بنفسج

بيرزيت قلم على حجر: من مذكرات المربية ندى الجيوسي

الجمعة 26 اغسطس

سلام عليكن، رائدات ماجدات، و"إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيهم راحلة". فسلام على الرواحل الباقيات، ديدنهن العطاء، عطاء بلا حدود، عطاء في طريق الدعوة، وخيارهن أبناؤهن وطلابهن وما استطعن إلى كل من له حاجة سبيلًا. وي كأني بهن لا يمللن ولا يشتكين ولا يقفن تعبات...وي كأني بهن يقلن نحن الرواحل وهذا سبيلنا؛ عمل وتضحية وتربية في سبيل الله. ضيفة بنفسج لها حضور خاص، وهي من سيدات فلسطين اللواتي اتخذن دورهن في التربية والقيادة والعمل التطوعي والنشاط الاجتماعي في القرى والمدن وهيئات الجمعيات والمنظمات والمدارس والجامعات، وفي نطاق العائلة.

وهذه شهادة نسجلها للمربية، ضيفتنا اليوم، فهي من القليلات والرائدات اللواتي عرفن في ميدان العمل الطلابي، وهي شهادة من ذاكرة امرأة تروي ما عاشته وما شعرت به. وإننا نفترض أن شهادة امرأة تثبت مروية شفوية لهي أمر يحمل في جعبته خصوصية ما تسجله المرأة الفلسطينية بقلمها وذاكرتها، ويظل متوترًا للأجيال القادمة.

| ومضة على الذكريات "بيرزيت"

 
ندى جمال الجيوسي، أنهت دراستها الابتدائية والثانوية في مدينة طولكرم ثم التحقت في جامعة بيرزيت في عام 1983/1984 وتخرجت في عام 1990 نظرًا للظروف التي ألمت في الجامعة، حيث الإغلاقات المتكررة التي قام بها الاحتلال أثناء الانتفاضة الأولى. عملت في حقل التعليم في مدارس الإيمان في القدس، حيث درّست اللغة العربية، ثم اضطرت لترك التدريس بسبب عوائق الاحتلال ثانية في انتفاضة الأقصى عام 2000 وصعوبة وصول أهل الضفة إلى مدينة القدس. 
 
تقول: "كل من درس في جامعة بيرزيت يؤخذ بها وبحبها، تطبع في ذاكرته كل أماكنها وتفصيلاتها، مبانيها، وأساتذتها، ومقاومتها التي أرقت العدو، فحاول توقيفها وإجهاضها."

 تعرفنا ضيفتنا بنفسها في المقام الأول، فتقول: "ندى جمال الجيوسي، مواليد قرية كور قضاء مدينة طولكرم. أنهيت دراستي الابتدائية والثانوية في مدينة طولكرم، ثم التحقت في جامعة بيرزيت في عام 1983/1984 وتخرجت في عام 1990 نظرًا للظروف التي ألمت في الجامعة، حيث الإغلاقات المتكررة التي قام بها الاحتلال أثناء الانتفاضة الأولى. تزوجت وعندي من الأبناء والبنات تسعة. عملت في حقل التعليم في مدارس الإيمان في القدس، حيث درّست اللغة العربية، ثم اضطررت لترك التدريس بسبب عوائق الاحتلال ثانية في انتفاضة الأقصى عام 2000 وصعوبة وصول أهل الضفة إلى مدينة القدس".

كل من درس في جامعة بيرزيت يؤخذ بها وبحبها، تطبع في ذاكرته كل أماكنها وتفصيلاتها، مبانيها، وأساتذتها، ومقاومتها التي أرقت العدو، فحاول توقيفها وإجهاضها، ولكن هيهات هيهات، إذ تثبت بيرزيت وطلابها أنهم جاهزون للمجابهة، طلابًا وطالبًات، وحركة طلابية.

وتؤكد أم عبيدة في شهادتها عن جامعة بيرزيت التاريخية في فترة الثمانينات، وقد سألناها عن مرحلة الدراسة الجامعية، وندرة دراسة الفتيات في الفترات الأولى من افتتاح الجامعات، وعن نشاطها الدعوي والاجتماعي المبكر، قالت السيدة ندى: "في الوقت الذي التحقت فيه في جامعة بيرزيت لم يكن الأمر معهودًا، إلا أن إصرار والدي وشغفه في التعليم، إذ حُرم منه صغيرًا، فكان المشجع الأكبر لي والداعم، وإيمانًا منه أن الشهادة العلمية للفتاة سلاح في مواجهة الحياة. وهو ذلك المزارع البسيط العميق في فهمه -رحمة الله عليك والدي الحبيب.

