافقها في رحلتها عفافُها وحشمتها وأخلاقها الحميدة، وكما كنتَ تقول دائمًا يا أبي: "الحرّة لو وقفت بين ١٠٠ رجل ما بغويها واحد منهم".  دائمًا كنت أتعجب من تواضع أبي حين يزوّج إحدى بناته لشابٍ رضي خلقه ودينه!  ولكنني فهمت مع الوقت أنه لا يجدٌ شيئًا ماديًا يقيّم به جواهره الثمينة، وأنه يدركُ تمامًا، إن آلَ مآلُ الحياة الزوجية لطريقٍ مسدود، فلن تنفع حينها الفضة ولا الذهب لشق هذه الطريق، وأنه يدرك أيضًا أن نصره لها في أزمتها ومحاولاتها بالخلاص هو أثمن المهور. وفعلًا قالها أبي في أزمة إحدى بناته: بنتي أصدق منكم كلكم! 

| أبي يثق بالبنات! 

‎لا زلت أستحضر تلك المواقف والجدالات بينه وبين أمي حول خروج البنت في زيارة صديقتها أو للتسوق، "بطبيعة الحال أتفهم حال الأمهات، الخوف والقلق المبالغ فيه…. وسِتُّ بنات"! كانت له جملة شهيرة يقولها: "يابا خذي مصاري واشحني تلفونك واحكيلي وين رايحة". نعم، لا عجب من هذه الثقة وتلك السلاسة والبساطة بالأمور. فعلى بركة الله، وحسب مبادئ الإسلام السمحة التي تمكن المرأة وتعرف قدرها، زرع أبي أشجاره الطيبة، فثبت أصلها وامتد فرعُها حتى وصل عنان السماء.    

| أبي قلبه رقيق على البنات! 
يوم مغادرتي لبلدي وتوجهي للعيش في كندا. كانت تلك المرة الثانية في حياتي التي أرى فيها دموع والدي تنهمر على خديه بغزارة! فقد كانت أول مرة قبل سنوات طويلة حين توفي أخي.  في أول زيارة لبلدي الأردن، وثاني زيارة، وثالث زيارة. وحتى آخر لحظة معه، كنت أشعر بقلبه يرقص فرحًا بوصولي وأطفالي!

‎في المطار، يوم مغادرتي لبلدي وتوجهي للعيش في كندا. كانت تلك المرة الثانية في حياتي التي أرى فيها دموع والدي تنهمر على خديه بغزارة! فقد كانت أول مرة قبل سنوات طويلة حين توفي أخي.  في أول زيارة لبلدي الأردن، وثاني زيارة، وثالث زيارة. وحتى آخر لحظة معه، كنت أشعر بقلبه يرقص فرحًا بوصولي وأطفالي! فيسرع لأقرب مكان لشراء الحلوى المفضلة عند أولادي -كرابيج حلب-، ويقدمها لهم ساخنة مع عروض سخية أخرى من المأكولات والمشروبات والألعاب. 

في جلسة عائلية تفيض بالذكريات الحميمية، ذكر أبي مجموعة من القصص والمواقف التي جمعته بزملائه في الثانوية قبل سنواتٍ طويلة، وتحديدًا في محافظة مادبا في الأردن.  ولعلّ أبرز تلك القصص وأكثرها متعة وتشويقًا، قصته المشهورة -على الأقل بيننا- مع أستاذه المسيحيّ الديانة!  في إحدى المرّات، وبعد أن انتهى من سرد الأحداث ذاتها، مع بعض المشوقات التي تضفي نكهة مميزة ومختلفةً لقصصه في كل مرة. قرر أبي أن يأخذ قراره بالبحث عن أساتذته وزملائه! 

وبالفعل، بدأت رحلته بالانطلاق من عمّان إلى مادبا، بل إن هذه الرحلة كانت تتكرر في الشّهر عدة مرات. كان في كل مرة يصِل إلى تلك المِنْطقة يسأل المارّة، وأصحاب الدكاكين عن تفاصيلَ يمكنُ أن تساعِدَه في مهمّتِه هذه، وبالفعل! وبعد عدّة محاولاتٍ أمسك أبي طرفَ الخيط. الخيطُ الذي نسجَ أحداثًا لمْ تخطُر على بالِ أحد، ولا حتى أبي نفسه! وخلال فترةٍ وجيزة، وصلتْ معلوماتٌ تؤكدُ لأبي أن أحدَ أساتِذَته -وهو نفسُه أستاذُه المسيحي- يسكنُ في الحيّ الفُلاني، وأن حالته النفسية والجسدية ليستْ على ما يُرام! فقرر أبي أن يأخذ على عاتقه زيارته كل أسبوعٍ أو أسبوعين. 

في زياراته، والتي غالبًا ما كانت تحدُثُ يوم الاثنين تحديدًا. لا أعلم السبب حقيقةً، ولكنني بِتُّ أعشق هذا اليوم لإنه يُذكرني بأعمال الخيرِ التي كان يقوم بها أبي فيه. كان أبي دائما ما يحمل بيدهِ شيئًا محببًا لأستاذه، فاكهةً أو حلوى، أو ما شابه. وعلى الرغم من بساطةِ الزيارة، إلا أن الأستاذ كان يفرحُ فرحًا شديدًا بأبي وكأنهُ أحدُ أبنائِه.

