بنفسج

أوراق محب: أزمنة العيش في أروقة أمي

الأربعاء 15 مارس

تتكاثر الكلمات في صدري كأسراب العصّافير حين تتوالد تبحث عن أرض أخرى، وسماء أرحب، لست أدري أمن الحكمة أن ألجأ إلى القلم لأترجم مشاعر الحب والامتنان أم نكتفي بالتأمل وإشراقة الغد الأفضل. ما سأكتبه يصلح لأن يكون لكل زمان ومكان، ومسرحه كل بيت في كل بقعة، وشخصياته أنا وهي، أنا جزء منها هيَّ أنا المسّافرة في هذا العالم بلا جواز، فأنا فتاة أكثر من عاديّة أبحث عن الحُب المطلق أزرع شتلاته أينما رحلت وأحيّا على أمل صموده في وجه أعاصير الأيام، أما هيَّ، فهيَّ مثلنا الأعلى، هي كل شيء.

أوراق مبعثرة وفناجين قهوة فارغة، أقراص مسكّنات يا لمكتبي متى سأراك فارغًا؟ ما زال أمامي الكثير من الدروس التي لم أختمها، فالوحدة الثالثة تستغيث، والخامسة تشكو، رأسي يكاد أن ينفجر، وأزرار لوحة المفاتيح أهلكت أصابعي هذه الأيام، تعيدني لمرحلة الثانوية العامة، ومرحلة التخرج، فكلتهاهما متشابهتان والبطلة (أمي).

أذكر أنني افتتحت آخر عام دراسي بكلمة نيابة عن زميلاتي الطالبات، وعقدت فيها نيّة التوكّل على رب العالمين أن يسدد خطانا ونختمها بالفرح ويمنُّ علينا بالنجاح. اخترت أن أدرس العلوم الإنسانية لأنني لم أرغب يومًا أن أكون مهندسة، فاخترت الطريق الأفضل والأسهل والأكثر شغفًا. منذ بداية العام وضعت خطة للدراسة، وآمنت بإنني سأحقق ما أريد، كنت أرى الفرح بملامحي ودعائي ومرت الأيام واختتمت الفصل الأول، ومنَّ الله علي أن أكون الأولى على الشعبتين، واخترت أن ألقي كلمة الأوائل.

كانت الكلمة الأخيرة لي في المدرسة، وآخر مرة سأمسك بها ميكرفون الإذاعة وأقول: زميلاتي الطالبات معلماتي المحترمات أسعدتم صباحًا. في هذه اللحظات تحديدًا كنت أقدم الكلمة وكلّي فرح بما وصلت إليه. أنصح زميلاتي تارة، وأودع جدران المدرسة تارة أخرى، وأنطق باسم أمي، أمي العظيمة أمي الملهمة، أمي الرائعة، إن سألها أحد كم لديك أبناء؟ كانت تردد دومًا ست زهرات وشبليَن. في خبرة الحياة، ما أطعمتني سوى سمكة واحدة، لكنها علمتني القنص والصّيد. في نوائب الدهر، ما فكّت لي سوى قّيد واحد وعلّمتني كيف أفك القيد.

أذكر إنني طلبت منها يومًا ما أن تكتب لي تعبير عن حقوق الطفل، كنت في الرابعة عشر من عمري وردت قائلة (انحتي في الصخر وما تطلبي مني أكتب حرف)، ومن يومها للآن وأنا أحب الجبال وأهوى الصّخور وأستقبل الصّعاب حتى غدوت كاتبة صغيرة ودودة كتب.

أمضيت ما يقارب السبع سنوات متواصلة وأنا منسقة الإذاعة المدرسية، كنتُ أرتب الكلمات، أصنع رونق للإذاعة، ما استطعت حتى أتقنت فن أسميته فن كتابة المقدمات الإذاعيّة كنت أحب الإذاعة، أحب ذاك الشغف الذي غرسته أمي بداخلي. أذكر إنني طلبت منها يومًا ما أن تكتب لي تعبير عن حقوق الطفل، كنت في الرابعة عشر من عمري وردت قائلة (انحتي في الصخر وما تطلبي مني أكتب حرف)، ومن يومها للآن وأنا أحب الجبال وأهوى الصّخور وأستقبل الصّعاب حتى غدوت كاتبة صغيرة ودودة كتب. كانت أمي دومًا تجمع المجلات وتلتقط الصّحف التي يتشريها أبي يوميًا، ترتبها، وتطلب منا الاحتفاظ فيها كانت دومًا تقول (بتلزمكم بكرا) بواجب بمجلة بموضوع حتى غدا مكتبي ممتلئًا بصحف تعود لعشرة سنوات مضت وأكثر!

ضف على ذلك إنني في الأيام المفتوحة بالمدرسة كنتُ عريفة الحفل أتزين بالثوب الفلسطيني وأتجّمل بالكوفيّة، أرتب كلماتي لأبدأ الحفل، والكل يعلم، أنَّ بكل مدرسة مجلس للأمهات يتم تأسيسه منذ بداية العام ويضع مجموعة من الخطط للنهوض بالمدرسة، دخلته أمي ما يقارب الخمسة عشر عامًا، وهي عضوة في مجلس الأمهات، تحضّر كافة اجتماعاته، وتبدي رأيها، وتضع خططًا لنهضته.