1-9.jpg

أما نشاطاتي فقد بدأت من أيام المدرسة، فقد قيضّ الله لنا معلمة أذكرها بكل الخير، أخذت على عاتقها إرشادنا ونصحنا. وكان لها الأثر الكبير في التزامنا بدروس دار الحديث، وهي دروس المسجد الأسبوعية ونشاطاته. وفي بيرزيت احتضنتنا الكتلة الإسلامية، فصقلت شخصيتنا وتبلورت الفكرة بشكل أوضح وأنضج. كل هذا كان يرفده محضن أسري محافظ تهمه سوية الأخلاق واستقامة الطريق، وقبل وبعد ذلك هي رعاية الله وفضله.

بيرزيت لم تكن على الشكل الحالي، بل كانت عبارة عن حرمين جامعيين؛ الحرم القديم الموجود في بلدة بيرزيت القديمة، والحرم الجديد الذي هو الآن عبارة عن كل الجامعة. وكان الحرم القديم يشتمل على كلية الآداب وكلية التجارة، وسكن الطالبات. أمّا الحرم الجديد والذي يمثل كل الجامعة اليوم كان فيه كلية العلوم وكلية الهندسة. وكنا نضطر أحيانًا للتنقل بين الحرمين في باص خصص لهذا الأمر، حيث أن النشاطات الطلابية أكثرها كان في الحرم الجديد.

2-6.jpg

درست تخصص اللغة العربية وآدابها، كان هناك ثلة من الأساتذة والدكاترة بعضهم ما زال موجودًا حتى الآن ويواصل نشاطه التعليمي. كانت أيام جميلة رغم ما كان فيها من عوائق وصعوبات، خاصة حين تغلق الجامعة، فقد اضطررنا لتعويض الحصص والمحاضرات في أماكن شتى. نصبنا الخيام خلف كلية العلوم، عوضنا محاضرات في بيوت الأساتذة. وفي القنصلية البريطانية في القدس، وفي عمارة الميدان في رام الله، وفي قصر الحمراء أيضًا في رام الله وفي أماكن شتى.


اقرأ أيضًا: منى منصور: سيرة ممتدة لشهي.د جبل النار


لم يكن الحصول على شهادة من بيرزيت بالأمر السهل. في فترة دراستي في بيرزيت تعلمت، وواجهت، كغيري من الطلاب والطالبات، صعوبات، تحدينا، ذقنا حلاوة التغلب، ذقنا مرارة أن نرى زملاءنا شهداء أمام أعيننا. فقد استشهد صائب ذهب وقبله موسى حنفي، ومن ثم جواد أبو سلمية، وشرف الطيبي في هذه الفترة. جروح واعتقالات أمام أعيننا. تحولت الجامعة وسكن الطالبات إلى ساحة قتال؛ ففي بيرزيت تعانق الكتاب مع الحجر. وانطلق أول بيان للانتفاضة على مسمعنا من قلب بيرزيت.

| النشاط النقابي

2-7.jpg
ندى الجيوسي مع زوجها القيادي ماجد حسن وأولادهم

أما عن نشاطها النقابي في الحركة الطلابية عمومًا والحركة الإسلامية خصوصًا تقول المربية أم عبيدة: " أُسست الحركة الطلابية في بيرزيت في السبعينيات. نشاطنا في الجامعة كفتيات كتلة إسلامية تركز في توعية الفتاة المسلمة في أهمية دورها، وأنها لا بد أن يكون لها بصمة رغم كل المعيقات الموجودة حولنا في الجامعة حيث كانت في ذلك الوقت، الكتلة الإسلامية موضع اتهام بأنها تابعة للإخوان المسلمين والحرب المعلنة بين اليسار والإسلاميين.