 في أولى زيارته، وجد أبي أُستاذه وحيدًا، هزيلًا، ضعيف الذاكرة. لا يقوى على خدمةِ نفسه! يستعين بخادمةٍ تقوم بالرعاية والطهي، وتُشرف على أعمال المنزل. جلس أبي جانبًا إلى جنب مع الرجل الطاعِنِ في السن، وبدى جليًا أن الثاني لا يذكرُ الأول، ولا يجدُ سببًا مفهومًا لوجوده حتى! 

-أبي: أُستاذ! هل تذكُرُني؟ أنا تلميذك في الثانوية رياض الكفاوين، من الكَرَك.

-الأستاذ: صامت ويحدق. 

-أبي: هل تذكر -فلانًا وفلانًا- من الفَرعِ الأدبي؟ 

-الأستاذ: الصمت ذاته، مع اتساع أكبر لحدقة العين. 

ويستمر أبي بسرد مجموعة من الذكريات الجميلة والأحداث البارزة التي يُمكن لها أن تُحفّزَ خلايا دماغِ الأستاذ، وتنْثُر عنها غُبارَ السنينِ الطويلة.  ثم لا يمرُّ وقت طويلٌ على جلوسِهما، حتى تبدأ علاماتُ التذكّر تظهر على وجه الأُستاذ، فتارةً يرتفعُ حاجباه، وتارةً يتسع مدى خدّيه جرّاءَ ابتسامةٍ عريضة.  وما انفك أبي ينهي حديثه حتى انفرجتْ أساريرُ الأُستاذ وبدى أنه تذكرَ كل شيء، كل شيءٍ جميلٍ في ذاك الزمن. 

في زياراته، والتي غالبًا ما كانت تحدُثُ يوم الإثنين تحديدًا. لا أعلم السبب حقيقةً، ولكنني بِتُّ أعشق هذا اليوم لأنه يُذكرني بأعمال الخيرِ التي كان يقوم بها أبي فيه. كان أبي دائما ما يحمل بيدهِ شيئًا محببًا لأستاذه، فاكهةً أو حلوى، أو ما شابه. وعلى الرغم من بساطةِ الزيارة، إلا أن الأستاذ كان يفرحُ فرحًا شديدًا بأبي وكأنهُ أحدُ أبنائِه.

| أبي الرجل الداعي

ليسَتْ وحدها الذكريات والقصص التي كانت تأخذُ مِحوَر الحديث بينهما، فلقد أخذَ الواقع والحاضر نَصيبَه الوافرَ مِن الجَلسَاتِ الطويلةِ تِلك.  وكعادتِه، كان أبي يحمِلُ على عاتِقِهِ نشرَ الدعوةِ الإسلاميّة، ويحْرِصُ كلّ الحِرص على وصولِ المنهَجِ الإسلاميّ الصحيحِ الوارِدِ عن رسولِنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- من دونَ إفراطٍ أو تفريط! 

فكان يُمسِكُ بِطَرَف الحديث الذي يدورُ بينهما وينسُجُه بثوبِ الدعوة إلى الله الواحِد الأحد، الفردُ الصمَد، الذي لم يَلِدْ ولَمْ يولَد، ولمْ يكُن لهُ كُفُوًا أحدْ. لمْ يكُن الأُستاذ يَمَلُّ أو يتضايَقُ من حديثِ أبي عن الإسلام، فقد وَجَدَ في كلامِه حلاوَةً وطراوَة، وفي أخلاقِهِ ارتقاء. فوقع أسيرًا لأدبِهِ الجَم وحيائِهِ الواضح. وأضيف على ذلك نُقطةً مهمة، وهي التناغم الساحر الذي يَعيشُه مُسلمو ومسيحيّو هذا البلد المبارك منذ عشراتِ السنين، وخصوصًا سكان المحافظات الجنوبية، فلا هم بحاجةٍ لوسيط بينهم، ولا لرقيبٍ على حواراتهم الشائكة. 

في إحدى حواراته مع أُستاذِه، يقول أبي: أستاذي المُبجّل؛ أتعلمُ ما هي أقصرُ الطُرُقِ للطُمأنينة؟

- الأُستاذ: ما هي يا -وَليدي-؟ 

- أبي: الإيمان! الإيمانُ بالله. 

- الأُستاذ: كنتُ أعتقدُ أنني إنسانٌ مؤمن، ولكنني الآنَ وبعدَ هذه الحال لم أعُد متيقِنًا من ذلك! 

- أبي: الإيمانُ يا أُستاذي هو شعورٌ تُحِسُّ بِه في أحشائِك، وتَراهُ يَقينًا في حياتِكَ اليوميّة.

