بنفسج

في يوم الأم... ماذا يقول الأبناء؟

الإثنين 29 يونيو

في يوم الأم، طلبت "بنفسج" من ضيوفها طلبًا سهلًا في ظاهره، معقّدًا في حقيقته، هو باختصار: "نريد كلمةً منك عن أمّك"، التفكير في مضمون تلك الكلمة، واختيار مفرداتها، وغمسها بالمشاعر، أمورٌ أعجزت بعض من طرقنا بابهم، فاعتذروا عن الإجابة، جرّبنا كثيرًا لنجد من يفتح قلبه لنا، فلنرى ما قاله الأبناء عن أمهاتهم في التقرير التالي.

| طلفها الذي لم يكبر بعد

أمي، أنا لم أفارقك يا أمي، حتى وأنت تفارقين الحياة، فما زلت يا أمي تعيشين معي ساعات الفرح والحزن، وما زلت بيت الحكمة الذي آوي إليه كلما لجّت أمام عيني الدنيا، وأجبرتني على تسلّق سلم الذكريات، فأشعر بالندم لعدم الاستماع إليك في كثير من القضايا العائلية والحياتية.

لقد كنت أنت على حق، وكنت أنا على باطل، وكنت أكثر مني تجربة وحكمة. اعترف لك بذلك يا أمي، وأشهد أنني ما زلت بحاجة إلى تقبيل يديك وفاء. وبحاجة لأن أُلقي برأسي في حجرك، والارتواء من عطفك وحنانك ورشدك، كي أعيد التوازن لروحي.

د. فايز أبو شمالة، كاتب وناقد سياسي، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني: لم أذق طعم الحنان إلا في أحضان أمي، وظلّت أمي وسادتي الناعمة التي أهجع إليها كلما عصفت بي الأحداث، كانت تهدهد رأسي بالطمأنينة، وتهون على المصاعب، وتفتش عن حلول لمشاكلي، وكأنني طفلها الصغير الذي لم يكبر بعد، كانت تقدم لي المشورة، بل وتنتقد بعض أعمالي أمام عين أحفادي، فهي ترى أحفادي أكبر مني، وتراني ما زلت صغيرها الذي تخبئ له الأشياء لتدخل الفرح إلى قلبه.

أمي، أنا لم أفارقك يا أمي، حتى وأنت تفارقين الحياة، فما زلت يا أمي تعيشين معي ساعات الفرح والحزن، وما زلت بيت الحكمة الذي آوي إليه كلما لجّت أمام عيني الدنيا، وأجبرتني على تسلّق سلم الذكريات، فأشعر بالندم لعدم الاستماع إليك في كثير من القضايا العائلية والحياتية، لقد كنت أنت على حق، وكنت أنا على باطل، وكنت أكثر مني تجربة وحكمة، اعترف لك بذلك يا أمي، وأشهد أنني ما زلت بحاجة إلى تقبيل يديك وفاءً، وبحاجة لأن أُلقي برأسي في حجرك، والارتواء من عطفك وحنانك ورشدك، كي أعيد التوازن لروحي التي ما عرفت مقدارها إلا في ميزان مشاعرك الذي فصل النصيحة على مقياس مصلحتي.

عند أول لقاء خلف الأسوار، وأنا أنظر في عيني أمي كي أرى نفسي، قالت لي بندم شديد: لقد تفاجأت بالجنود الإسرائيليين فوق رأسي، لقد قفزوا من فوق السور، وجمعونا في غرفة واحدة، ومنعونا من الحركة، ولم أتمكن يا ولدي من إشعال المصباح الخارجي كما طلبت مني!

أتذكرين يا أمي، قبل سنين طويلة، حين أوصيتك بإشعال المصباح الكهربائي الخارجي في حالة اقتحام الجيش الإسرائيلي لبيتنا، كان إشعال المصباح الخارجي هو الإشارة بيننا؛ كي أعرف أن الجنود الإسرائيليين قد دخلوا بيتنا، وكي آخذ حذري، فقد كنت أخشى الاعتقال المفاجئ، وما كنت أرجع إلى البيت في كل ليلة إلا مع الفجر.