ولم تكن فكرة الفتاة المحجبة بذلك الأمر المستساغ في جامعة في بيرزيت. فواجهت الفتاة المسلمة تحديات كبيرة، ولكنها، بفضل الله، استطاعت أن تثبت وجودها، وما الكتلة الإسلامية القوية التي رفرفرت راياتها في انتخابات بيرزيت هذه السنة إلا امتدادًا لتلك الفئة صاحبة البدايات الأولى. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وما النصر إلا من عند الله.

3-3.jpg

وعن نوعية النشاط وآلياته دعويًا ونقابيًا وثقافيًا أو خدماتيًا للطالب سألنا أم عبيدة لتجود علينا من خبراتها وتجاربها في هذا المضمار، فتقول: "تركزت نشاطاتنا في المحاضرات والندوات والدروس الدينية سواء في غرف الجامعة أو في سكنات الطالبات. ودروس في مسجد البلدة مما وسع دائرتنا الاجتماعية .وعملنا على توثيق علاقتنا مع أهالي البلدة من حيث الزيارات ودعوتهم إلى الاحتفالات في المناسبات الدينية، ومعارض الكتب والأشرطة الإسلامية. والرحلات التي كانت تجمع بين الطابع الترفيهي والمعرفي، فكان الوصول إلى الداخل المحتل مسموحًا، فوصلنا في رحلاتنا إلى حيفا وعكا ويافا وطبريا وبانياس."

وكانت هذه الرحلات من أمتع الرحلات، حيث كانت تترك في نفوسنا أثرًا يمتزج فيه السرور والحزن، فوثق ارتباطنا في هذه الأرض المسلوبة وزاد من نقمتنا على محتلٍ لئيم سلبنا أرضنا. كان تركيزنا في تلك الفترة بناء أنفسنا وإثبات وجودنا، وإبراز دعوتنا، رغم عدم توفر السبل إلى ذلك. ودخولنا إلى انتخابات مجلس الطلبة مع علمنا المسبق بعدم الفوز، إلا أننا كنا نعتبرها فرصة لإيصال فكرتنا الإسلامية من خلال الدعاية الانتخابية المسموح بها.

4-3.jpg

كانت الحركة الطلابية الفلسطينية عامة وفي بيرزيت خاصة نبض الشارع الفلسطيني، وصاحبة الشرارة الأولى، والحجر الأول، والانتفاضة الأولى، والمواجهات الأولى، فماذا تقول عنها أم عبيدة؟: "الحركة الطلابية هي من ألهبت الشارع الفلسطيني وقت الانتفاضة وكان لها الدور الكبير، وقدمت العديد من الشهداء من أبناء الحركة الطلابية، وسطرت صفحات عز في سجل وتاريخ الانتفاضة.. وما زالت على نفس الديدن فالطالب الواعي هو من يدرك تمامًا ما معنى أن تعيش في وطنٍ حر كامل الإرادة".

وكما ذكرنا فالعطاء غير المنقطع ديدنها، سواء في حقل التربية والتعليم، أو على طريق الدعوة، أو في ميدان العمل الاجتماعي والتطوعي وعن تلك المرحلة في حياتها تقول المربية: "بعد تركي القسري للتعليم وهو الرسالة المقدسة، خُضت ميدانًا جديدًا في العمل الاجتماعي إيمانًا مني أن ميادين العطاء كثيرة، فإن استحال أحدها نبحث عن غيره."

تكمل: "توجهت إلى العمل الخيري الاجتماعي في جمعية الهدى النسائية، كنت في البداية أمينة سر ثم في الدورة التي بعدها رُشحت لرئاسة الجمعية، وكان عملًا نحتسبه عند الله، كان عملنا خيريًا بحتًا تركز على رعاية الأيتام وكفالتهم ورعاية أسر الشهداء والأسرى، وتوفير فرص عمل للنساء اللواتي يعُلنَ أسرهن من خلال المعرض الفني والتطريز وقسم المنتوجات الغذائية."

| الأم المعطاءة

أم عبيدة لها تسع من الأبناء والبنات، وجميعهم يسيرون على ذات الطريق، طريق العمل والعطاء، بل نزيد على ذلك تضحيتهم، فما إن يرى أحدهم النور إلا ويعتقل آخر، وهم ينشطون في الحركة الطلابية ولا يألون جهدًا في العمل.
 