- الأُستاذ: صِف لي هذا الشعور أكثر؟ 

- أبي: الإيمان هو يقينُكَ بالله بالشفاءِ بعدَ عجزِ الأطباء عن إيجاد العلاجِ لمرضك، لأن علمَهُم بَشَرّيٌ جزوعٌ مَعْيوب! بينما عِلمُ اللهُ قد أحاطَ كلّ شيءٍ.  هو الخَوفُ وهو ذاتُهُ الأملُ والسعادة، خوفٌ من شقاءِ ما بعدَ الموتِ نتيجَةَ زلّاتِ إنسانٍ خطاءٍ ضعيف، وأملٌ وسعادةٌ بأن رحمة اللهِ وسعتْ كلّ شيء!  الإيمانُ يا أُستاذي هو استغناؤك بالخالق عن المخلوق، ولجوؤكَ لله الصمَد عند خذلان العبد لك.  الإيمانُ نورٌ يضيءُ وحشَةَ ظَلام وِحدتك. وهو طريقٌ واضحٌ كوضوحٌ شمس الظهيرة، جَليٌّ سَهلٌ لا يَضِلُّ به سائر، طريقٌ واحدٌ لا ثاني له… ولا ثالث! 


اقرأ أيضًا: كن أبًا أو لا تكون


- الأستاذ: ياه! وكأنها الجنّةُ أراها بين طيّاتِ ما تقول وتصف! أحتاجُ تلكَ الطُمأنينة وذلك الاستقرار، ولا أخفيكَ ولدي؛ لقد بدأتُ أشعرُ بأن أجلي باتَ أقربَ من المسافة التي بيننا! 

- أبي: باركَ الله في عُمُرك أستاذي الجليل. وفعلًا صدقت! تلكَ هي جنّةُ الأرض، وكلُّ إنسان يَحِقُ له التمتّعُ فيها، بل ولهُ أجر  وثواب عظيمان عند الله يوم القيامة إذا ما بقي ثابتًا راسِخةً أقدامُه فيها، ويشملُ هذا الجزاء من دخلَ فيها لاحقًا ومات على ذلك!

- الأستاذ: تقصدني أنا أليس كذلك؟ 

- أبي (مع ابتسامة خجولة): نعم، صحيح أستاذ! 

- الأستاذ: ولكنني أعبد الله وأتضرعُ إليه كلما ضاقت بي الحال، فما الفرق إن كنتُ مسلمًا أو غيرَ ذلك؟ 

- أبي: يقول الله تعالى (إنَّ الدينَ عند الله الإسلام)، ويقول رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله دخل الجنة)، فإذا أردت أن تدخل الجنّة يجب أن تقصدَ بابها الرئيس، وهو الشهادة بالله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبدهُ ورسوله، وأن تصدّق بجميع الأنبياء المرسلين عليهم السلام، وتؤمن بكتب الله وتؤمن بملائكته. 

- الأستاذ: هل هذا كُلُّ شيء؟ 

- أبي: بعدَ إيمانِ المرءِ بما ذكرتُ لك، تبدأ صحيفتُهُ عند الله باحتساب الحسنات والسيئات، كلٌّ حسب أفعاله وأخلاقه!  يقول الله تعالى في سورة النساء "لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُون نَقِيرًا". وإني لأشهدُ لك يا أُستاذي بطيب أخلاقك وحسنِ عشرتك، فأسألُ الله تعالى أن يجعلها سببًا لدخولك الجنة من غيرِ حساب، ولا سابقةِ عذاب. 

ثم ختم أبي تلك الجلسة اللطيفة بقصة جاءَت في سُنَن الترمذي: "عن عمران بن حصين قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين؛ كم تعبُدُ اليومَ إلها؟ قالَ أبي: سبعة، ستَّةٌ في الأرضِ، وواحدٌ في السماء، قال: فأيُّهم تُعِدّ لِرغْبتِك ورهبَتِك؟ قال: الذي في السَماء، قالَ: يا حصين؛ أما إنكَ لو أسلمتَ علّمتُك كلمتينِ تنفعانِك، قالَ: فلمّا أسلم حصين قال: يا رسولَ الله علّمني الكلمتينِ اللّتينِ وعدتني، فقال: قل: اللّهم ألهمِني رُشدي، وأعِذني مِن شرِّ نَفسي". بعد مُدّة وعدّةِ زياراتٍ، وحواراتٍ عَقَديّةٍ، وفي جلسةٍ مماثلةٍ للواتي قبلها. 

الأستاذ: "أشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله، وأشهدُ أنَّ مُحَمّدًا رسولُ الله، وأشهد أن عِيسى عبدُ الله ورسُوله، وكَلِمته ألقاها إلى مريم وروحٍ منه، والجَنّة حق، والنّار حق، والنبيّون حق، وأن الله يبعثُ من في القبور".

أبي: تدمعُ عيناهُ فرحًا.

بعدَ شهر، يرنُّ هاتِفُ أبي لِتُخبِره الخادمة أن أستاذَهُ قد لَفَظَ أنفاسَهُ الأخيرة… لقد مات! رَحِمَ الله أبي الشيخ رياض الكفاوين ورَحِم أستاذه وغفر لهما.