وفي ليلة من ليالي الاحتلال لقطاع غزة، شاهدت الجنود الإسرائيليين يحاصرون مخيمنا، كان الجنود يلفون المكان بحذر وهدوء، وكانوا يناورون بالحركة، وقد أوحوا لي بالانسحاب من المكان، في تلك الليلة وقفت حائرًا بين العودة إلى البيت أو الاختفاء، فكان المصباح الكهربائي هو الجواب، المصباح لم يشتعل، قلت في نفسي: أمي لم تشعل المصباح الخارجي، لو كان البيت غير آمنٍ، لأبرقت لي أمي بالخطر، وأشعلت المصباح!

ومع الفجر، دخلت البيت آمنًا مطمئنًا، فأمي لم تشعل المصباح، وكانت المفاجأة، لقد كمن لي الجنود الإسرائيليون في الزقاق، وفي كل زاوية من البيت، وكان الاعتقال، وكان التعذيب، وكان الحكم العسكري الإسرائيلي لمدة 18 عامًا. وعند أول لقاء خلف الأسوار، وأنا أنظر في عيني أمي كي أرى نفسي، قالت لي بندم شديد: لقد تفاجأت بالجنود الإسرائيليين فوق رأسي، لقد قفزوا من فوق السور، وجمعونا في غرفة واحدة، ومنعونا من الحركة، ولم أتمكن يا ولدي من إشعال المصباح الخارجي كما طلبت مني! رحم الله أمي.

| أبعد كل هذا نحصُّ يومًا؟

أي عيدٍ لمن نزل عليها طنٌّ من المتفجرات وهي ساجدة! لقد دمّر القصف بيوتنا السبعة في حرب 2008، فاقت مرارة فقد الحفيد، حيث استشهد ابني.

أمّا هي فنجت بفضل الله، وعاشت معها النخلة التي ظلّت باسقة بجوار الركام بعدما صمدت أمام ثلاث غارات من طائرات "F16"... نعم، رمزية نجاتها مع النخلة لا يمكن إغفالها.

د. سليمان بركة، عالم فلك فلسطيني، مدير مركز أبحاث علوم الفضاء والفلك بجامعة الأقصى: أي عيدٍ يكفي لنقول كل عام وأنت بخير يا حاجة أم سليمان!.. كل لحظة نعيشها بوعي وبغير وعي، بعد شكر الله، يأتي بعدها شكر الأم وعيدها أي عيدٍ يفي حقّ من أنجبت 16 بطنًا، ومنحت كل أبنائها نفس القدر من الرعاية والحماية والوقاية!      

أي عيدٍ لمن تركها زوجها وعمرها 42 عامًا، وتحت مسؤوليتها ستة من الذكور وثمانية من الإناث، بعد أن توفيت طفلتين في عمر مبكر! تعلّم 13 منهم، ثمانية طرقوا باب الدراسات العليا، وبعضهم تدرج فيها حتى الدكتوراة. أي عيدٍ لمن زارت خمسة من أولادها في سجون الاحتلال، وثلاثة في سجون العرب كمناضلين! أي عيدٍ يكفي لمن أُصيبت وكُسرت رجلها وأُطقت النار عليها وضُربت من جنود الاحتلال.

أي عيدٍ يكفي لمن تعددت صور نضالها وثباتها وصبرها، يكفي أنها هي التي ربّت ورعت الشهيد العابد العامل العالم الزاهد صفي المجاهدين الحافظ المحفظ الشيخ نور الدين محمد سلامة بركة.

أي عيدٍ لمن نزل عليها طنٌّ من المتفجرات وهي ساجدة! لقد دمّر القصف بيوتنا السبعة في حرب 2008، فاقت مرارة فقد الحفيد، حيث استشهد ابني، أمّا هي فنجت بفضل الله، وعاشت معها النخلة التي ظلّت باسقة بجوار الركام بعدما صمدت أمام ثلاث غارات من طائرات "F16"... نعم، رمزية نجاتها مع النخلة لا يمكن إغفالها.