وكانت أن اعتقلت ابنتها شذى، وهي ناشطة في الحركة الطلابية. يعني أن يربوا على مخافة الله ورقابة الله، فإذا غاب الأب أو غابت الأم تكون هذه القيم هي المعيار، وأن ينزع الخوف من قلوبهم، وأن لا يرتبط السلوك بالخوف من الأب أو الأم بقدر ما يكون السؤال: هل هو في دائرة المباح شرعًا أو لا. 

أم عبيدة لها تسع من الأبناء والبنات، وجميعهم يسيرون على ذات الطريق، طريق العمل والعطاء، بل نزيد على ذلك تضحيتهم، فما إن يرى أحدهم النور إلا ويعتقل آخر، وهم ينشطون في الحركة الطلابية ولا يألون جهدًا في العمل. وكانت أن اعتقلت ابنتها شذى، وهي ناشطة في الحركة الطلابية. لله درك أيتها الأم والعاملة المربية كيف ربيتهم بنين وبنات وهل كان ثمة فرق في تربيتهم خصوصًا في ظل غياب الأب أثناء فترات اعتقاله: "بالتأكيد تربية الأبناء بشكل عام سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، تحتاج إلى جهد. وهنالك قواسم مشتركة كثيرة بينهم مثل أن ينشؤوا على قيم ومُثل لا تفريق فيها بين الجنسين أولها: الصدق، الأمانة، الحياء، الاحترام، وأن يكون ميزان الأشياء هل هذا يرضى الله؟ أم يسخط الله؟

يعني أن يربوا على مخافة الله ورقابة الله، فإذا غاب الأب أو غابت الأم تكون هذه القيم هي المعيار، وأن ينزع الخوف من قلوبهم، وأن لا يرتبط السلوك بالخوف من الأب أو الأم بقدر ما يكون السؤال: هل هو في دائرة المباح شرعًا أو لا. فنحن نغرس في التربية قيمًا في نفوس أولادنا ترتبط بعقيدتهم وليس بزمان أو مكان أو أشخاص. فالمعيار هو الدين وتحته تندرج طاعة الوالدين، احترام الآخرين، الصدق في التعامل، والمواجهة وعدم الخوف والجُبن في أي موقف يتعلق بحياتهم.

IMG-20220828-WA0017.jpg
عائلة السيدة ندى الجيوسي في حفل تخرج ابنتها شذى

وعن اعتقال شذى نخصص سؤالًا له علاقة باعتقال الفتيات وما إذا كان خوف الأهل مضاعفًا حينها؟ تجيب أم عبيدة: "نحن تحت احتلال الكل فينا معرض للاعتقال سواء شاب أو فتاة أو كبير أو صغير. ولكن لا أُخفي أن اعتقال الفتاة له أثره ووقعه الخاص، خاصة عندما تكون ابنة. ورغم الألم استودعناه الله ودعمناها في سجنها وبعد سجنها. فهي بالنهاية سلكت طريق الأحرار، وسجنها ضريبة لهذا الطريق ونحن نفخر بذلك".

‎وعن اعتقال زوجها وتربية الأبناء ومواجهة التحديات في غيابه تقول: "تجربتي مع الاعتقال بدأت في التسعينيات. كنت في بداية حياتي الزوجية واعتُقل زوجي أبو عبيدة أكثر من مرة، حيث بلغت اعتقالات أبو عبيدة ما يقارب الـ 10 سنوات أو أكثر قليلًا متفرقة. وأكثرها اعتقالات إدارية، وبعضها كان اعتقالات عند أجهزة السلطة.

5-2.jpg

في ذلك الوقت كانت معاناتي هي السجن وزيارات السجن والقيام بشؤون المنزل وتربية الأولاد. لم يكن أمرًا سهلًا، لكن كنت أستمد العون في كل مرة من الله. وأن هذا الأذى وهذه المعاناة أجرها عند الله كبير، فنحن أصحاب دعوة وأصحاب مبدأ وأصحاب رسالة، وهذه المعاني تستلزم منا التضحية والعطاء والصبر. وتخطينا بعون الله ورحمته أيامًا قاسيات وسنين صعاب، وحرصنا على أن ننشئ أولادنا وأن نغرس فيهم حب العقيدة وحب هذا الدين العظيم، وحب الوطن الذي هو جزء من عقيدتنا".