كيف لا، وهي كانت مديرة لروضة أسستها وعلّمت منها أجيالًا، وغرست حب التعليم بنفوس أبناء البلدة، وتتلمذ على يدها أجيال ويحين الوقت لكلمة مجلس الأمهات، أتعلمون ماذا يعني أن تقدّم الطالبة أمها؟ أجربتم الشعور؟ كتبت يومًا ما تهنئة لشجيرات نمت فأنبتت زهورًا ورياحين تهنئة لجذور روت، فأنتجت حبًا وكرامة تهنئة لأبناء المستقبل نتائج تدل على تربية جيدة أترككم الآن مع كلمة مجلس الأمهات تقدمها أمي العظيمة.

أمّي وقت الغضب، وهي تغضب قليلًا تردد (ما في إداراة ما في اقتصاد) وأرد علّيها مازحًا سأتخرج من ذات الكلية، فنضحك سويًا، بمناقشة تخرجي كانت أمي الوحيدة التي حضرت وكانت جيش بأكمله، جلست بالصفوف الأولى، لم يبتسم لي أحد مثلما ابتسمت، ولم يصّفق لي أحد مثلما صفّقت

ولا أخفيكم أن كلمة أمي كانت تلاقي إعجاب الحاضرين، وأنها لوحدها من تكتب كلمتها ولوحدها تصنع الإنجاز، نظرات الفخر المتبادلة بينني وبينها، ولم أجد متعة في تكريم الأوائل كمتعة أن تكرّمني أمي وتسّلمني الشهادة بيدها، هذا يعني كثيرًا، وكأننا تقاسمنا النجاح معًا، وكأننا درسنا معًا، وفرحنا معًا، وانتهىت مرحلة الثانوية العامة، وقٌدّر لي بفضل الله أن أكون الأولى على مدارس البلدة بفضل الله، وبفضل دعائها، وتقاسمنا الفرح مرة أخرى، وخصّصت كلمتي جزء لها.

وأّمي كسائر الأمهات تحب أن ترانا متفوقين، لكنها لم توبّخ أحدًا منا، وإن فشلنا كانت دومًا سّباقة لتعلّمنا أنَّ الفشل هو بوصلة النجاح. علّمتنا الّصبر القّوة التحّدي، وما عجزت عنه كل التخصصات، أمضت حياتها، وما زالت، في سلّك التعليم وتسميع الاختبارات، وخلق فرص ذكية للتعلّيم؛ فكانت تقول لي دومًا إن أردتي حفظ شيء فعليك ربطه بشيء آخر، فمثلًا لتحفظي باب حطة في القدس، عليك استذكار حطة جدّك، ومن يومها وهذه المعلومة حاضرة في كل الاختبارات.

أمّي وقت الغضب، وهي تغضب قليلًا تردد (ما في إداراة ما في اقتصاد) وأرد علّيها مازحًا سأتخرج من ذات الكلية، فنضحك سويًا حتى غدوت أُدير مَكتبي أيضًا، بمناقشة تخرجي كانت أمي الوحيدة التي حضرت وكانت جيش بأكمله، جلست بالصفوف الأولى، ورتبّت القاعة بيديها، وصنعت المعمول والقهوة، لم يبتسم لي أحد مثلما ابتسمت، ولم يصّفق لي أحد مثلما صفّقت. حبّات المعمول التي صنعتها عسلًا، والقهوة لها مذاق آخر أمي ليست هاوية بالطعام الغربي، لكنّها إن عزمت على فعل شيء أتقنته ريحة الطعام من ريحها وينبغي على المطاعم أن تتلّمذ من يديّ الأمهات.

لم تكن أمي عشوائية كانت وما زالت منظمة بكل شيء بمنزلها بكلامها بأولوياتها بأناقتها بكل شيء، تستصعب أن تدخل خيط الغزل في الإبرة، لكنّها تغزل الدعاء لنا نورًا ينساب بأيامنا ويضيئ وجوهنا. توقظنا على منبهّها الخاص، وبكاسة الشّاي الدافئة، وقطعة الكعك بيد ويدها الأخرى تحمل مصحفها منهجًا للحياة ونور الأيام، آخر من تجلس على المائدة فتسأل ناقصكم شيء؟ قرابة العشر مرات تراها تسكب لذاك وتضع المزيد لذاك حتى ننهي أكلنا وهي ما زالت تنظر بماذا نأكل وهل شبعنا؟

لا خروج إلّا وتكون سبّاقة على الشبابيك، تودعنا حتى قلبها يطمئن، نصائحها لا تطرب لها أُذني أحيانًا، لكني أحتفظ بها كنوزًا في الذاكرة لآخر العمر. تطورّ الطب بشكل رهيب، لكنّه لليوم لم يقدر على تحضير دواء كدواء الأم يديها وحرصها واهتمامها أعظم دواء.