أي عيدٍ يكفي لمن تعددت صور نضالها وثباتها وصبرها، يكفي أنها هي التي ربّت ورعت الشهيد العابد العامل العالم الزاهد صفي المجاهدين الحافظ المحفظ الشيخ نور الدين محمد سلامة بركة. فعيب لمثلها، ومثلها كثيرات في فلسطين، أن نخصَّ يومًا نقول لها فيه عيدك سعيد.

| تجعلني معلمها... إنه نكران الذات

تنكر نفسها وتجعلني معلمها، كما قالت لي مرّة في المحكمة العسكرية "أنا يمّا تعلّمت منك الصبر، وهذه طريق أنت اخترتها وبدك تتحمل نتيجة خيارك"، ما قالته عن تعليمي إيّاها الصبر عكس الحقيقة تمامًا، ولكنه الفناء ونكران الذات الذي يغور في الحكمة العميقة.

والدتي وقد ضاع كتاب جلبته لي أثناء زيارة في الاعتقال، قالت لي معتذرة: "كتبك يمّا زيّ أولادي"، وقالت لي في أوّل اعتقال وأنا على عتبة البيت مقودًا إلى سيارة الاعتقال "تخفش يمّا هذول بخوفوش". يكفينا منها ذاك، والحمد الذي لا يغادر لسانها، معرفةً تحملني في هذه الحياة العابرة.

د. ساري عرابي، كاتب وباحث مهتم بالفكر الإسلامي:  يمكنني القول إنّ والدتي، حفظها الله، هي صاحبة الدور الأعمق في تشكيل شخصيتي، وذلك لنشأتي يتيم الأب منذ طفولتي، وقد أحاطتني العناية الإلهية بعاطفة أمومة نبيلة مجبولة بالتقوى والبصيرة والحكمة.

من والدتي تعلمت القراءة والكتابة، والوضوء والصلاة وحفظ شيء من القرآن، قبل دخولي المدرسة، فلم يكن من نصيبنا في زمني ذاك دخول الروضة. ومن والدتي اكتسبت التسامح، والإحساس بالآخرين، ومقت الظلم، والإنصاف من النفس. لم أبلغ درجتها ولكني أتعلّم ذلك منها. الأهمّ من ذلك، دروس الرضا، والصبر، التي تسوّرني بها منذ نشأتي، وتطبّب جراحي بها، لا فيما عانيته من اعتقالات فحسب، بل في جملة أحوالي المشبّعة بالتعب في هذه الحياة.

ومع ذلك، تنكر نفسها وتجعلني معلمها، كما قالت لي مرّة في المحكمة العسكرية "أنا يمّا تعلّمت منك الصبر، وهذه طريق أنت اخترتها وبدك تتحمل نتيجة خيارك"، ما قالته عن تعليمي إيّاها الصبر عكس الحقيقة تمامًا، ولكنه الفناء ونكران الذات الذي يغور في الحكمة العميقة.

والدتي وقد ضاع كتاب جلبته لي أثناء زيارة في الاعتقال، قالت لي معتذرة: "كتبك يمّا زيّ أولادي"، وقالت لي في أوّل اعتقال وأنا على عتبة البيت مقودًا إلى سيارة الاعتقال "تخفش يمّا هذول بخوفوش".. يكفينا منها ذاك، والحمد الذي لا يغادر لسانها، معرفةً تحملني في هذه الحياة العابرة.

| شمس معرفتي ذات الدعاء الساحر

"لوّلا كَتِفُ أُمي وأَبي ما أكملتُ الطريق"... كلما خطوت في هذا العالم المجهول كي أنظر ما جهلت منه وجدت أمي تسندي. منها عرفت المثل الشعبي وكانت أول من أسمعني الحكايات والقصص في صغري، فرضعت حب التراث والتعلق به منها وأنا طفل، فلما كبرت بقي أثر ذلك في ثقافتي، كانت أول طريقي إلى ما أنا عليه.
 
 تزيدني معرفة بما تعرف، وبما تتذكر مما عاشته أو سمعته من أمها وجدتها رحمهما الله. فكانت شمس معرفتي. وحتى اليوم تشرق الدنيا بوجهي من وجهها، ويحفظني الله ببركة رضاها ودعائها، فلله الحمد على بقاء أمي، ورحم الله أبي.

حمزة العقرباوي، حكواتي ومهتم بجمع الموروث الشعبي: "لوّلا كَتِفُ أُمي وأَبي ما أكملتُ الطريق"... كلما خطوت في هذا العالم المجهول كي أنظر ما جهلت منه وجدت أمي تسندي، تربت على كتفي، أو رافعةً كفيها تدعو لي. وإذا ما عدت إليها متعبًا، أجلستني في حجرها، وراحت تمسدني وتتم بأدعيتها التي تُحدث فيّ فعل السحر، فأقوم ناسيًا التعب، متجدد الهمة. أمي من حاكت ما أنا عليه، ومن دفعني لأكون حيث أقف الآن.. ولكلماتها أثر في كل طريق عبرته نحو ذاتي ونحو ما أريد.