وكيف علمت أولادك حب الأقصى والوطن، تجيب: "اصطحبناهم إلى الأقصى في طفولتهم يتفيؤون ظلال أشجاره، يسرحون في ساحاته ويصغون إلى صوت الآذان. كل ذلك كان ممزوجًا بحب مسرانا، وأن رسولنا من هنا عرج إلى السماء. وكبُر الصغار وكُبر حب الوطن والمسرى في قلوبهم، وساروا على ذات الدرب التي سار عليها والدهم. وتوالت طرقات الاحتلال على بابنا الذي ما ترنح ولا استسلم وأصبح المطلوب هم الأبناء."

| الأبناء في قبضة الاحتلال

1-10.jpg
ندى الجيوسي وأولادها وزوجها القيادي ماجد حسن

وعن اعتقالات أبنائها وشعور الأم في تلك اللحظات وبعدها تقول أم عبيدة: "بدأ مسلسل اعتقال الأبناء مبكرًا، وحتى اللحظة ما زلنا نكابد السجن والسجان؛ فمحمد وعبد المجيد ما يزالان يقبعان في أقبية عوفر. أحدهم محكوم إداريًا والآخر ينتظر وما وهنت العزيمة الحمدلله.

"أما أشد الاعتقالات وقعًا على نفسي اعتقال ابنتي شذى، أولًا لخصوصية الفتاة، وثانيًا كأم جربت الاعتقال كان صعبًا عليَّ أن تخوض شذى هذه التجربة التي خضتها. طبعًا وفي فترة وجود شذى في الأسر لم تكن هناك وسيلة لدعمها والوقوف معها بعد اللجوء إلى الله والدعاء لها بأن يحفظها ويرعاها. كان تواصلي معها عبر الإذاعات الخاصة بإيصال رسائل أهالي الأسرى إلى الأسرى في سجونهم، وكنا دائمًا نحرص أن نسمعها ورفيقاتها أنهن حاضرات في القلب، أنهن حُرات رغم القيد، أنهن فخر هذا الوطن، وأن أيام السجن ستنقضي بعون الله، وأن الصبر والاستعانة بالله هي سلاح المؤمن."

7.jpg

وبفضل الله خرجت شذى قوية صلبة وقد أضاف السجن إلى تجربتها عمقًا بعيدًا في الخروج من دائرة الذات إلى الإحساس بالآخرين وتبني همومهم وتحسس أوجاعهم. يشرفني أن أجد أبنائي في هذا الطريق وأن يكون هم الوطن همهم، وخدمة زملائهم الطلبة من أولوياتهم. فالإنسان عندما يتجرد من ذاته تنصقل شخصيته وتنضج أفكاره والإنسان الذي يعطي ويقدم، يفوق إحساسه باللذة إحساس الإنسان الذي يعيش لذاته.

وهذه نصيحتي الدائمة التي كانت لأبنائي بأن يتركوا أثرًا طيبًا أينما حلوا في جامعتهم، في اعتقالهم، بين أصدقائهم. وكان يبرد نار الشوق وحر السجن عندما يخرج أسير ويسأل زوجي عن أحوال أبنائنا فيكون الرد: "حُقَ أن تفخر بأبنائك". الحمد لله كنا دائمًا نصوغ ما يجري حولنا من أحداث الاعتقال والمضايقات، أن هذه هي ضريبة وجودنا في أرض الرباط، وأن هذا الأمر نؤجر عليه وأن هذا هو درب الحق، فلا مجال للجزع والتبرم.

8.jpg

ما زلت أذكر في إحدى المرات أن ابني عبد المجيد، حين كان صغيرًا، رفض أن يذهب إلى الروضة وعندما سألته ما السبب وما الذي تريده؟ فأنا فعلت لك كل شيء؛ حاجياته وسندويشته ومصروفه وألعابه وأظن هذا ما يلزم طفل الروضة. فإذا به يباغتني بما لم يخطر على بالي حينها "بدي بابا يوصلني على روضة مش أنتِ". فتحول غضبي إلى ألم اعتصر قلبي، فكيف أترجم لهذا الصغير معنى السجن الذي يحول بين تلبية هذه الرغبة. ودارت الأيام وكبر عبد المجيد وها هو يقارع السجن والسجان وحال بيني وبينه زجاج سميك، وأنا اليوم مثله عندما كان صغيرًا أريده وأريد أن أحضنه وأشم رائحته عن قُرب".