منها عرفت المثل الشعبي وكانت أول من أسمعني الحكايات والقصص في صغري، فرضعت حب التراث والتعلق به منها وأنا طفل، فلما كبرت بقي أثر ذلك في ثقافتي، كانت أول طريقي إلى ما أنا عليه، ولم تزل رفيق وعيي بالتراث، تزيدني معرفة بما تعرف، وبما تتذكر مما عاشته أو سمعته من أمها وجدتها رحمهما الله، فكانت شمس معرفتي. وحتى اليوم تشرق الدنيا بوجهي من وجهها، ويحفظني الله ببركة رضاها ودعائها، فلله الحمد على بقاء أمي، ورحم الله أبي.

| هي كلُّ شيء... هي "جميلة"

كم أنا محظوظ! حصلت على اهتمام الأم برضيعها مرتين، المرة الأولى لا غرابة فيها، فهي بعد ولادتي، والثانية كنت فيها بعمر الستة عشر، عندما أُصبت، على الحدود، برصاصةٍ اخترقت صدري ووصلت العمود الفقري، فأصابتني بشلل في الأطراف السفلية.

تلك الإصابة أعادتني إلى حضن أمي، لتقوم على رعايتي كطفلٍ في سنوات عمره الأولى، وفي ذات الوقت، تربيني كشابٍ يجب أن يعيش حياته بأفضل صورها دون أن يأبه بإصابته. وحتى اليوم، أنا طفل أمي المدلل الذي لا يُرد له طلب، إصابتي جعلت علاقتنا مميزة بشكل لا يُوصف.

ظريف الغرة، ناشط مجتمعي متهم بقضايا الجرحى وذوي الإعاقة:  كم أنا محظوظ! حصلت على اهتمام الأم برضيعها مرتين، المرة الأولى لا غرابة فيها، فهي بعد ولادتي، والثانية كنت فيها بعمر الستة عشر، عندما أُصبت، على الحدود، برصاصةٍ اخترقت صدري ووصلت العمود الفقري، فأصابتني بشلل في الأطراف السفلية.

تلك الإصابة أعادتني إلى حضن أمي، لتقوم على رعايتي كطفلٍ في سنوات عمره الأولى، وفي ذات الوقت، تربيني كشابٍ يجب أن يعيش حياته بأفضل صورها دون أن يأبه بإصابته، وحتى اليوم، أنا طفل أمي المدلل الذي لا يُرد له طلب، إصابتي جعلت علاقتنا مميزة بشكل لا يُوصف. بينما تستعد أمي لحفل زفاف ابنها البكر بعد يومين اثنين فقط، وصلها نبأ إصابتي، نبأ قضى على كل أجواء الفرح في البيت، لكنه لم ينَل من ثبات أمي وصبرها، فلم أرَ دمعة في عينيها، تماسكها العجيب هذا، مدّني بقوّة رهيبة.

كانت تجلس إلى جواري تمسح على رأسي، تقرأ القرآن، وتوصيني بذكر الله، وتخفف عني بكل السبل، حتى سافرت للعلاج، ويال صعوبة السفر دونها. عندما عدّت من رحلة العلاج، كانت تعتني بكل شؤوني، ولم تكن نفسيتي بعيدة عن اهتماماتها، فقد كانت شديدة الحرص على معنوياتي وانخراطي في الحياة وتفوقي الدراسي، وهذا لم يتغير حتى بعدما صرت زوجًا وأبًا.

من يصدق أن رجلًا يفقد طعم النوم لأكثر من شهرين لأنه استقل في بيتٍ يبعد قليلًا عن بيت أمه! هذا أنا، عندما اضطررت للخروج مع أسرتي الصغيرة في بيت خاص، طبعًا دموع أمي انهمرت لأشهر عديدة في ذلك الوقت، حتى أنها كانت تقسّم وقتها بين بيتي وبيتها.

حينها، أخذت تردد لي الأغنية التراثية: "يا ظريف الطول وقّف تقولك، رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك"، انتقت الأغنية لتناسبها مع اسمي ومع موقف خروجي من البيت، وما تزال تغنيها لي... يا الله، كم تجرحني تلك الكلمات، فأنا لا أحتمل حزن أمي، لكن مساحة البيت الضيقة أجبرتني.

البعد لم يأخذ من تعلّقي بها شيئًا، فحتى اليوم، إذا مرضت، ولو كان المرض نزلة بردٍ خفيفة، أبكي ولا يسكتني سوى حضن أمي، تأتي مسرعة لبيتي، أضع رأسي على رجلها لتمسّد شعري، فيهدأ ألمي. أمي هي العشق، والحب، والروح، والنفس، والأم والأب، والحياة، والسعادة، أمي لا تُوصف... اسمها "جميلة" وهي كذلك فعلًا، أسميت ابنتي البكر باسمها، وليتني أستطيع أن أكرره لبناتي الثلاث ليكنّ جميلات كجدتهن.

| عالمي... ملاذي... بئر أسراري

كل عمل أُنتجه، يجب أن تكون أمي من أول الأشخاص الذين يسمعونه، ولأنها تتمتع بأذن فنية جميلة، تنتقد ما لا يعجبها، وتكون محقّة في نقدها. تحب أن تسمعني، خاصة في المديح والابتهالات التي تكثر فيها المناجاة، وبالذات التي تكون بطابع مصري. تعطيني القوة والعزيمة لأواصل مسيرتي في الفن، تهتم بشدة بحضور حفلاتي ولو كانت في محافظة أخرى.

 وأثناء مشاركتي في مسابقة منشد الشارقة كانت تتابع كل تحركاتي، ولما حصلت على المركز الثاني بكت لقناعتها باستحقاقي المركز الأول، يكفيني أن أكون الأول في نظر أمي.

عبد المجيد عريقات، منشد، الفائز بالمركز الثاني في "منشد الشارقة 2019":  بعد الله، كان فضل أمي، أو بالأحرى أفضالها اللامحدودة، هي التي ربّتني وإخوتي في أجواء الالتزام، كانت مهتمة بتعلّقنا بالمساجد، عوّدتنا على صلاة الجماعة، كانت شديدة الحرص على أخلاقنا، بذلت جهدها لتغرس فينا صفات؛ كالنخوة والصبر واحترام الناس.

عندما نويتُ إتمام حفظ القرآن الكريم وأنا في الصف الأول الإعدادي، اشترت لي "أشرطة كاسيت" لتسجيلات للقرآن الكريم لقرّاء أحبّ أصواتهم، وكانت تجهّز لي وصفات تساعد على تقوية الذاكرة والحفظ، مثل المكسرات المحمصة والعسل، وكانت تكرّمني بجائزة بعد كل جزءٍ أنهي حفظه.

إعجابها بصوتي، جعلها تشجعني على الإنشاد، لكنها لم تكن تنسى أن توصيني بتقوى الله في هذه الموهبة، وتذكّرني بأنها أمانة وهبني الله إياها لأستخدمها في الدعوة إليه تعالى. كل عمل أُنتجه، يجب أن تكون أمي من أول الأشخاص الذين يسمعونه، ولأنها تتمتع بأذن فنية جميلة، تنتقد ما لا يعجبها، وتكون محقّة في نقدها.

تحب أن تسمعني، خاصة في المديح والابتهالات التي تكثر فيها المناجاة، وبالذات التي تكون بطابع مصري. تعطيني القوة والعزيمة لأواصل مسيرتي في الفن، تهتم بشدة بحضور حفلاتي ولو كانت في محافظة أخرى، وأثناء مشاركتي في مسابقة منشد الشارقة كانت تتابع كل تحركاتي، ولما حصلت على المركز الثاني بكت لقناعتها باستحقاقي المركز الأول، يكفيني أن أكون الأول في نظر أمي. هي ملاذي بعد الله، بئر أسراري، وصديقتي، هي عالمٌ خيالي، إن لم أتصل بها في كل صباح، لا يكون لنهاري طعم، وإن لم أزرها لا يكتمل يومي. يصعب الحديث عن الأم بكلمات معدودة، لذا ألجأ للفن أحيانًا، فأغني لها وعنها.